المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

أوكرانيا ـ حيرة الغرب ولعنة الجغرافيا

طبول الحرب تدق من جديد بين روسيا وأوكرانيا في لعبة بوكر روسية جديدة بطلها الرئيس الروسي فلادمير بوتين في تحد واضح للغرب الذي يسعى، عبر التلويح بالعقوبات، لزيادة تكلفة أي مغامرة عسكرية على غرار ما حدث في جورجيا والقرم.

تصاعدت التحذيرات الغربية لموسكو من مغبة قيامها بأي عمل عسكري لا تحمد عقباه في أوكرانيا. فسواء تعلق الأمر ببرلين أو واشنطن أو بروكسيل، فالخطاب هو نفسه الموجه للرئيس الروسي فلادمير بوتين، الذي يطالب بمحادثات “فورية” وبضمانات تسمح بـ”منع التوسّع المستقبلي للحلف (الناتو) نحو الشرق أو نشر منظومات أسلحة تهدّد روسيا انطلاقا من الأراضي الأوكرانية وفي دول أخرى مجاورة”. كما طلب في لقاء عبر الفيديو، نظيره الأمريكي جو بايدن بالتزامات قانونية بهذا الشأن. وتعتبر موسكو أن الغرب انتهك وعودا إثر انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت تقتضي بعدم توسيع حدود الناتو لتشمل دول أوروبا الشرقية والجمهوريات السوفياتية السابقة.

وترفض الدول الغربية استبعاد توسع الناتو شرقا، فيما تصر موسكو على أنها لن تقبل انضمام كييف  للحلف وتعتبر ذلك “خطا أحمر”. يذكر أن روسيا تعتبر الداعم السياسي والاقتصادي والعسكري الرئيسي للانفصاليين الموالين لها والذين يخوضون حربا ضد القوات الأوكرانية منذ نحو ثماني سنوات. وازداد قلق الدول الغربية بعد شكوكها بشأن تحضير روسيا لغزو جديد لأوكرانيا بعد نشرها لعشرات الآلاف من جنودها مدججين بمختلف أنواع الأسلحة على طول الحدود بين البلدين. غير أن موسكو تؤكد أنها هي المهددة في أمنها القومي.

موقع “شبيغل أونلاين” (14 ديسمبر/ كانون الأول 2021) نقل عن صحيفة لاريبوبليكا الإيطالية تصريحا للرئيس الأوكراني فولوديمير سيلينسكي، أفاد فيه بأن جهود الردع الغربية لم تسفر عن أي نتائج لحد الآن. وأضاف “نحن ممتنون للدعم، لكن هذه الجهود الجماعية في الوقت الحالي ليست كافية لتغيير سياسة موسكو”. وبالفعل ورغم الجهود الدبلوماسية المكثفة لم يتغير أي شيء على طول الحدود الروسية الأوكرانية، ولم يعطِ الرئيس بوتين أي إشارة تنم عن استعداده لوقف التصعيد ولو قيد أنملة.

معضلة أوكرانيا أن الجغرافيا فرضت أن تكون ضحية دوامة لا متناهية، فكلما استعانت بالمظلة الأطلسية زادت التهديدات الروسية لها. فموسكو تعتبر توسيع حلف الناتو شرقا، تهديدا لأمنها القومي على غرار التهديد الكوبي للولايات المتحدة إبان الحرب الباردة. البرلمان الأوكراني صوت (الثلاثاء 14 ديسمبر/ كانون الأول) لصالح تمديد تواجد قوات حلف شمال الأطلسيعلى الأراضي الأوكرانية في رد على الحشود العسكرية الروسية. ويسمح القانون الجديد بانتشار نحو أربعة آلاف من قوات الناتو في أراضي البلاد، ومن بينهم 2000 أمريكي، خلال عام 2022، وهو نفس العدد الذي تمت الموافقة عليه بالنسبة لعام 2021، كما سيتم زيادة عدد طائرات ومروحيات الناتو من عشرة إلى أربعين خلال العام المقبل. ويسمح هذا القانون بزيادة عدد سفن دول الناتو في المياه الإقليمية الأوكرانية إلى عشرين سفينة. ومن المقرر أيضا إجراء تسع مناورات عسكرية بمشاركة قوات أجنبية خلال العام المقبل. وتوفر قوات الناتو تدريبات للجيش الأوكراني منذ عام 2015، لمساعدته في صد الانفصاليين المؤيدين لروسيا والذين يسيطرون على مساحات واسعة في شرق البلاد.

وحسب تقديرات الأمم المتحدة، لقي نحو 13 ألف شخص حتفهم خلال الصراع الذي استمر على مدار ثماني سنوات، ورغم التوصل إلى خطة سلام، إلا أنه لم يتم تنفيذها حتى الآن. ومنذ أن فرضت روسيا سيطرتها على شبه جزيرة القرم عام 2014، تعتبر كييف نفسها في حرب مع موسكو، ولهذا السبب، جعلت أوكرانيا الانضمام إلى الناتو هدفا لها ينص عليه الدستور منذ عام 2019. غير أن الدستور ذاته يحظر على الجيوش الأجنبية إقامة قواعد لها على الأراضي الأوكرانية. وتشير مصادر حلف شمال الأطلسي إلى أن روسيا حشدت ما بين 75 ألف إلى 100 ألف جندي قرب الحدود الأوكرانية خلال الأسابيع الأخيرة. وبهذا الشأن كتب موقع صحيفة “بيلد” الشعبية الألمانية الواسعة الانتشار (14 ديسمبر/ كانون الأول) “عليك أن تتخيل (التهديد الروسي) عمليا: أكثر من مائة ألف جندي روسي جاهزون على الحدود لمهاجمة أوكرانيا. الرئيس فلاديمير بوتين يكذب وينتقد بشدة ويهدد بأسلحته النووية. والحقيقة هي أن هناك معتد واحد واسمه فلاديمير بوتين. لم تتعرض أوكرانيا للتهديد من قبل الاتحاد الأوروبي أو الناتو بل من قبل روسيا”.

وضع الناس على الحدود في ظل أزمة روسيا وأوكرانيا

مأساة أوكرانيا تكمن أيضا في عدم إحساسها باستعداد الدول الغربية لحمايتها بما يكفي، حيث تنتقد العراقيل التي توضع أمام رغبتها في الانضمام إلى الناتو أو تزويدها بمنظومات أسلحة متطورة. الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينكسي وفي نفس الحوار لصحيفة لاريبوبليكا المشار إليه أعلاه، اتهم بشكل خاص ألمانيا التي تمنع حسب رأيه، تسليم بلاده أسلحة دفاعية. وقال موضحا “منعتنا ألمانيا مؤخرًا من الحصول على شحنات بنادق مضادة للطائرات المسيرة وأنظمة مضادة للقنص في إطار (التعاون مع) حلف شمال الأطلسي، وهي أسلحة دفاعية بحتة”.

أوكرانيا ـ اختبار جديد للعلاقات الألمانية الروسية

في آخر تحرك تجاه الأزمة الأوكرانية، حذرت برلين على لسان وزيرة خارجيتها، أنالينا بيربوك، موسكو في اتصال هاتفي مع نظيرها الروسي سيرغي لافروف، من مغبة المساس بوحدة الأراضي الأوكرانية. وأكدت القيادية  في حزب الخضر أن ألمانيا “تريد تبادلا صادقا ومفتوحا (لوجهات النظر)”، وألمحت إلى ضرورة تحقيق تقدم في إطار مبادرة نورماندي التي تتوسط من خلالها كل من ألمانيا وفرنسا بين روسيا وأوكرانيا بشأن الأزمة بين البلدين في منطقة دونباس منذ عام 2014. من جانبها، أعلنت الخارجية الروسية أن لافروف طالب في محادثاته مع بيربوك، الغرب بتقديم ضمانات أمنية وقانونية بعدم توسع حلف شمال الأطلسي (ناتو) في شرق أوروبا وعدم تمركز البنية التحتية للحلف الغربي بالقرب من الحدود الروسية.

بتوقيت برلين – جيوش بوتين على حدود أوكرانيا: أين الغرب؟

وتتعرض العلاقات بين برلينوموسكو لهزات متتالية تضع ألمانيا في موقع لا تحسد عليه. فهي من جهة حريصة على حد أدنى من العلاقات الجيدة مع شريك مهم من حيث “أمنها الطاقي” ولكن أيضا من حيث دوره المتزايد في عدد من ملفات السياسة الدولية. ومن جهة أخرى تتعرض لضغوط من شركائها الغربيين وعلى رأسهم واشنطن التي تلوح بفرض عقوبات قاسية للسيطرة في حال تجاوزت موسكو الخطوط الحمراء، عقوبات تعول فيها الولايات المتحدة على ألمانيا والاتحاد الأوروبي بشكل عام، فحلفاء الناتو في أوروبا يمثلون شركاء تجاريين مهمين ومراكز مالية بالنسبة لروسيا. وتصطدم برلين مع موسكو في عدد من الملفات منها على سبيل المثال لا الحصر، هجمات قراصنة  روس على البرلمان الألماني في عام 2015 أو الهجوم على المعارض الروسي البارز ألكسي نافالني بمادة نوفيتشوك الكيماوية وهو الأمر الذي أثبته مختبر تابع للجيش الألماني العام الماضي. وبهذا الشأن علقت شبكة التحرير الألمانية “إر.إن.دي” (السابع من ديسمبر/ كانون الأول) وكتبت “نشرت روسيا على الحدود مع أوكرانيا عشرات الآلاف من جنودها وعتاد كالدبابات والطائرات. يمكن أن يكون الأمر مجرد خدعة، أو تهديد عبر لعبة استعراض العضلات أو تكتيك خالص. لكن حتى لو كان الأمر كذلك، فإن خطر الحرب لا يمكن استبعاده تماما. يمكن للخداع أن ينفلت بسرعة لخطأ ما في أي لحظة”.

“نوردستريم 2” سلاح أم فخ في يد ألمانيا

كلما تأزمت العلاقة بين الغرب وروسيا، عادت قضية خط أنابيب الغاز الطبيعي “نورد ستريم 2” إلى الواجهة، بشكل يضع كل مرة ألمانيا تحت الضغط. ولا شك أن واشنطن ستكون حريصة على وفاء برلين بالتزاماتها بشأن هذا الملف الحساس. بموجب اتفاق تسوية أبرمته ألمانيا مع الولايات المتحدة تعهدت برلين بدعم أوكرانيا. ولا شك أن الكرملين قد سجل تغير لهجة وزيرة الخارجية الألمانية الجديدة أنالينا بيربوك وصرامتها تجاه موسكو بشكل عام، وموقفها الرافض لخط أنابيب “نورد ستريم 2” في شكله الحالي. وفي لقاء مع القناة الثانية للتلفزيون الألماني (الأحد 12 ديسمبر/ كانون الأول) أكدت بيربوك أن أحزاب ائتلاف “إشارة المرور” اتفقت على أن قانون الطاقة الأوروبي سيسري على مشاريع الطاقة” وهذا يعني عمليا أن خط “نوردستريم 2″ وفقا للوضع الحالي لا يمكن الموافقة عليه لأنه لم يستوف مقتضيات قانون الطاقة الأوروبي، كما أن المسائل المتعلقة بالسلامة لا تزال مطروحة للنقاش”.

الجدل حول مشروع نوردستريم 2 للغاز الروسي

غير أن العقوبات الاقتصادية سلاح ذو حدين وفق صحيفة “نويه تسوريخه تسايتونغ” (12 ديسمبر/ كانون الأول) الصادرة في سويسرا والتي كتبت تقول إن “وراء العقوبات الاقتصادية يلوح في الأفق أيضا الخيار النووي: فهل سيتم إقصاء روسيا من نظام الدفع بالدولار؟ الأمريكيون سيفكرون مرتين قبل الإقدام على هذه الخطوة التي ستضر بروسيا، لكنها ستجبرها أيضًا على البحث عن بدائل. على سبيل المثال جارتها الشرقية الصين التي تتمتع بعملة مستقرة للغاية وتقدم حاليًا نسخة رقمية من اليوان، بهدف طويل الأجل يتمثل في ترسيخ عملتها في التجارة أيضًا. الدولار قوي لأن الكثير من مناطق العالم تعتمد عليه. ومع ذلك، فإن دوره كأهم عملة تداول عالمية ليس معطى إلهيا. الولايات المتحدة تعيش على الائتمان. ولأنها تملك عملة عالمية بامتياز، فهذا ما يمكنها من تمويل عجزها بثمن بخس”.

وزيرة الخارجية الألمانية بيربوك لم تتردد في تهديد روسيا بعواقب اقتصادية قاسية في حال هاجمت أوكرانيا. جاء ذلك في أعقاب مشاورات لوزراء خارجية الاتحاد الأوروبي (الاثنين 13ديسمبر/ كانون الأول)، مؤكدة أن دول التكتل ستتبنى موقفا مشتركا في حال حدوث عدوان روسي جديد. وأضافت بيربوك أن الاتحاد الأوروبي يتضامن بشكل كامل مع أوكرانيا وحذرت من “عواقب دبلوماسية واقتصادية قاسية”، وتابعت القول بأن سيادة أوكرانيا غير مطروحة للنقاش. وبهذا الصدد كتب موقع دويتشه فيله في نسخته الألمانية (السابع مم ديسمبر/ كانون الأول) “لحماية أوكرانيا، يجب على ألمانيا وحلفائها الآخرين أن يفهموا أن العدوان الروسي لا يقتصر على الدبابات والقوة العسكرية. فالأعمال العدائية التي يشنها الكرملين ضد أوكرانيا جزء من نموذج أوسع لحرب تشمل قطاعات الطاقة والمال والاقتصاد. فروسيا لا تتردد في استعمال الغاز وبشكل متكرر كسلاح سياسي”. صحيفة هاندلسبلات” الاقتصادية (الثامن من ديسمبر/ كانون الأول) كتبت معلقة ” خط أنابيب الغاز نوردستريم 2، خطأ فادح للسياسة الخارجية في عهد المستشارة أنغيلا ميركل. غير أن هذا الأنبوب قد يكتسب اليوم وظيفة إيجابية غير متوقعة: أن يصبح أداة للضغط على بوتين”.

سيناريو المغامرة ـ رفع تكلفة الحرب لردع بوتين

يرى عدد من الخبراء أن سيناريو الحرب بين روسيا وأوكرانيا لا يزال نظريا لحد الآن على الأقل. وفي حال تحقق فسيشكل أحد أكبر الانتكاسات للسلام في أوروبا ما بعد الحرب العالمية الثانية. ورغم أن موازين القوى العسكرية تميل بشكل واضح لروسيا، ليس فقط من حيث القوة العسكرية التقليدية، ولكن أيضا باعتبارها قوة نووية معترف بها دوليا. غير أن أوكرانيا تعتبر بدورها قوة عسكرية إقليمية لا يستهان بها. وبهذا الصدد أوردت وكالة الأنباء الألمانية (13 ديسمبر/ كانون الأول) وجهة نظر خبير الشؤون السياسية الألماني أندرياس أوملاند” من مركز ستوكهولم لدراسات أوروبا الشرقية” بالمعهد السويدي للشؤون الدولية، وذلك في تقرير نشرته مجلة “ناشيونال انتريست الأمريكية”، اعتبر فيه أن أوكرانيا “أسست على مدار الأعوام السبعة الماضية، جيشا تقليديا هائلا ومحنكا.

فالقوات الأوكرانية مجهزة جزئيا، بأسلحة حديثة ذات تقنية عالية تم انتاجها في أوكرانيا وخارجها. كما سيتم دعمها بالمزيد من الأسلحة والمعلومات الاستخباراتية الغربية، في حال واجهت أي تصعيد من الجانب الروسي. وبالتالي، فإنه من غير الواضح ما إذا كان من الممكن لروسيا أن تحقق النصر على أوكرانيا سريعا وبسهولة، مثلما فعلت مع جورجيا في الحرب الروسية الجورجية التي استمرت لمدة خمسة أيام في آب/ أغسطس من عام 2008″.

ويرى الخبير الألماني أن المغامرات العسكرية السابقة لنظام الرئيس بوتين زادت من شعبيته في روسيا، كما زادت من عداء الروس تجاه الغرب. ويشير هنا بذلك إلى احتلال روسيا لخُمس مساحة جورجيا في عام 2008، ثم ضم شبه جزيرة القرم في عام 2014. غير أن رد فعل القوى الغربية كان فرض عقوبات لا تزال روسيا تعاني منها إلى اليوم. يشير الخبير إلى أن العلاقات بين الجانبين سجلت تحسنا بعد المغامرة العسكرية الروسية في جورجيا. ويتساءل “ماذا يمكن أن تفعل أوكرانيا في ضوء الدروس التي قد تكون موسكو تعلمتها من مغامراتها في عامي 2008 و2014؟”. وخلص إلى أن العوامل التي حددت السلوك الروسي في السابق وستحدده في المستقبل ستكون التكاليف النسبية للتصعيد العسكري، وتقييم المواطنين الروس لتلك التكاليف. وتسعى القوى الغربية للتلويح بعقوبات اقتصادية “قاسية” علها تردع الرئيس بوتين عن الإقدام على مغامرات مماثلة لتلك التي قام به في جورجيا والقرم. وبهذا الصدد يجري الاتحاد الأوروبي محادثات مع الولايات المتحدة وبريطانيا حول إمكانية وشكل العقوبات المالية على روسيا في حال تجرأت وشنت هجوما على أوكرانيا.

لـ حسن زنيند

المصدر DW

اترك تعليقا