المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

أميركا وحاجتها إلى إندونيسيا في المنافسة مع الصين

عندما التقى الرئيس الأميركي جو بايدن نظيره الإندونيسي، #جوكو_ويدودو ، الشهر الماضي في #غلاسكو باسكوتلندا، أشاد بالقيادة «الضرورية» لإندونيسيا في منطقة المحيطين الهندي والهادي، و«الالتزام الراسخ» من جانبها بالقيم الديمقراطية.

ومع ذلك، فإنه على أرض الواقع، اتسم التفاعل الأميركي مع ثالث أكبر دولة ديمقراطية في العالم من حيث عدد السكان، بالفتور أكثر مما تشير إليه هذه التصريحات الدافئة، الأمر الذي لا يتناسب مع مكانة إندونيسيا كقوة رائدة في جنوب شرقي آسيا وقوة موازنة حيوية في المنافسة الجيوسياسية المستعرة حالياً بين الولايات المتحدة والصين.

الملاحظ أن إدارة بايدن قضت جزءاً كبيراً من عامها الأول في البيت الأبيض في حشد الدعم بين الحلفاء والشركاء الذين يشاركون واشنطن مخاوفها حيال بكين، لكنهم أصيبوا بخيبات متتالية على امتداد السنوات الأربع التي أمضاها دونالد ترمب في الرئاسة. وبدت فترة الطمأنينة تلك مهمة وضرورية، ومع ذلك فإنه إذا كان الهدف الحقيقي للمنافسة الاستراتيجية مع الصين ضمان «استمرار منطقة المحيطين الهندي والهادي حرة ومفتوحة» – بدلاً من السعي وراء المنافسة من أجل المنافسة فحسب – فإن الولايات المتحدة لن يكون بمقدورها الاعتماد على عدد قليل من الأصدقاء السريعين الذين يشاركونها رؤيتها للعالم.

اليوم، تحتاج واشنطن إلى الاقتراب من الدول التي تتخذ موقف عدم الانحياز، وفي بعض الأحيان المشاكسة، من جانب القوى الناشئة، مثل إندونيسيا ومساعدتها على أن تقلل اعتمادها على الصين.

الملاحظ أن إندونيسيا، التي يبلغ عدد سكانها 275 مليون نسمة، تحرص بشدة على الحفاظ على استقلاليتها في الشؤون الدولية، خاصة أنها تعي جيداً كيف يمكن أن تكون التدخلات الأجنبية مدمرة من الحكم الاستعماري إلى الانقلابات العنيفة والانتفاضات التي دعمتها واشنطن في خمسينات وستينات القرن الماضي.

ولذلك، أقرت إندونيسيا سياسة خارجية «مستقلة ونشطة» بعد إعلان استقلالها عن هولندا عام 1945. وما تزال ترفض الدخول في تحالفات مع أي قوى أخرى، بجانب كونها عضواً ملتزماً في حركة عدم الانحياز وتتفاعل بغضب مع ما تعتبره خرقاً لسيادتها.

وعلى مدى عقود، تأرجحت العلاقات بين إندونيسيا والولايات المتحدة. وجدير بالذكر هنا أن الولايات المتحدة أنهت فترة طويلة من المواجهة مع أحمد سوكارنو، الرئيس المؤسس لإندونيسيا، من خلال دعم الإطاحة به ودفع صعود سوهارتو، وهو جنرال قليل الكلام حكم البلاد كديكتاتور طوال 32 عاماً حتى عام 1998. إلا أن الحكومة الإندونيسية غضبت من واشنطن لأنها شعرت أن الرئيس بيل كلينتون قد ضغط على إندونيسيا لقبول خطة إنقاذ عام 1998 بدت لها أقرب إلى عقاب، ودعم لاحقاً عقد استفتاء حول استقلال تيمور الشرقية.

اليوم، تحتفظ إندونيسيا بعلاقات وثيقة مع خصمي الولايات المتحدة، روسيا وإيران، بجانب أنها ترتبط بعلاقة متنامية مع الصين. وفي عهد الرئيس جوكو، المعروف باسم جوكوي، أصبحت الصين واحدة من أكبر المستثمرين في إندونيسيا، خاصة أنها أنفقت مليارات الدولارات على الطرق السريعة الجديدة ومحطات الطاقة وخط السكك الحديدية الفائقة السرعة. علاوة على ذلك، أمدت الصين إندونيسيا بنحو 80 في المائة من لقاحات فيروس «كوفيد – 19».

وفي الوقت الذي تتعاون فيه إندونيسيا مع الولايات المتحدة في البرامج العسكرية ومكافحة الإرهاب والتنمية، يساورها القلق كذلك بشأن المبادرات الأمنية الأميركية الجديدة في المنطقة – مثل «أوكوس»، التي تهدف إلى إمداد أستراليا المجاورة بغواصات تعمل بالطاقة النووية.

ويبدو الآن الوقت المثالي لواشنطن وحلفائها لجذب إندونيسيا. ولا ينبغي أن يكون الهدف إقصاء إندونيسيا عن الصين، وإنما دعم خطط جوكو للتنمية الاقتصادية والاجتماعية – خاصة أنه يتطلع إلى ترسيخ إرثه قبل أن يتنحى عام 2024 – ومعاونة البلاد على أن تصبح قطباً بديلاً قادراً على تحدي الشعور المتزايد داخل آسيا بأن الصين وحدها تملك مفاتيح مستقبل المنطقة.

حتى هذه اللحظة، أظهرت واشنطن طموحاً محدوداً تجاه تعزيز العلاقات مع إندونيسيا. ورغم التحذيرات حيال النفوذ الاستراتيجي المتزايد لبكين لدى جاكرتا، فإنها لم تحقق حتى اليوم ثقلاً اقتصادياً كبيراً هناك.

من ناحية أخرى، فإن تعزيز العلاقات مع الصين لا يعني بأي حال أن جوكو يختار الانحياز إلى جانب معين في إطار المنافسة الدائرة على مستوى القوى العظمى، وإنما يتعامل مع السياسة الخارجية على النحو الذي ينتهجه مالك مصنع للأثاث أو رئيس بلدية اعتاد أن يكون على استعداد للتعاون مع أي شخص يمكنه مساعدته في تحقيق الأهداف الأساسية له، مثل تعزيز الاقتصاد.

من ناحيته، أخبرني كيرت كامبل، الذي يقود السياسة الأميركية تجاه منطقة المحيطين الهندي والهادي داخل البيت الأبيض، ذات مرة أنه إذا صنفنا البلدان الأكثر أهمية للولايات المتحدة ولكن من بين أقل الدول التي تفهمها واشنطن، فإن إندونيسيا ستأتي في المرتبة الأولى بالتأكيد.

تجدر الإشارة إلى أن إندونيسيا تعد رابع أكبر دولة في العالم من حيث عدد السكان، وتضم أكبر عدد من المسلمين في العالم وهي أيضاً وأكبر دولة أرخبيل في العالم.

وفي خضم قائمة طويلة من القضايا الداخلية وتحديات السياسة الخارجية التي يجب معالجتها، يبدو أن إندونيسيا تتراجع عن جدول الأعمال مرة أخرى، حتى مع شروع إدارة بايدن في تعزيز اهتمامها بمنطقة جنوب شرقي آسيا.

جدير بالذكر هنا أن التوجيه الاستراتيجي المؤقت لسياسة الأمن الوطني الذي أصدره الرئيس بايدن في مارس (آذار)، ذكر صراحة كلاً من سنغافورة وفيتنام، اللتين تدعمان جهود الولايات المتحدة للتصدي للصين، باعتبارهما شريكين مهمين في جنوب شرقي آسيا، بينما لم يرد ذكر إندونيسيا.

وعندما زارت نائبة الرئيس كامالا هاريس ووزير الدفاع لويد أوستن جنوب شرقي آسيا في وقت سابق من هذا العام، في رحلتين منفصلتين، تجاوزا إندونيسيا – الأمر الذي وصفته صحيفة «جاكرتا بوست»، الصحيفة الإنجليزية الأولى في البلاد، بـ«الازدراء».

النبأ السار هنا أن جوكو لا يحمل، على ما يبدو، أي ضغينة. وأثناء كتابة أول سيرة ذاتية سياسية له بالإنجليزية، شاهدته يعمل مع الجميع للحصول على ما يريد؛ من الباعة المتجولين في الشوارع إلى المليارديرات إلى الدعاة الدينيين المتشددين.

وبالنظر إلى ما سبق، تبدو زيارة وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى جاكرتا، بمثابة تصحيح للمسار نحن في أمس الحاجة إليه. ومع ذلك، تظل الحقيقة أن رحلة واحدة لا تبني علاقة، خاصة عندما يكون للوزراء الصينيين اتصالات وجهاً لوجه أكثر انتظاماً مع نظرائهم الإندونيسيين. لذلك، يجب أن تستغل إدارة بايدن هذه الزيارة لبدء حملة جهود مستمرة لتقريب المسافات بين واشنطن وثالث أكبر ديمقراطية في العالم.

مقال لـ بِن بلاند

اترك تعليقا