المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

الانتخابات الرئاسية الفرنسية 2022 (3/3): منافسة على رئاسة الجمهورية أو على رئاسة الوزراء؟

تبقى ليلة 21 نيسان 2002 وتأهّل الجبهة القومية إلى الدور الثاني عنصر أساسي في #الانتخابات الرئاسية الفرنسية، كما ذكرنا في الجزء السابق، ومحدّد لخيارات الكثير من الناخبين منذ الدورة الأولى من خلال التصويت المعروف بالتصويت المفيد Vote utile. أضيف إليها هذه المرة ثابتة ثانية ألا وهي صلابة القاعدة الانتخابية للرئيس، بالرّغم من تراجع شعبيّته، وتمحور الانتخابات ضدّ سياسته من قبل باقي المرشّحين. نسبة الناخبين الذين عبّروا عن نيّتهم التصويت للرئيس تراجعت نقطتين في اليومين الأخيرين، ممّا أعطى أملاً أكبر لمنافسيه. ولكن يبقى حاصله حتى السّاعة هو الأعلى بين كلّ المرشحين، ممّا سيفرض ماكرون تلقائياً رئيساً إذا ما تأهّل إلى الدور الثاني في وجه أيّ مرشّح آخر. على الأقلّ، هذا ما يبدو، وهذه هي استراتيجية وتمنيات فريقه. فالمرشّحان الأقرب إليه، حسب الإحصاءات، هما مرشّح يسار اليسار، ميلونشون، ومرشّحة أقصى اليمين، #مارين لوبن. تأهّل الرئيس مع أحدهما سيقوّي لعبة الخيار العقلانيّ المفيد لا الخيار الأفضل. يُصبح المنطق: نصوّت لاستبعاد فلان، ولا نصوّت لنختار فلاناً Voter pour éliminer et pas pour choisir un candidat. 

 قواعد اللعبة هذه، التي كرّست في العمليات الانتخابية منذ 2002، لا بل انتقلت كمحدّد للتصويت في الدورة الثانية، لتكون محدّداً لخيارات الناخبين منذ الدورة الأولى للانتخابات؛ وهذا ما يجعل التوقّعات الإحصائية أكثر خطورة وتأثيراً على اتجاهات الرأي العام. في هذا الجزء من المقال، سيُصار إلى محاولة فهم الاتجاهات الكبرى لهذه الانتخابات مع عرض لبعض السيناريوهات المتوقعة في الدور الأول وما بين الدورين. منذ انتخابات 2017 هناك اتجاهات لا تنفكّ تترسّخ في المشهد السياسي والانتخابي الفرنسي. أولاً، نسبة المقاطعة ونسبة المتردّدين (ثلث الناخبين) في خياراتهم. ثانياً، دينامية توسّع الوسط والوسطيين على حساب الحزبين التاريخيين، الاشتراكي والجمهوري، مع ذهاب الوسط أكثر نحو الليبرالية مع الرئيس ماكرون. ثالثاً، توسّع قاعدة يمين اليمين وأقصى اليمين الذي تعبّر عنهما أفكار الجبهة القومية (من 17% تقريباً في 2002 إلى 33% في هذه الانتخابات، إذا ما أضفنا أصوات زمور، ودون أن نحتسب انتشار هذه الأفكار في أوساط الوسط واليمين التقليدي، خاصّة بعد تراجع شيطنة ناخبيه في السنوات الأخيرة). ورابعاً وأخيراً، إعادة تشكّل اليسار مع حزب جان لوك ميلونشون La France insoumise على حساب الأحزاب اليسارية التقليدية ودون التحالف معها. يبدو أن لا جديد في النقطة الأولى؛ أما الثانية، فإن الرئيس يحمل في رصيده خمس سنوات صعبة، وحملة انتخابيّة قصيرة، قد تنعكس عليه سلباً. لكنّه مع فشل الحزب الجمهوري والحزب الاشتراكي في إعادة إنتاج نفسيهما، فإن يسار الوسط ويمين الوسط ليس لديهما خيار إلا التصويت للرئيس في هذه المرحلة. في ما يخصّ الاتجاه الثالث، فإن أفكار أقصى اليمين حول الهويّة، والهجرة، وأوروبا والعولمة لا تنفك تنتشر في الأوساط الشعبية، وفي الأرياف، وضمن بعض شرائح الطبقة الوسطى الوطنية والديغولية المحافظة. هذه الأفكار يُعبّر عنها اليوم من خلال صفة السياديين souvrenistes مع استعمال أقلّ للصفة القومية أو الوطنية Nationalistes كما كانت الحال في السنوات السابقة. توسّع قاعدة أقصى اليمين في السنوات الأخيرة مهّد له مثقفون مثل ميشال أونفري والمرشّح زمور نفسه، بالإضافة إلى ميشال ويلبك في كتاباتهم وإطلالاتهم التلفزيونية. كلّ واحد من منطلقاته الفكريّة ساهم في تلطيف وإغناء مقاربات أقصى اليمين، بالإضافة إلى تبنّي زعيمة التجمع القومي، مارين لوبن، لخطاب أكثر ديبلوماسيّة تُجاه أوروبا، مع مقاربات أكثر جديّة في المجال الاقتصادي. كلّ ذلك ساعد أقصى اليمين على أن يكون الناخب الأكبر، إذا ما جمعنا توقّعات التصويت لكلّ من زمور ومارين لوبن (نحو 33 إلى 34%). وبشكل عام، فإن مروحة أفكار المرشّحين الاثنين تدور في إطار أصبح معروفاً للجمهور والناخبين. أمّا في الاتجاه الرابع، فإن اليسار في مأزق من دون أن تكون فرصه معدومة. فمجموع ناخبيه الموزّعين على ستّ اتجاهات يصل فقط إلى الربع. على عكس فاعليته في الانتخابات المحليّة والأوروبية، يبدو أن الأفكار اليسارية على المستوى الوطني تعاني من تراجع تاريخيّ، سببه عوامل كثيرة لا يُمكن التطرّق إليها في هذا المقال. لنضع جانباً التصويت التروتسكيّ الذي أصبح هامشيّاً جدّاً (1%)، يبدو أن الخضر والاشتراكيين والشيوعيين لا يتعدّون في التصويت الـ12% مع تراجع ملحوظ لصالح ميلونشون في الآونة الأخيرة. إذن، ما الجديد؟ للمرة الثانية على التوالي، بعد انتخابات 2017، يغيّر ميلونشون المعادلات والتوقّعات من خلال حملته الانتخابية ضدّ اليمين وضدّ اليسار؛ ضدّ اليمين من خلال فرض أولويّات اقتصاديّة على النقاش الانتخابي (القدرة الشرائية، الضمان الاجتماعي، العمل والتربية)، وضدّ اليسار من خلال توحيد الشارع اليساري Gauche plurielle خلف برنامجه وقيادته. ولكنه لم يكتفِ بذلك. فميلونشون صاغ مشروعاً طموحاً ومتكاملاً يهدف إلى إعادة تشكيل اليسار الفرنسي والأوروبي بعد طغيان أفكار الاشتراكية الديمقراطية، بالإضافة إلى طرحه على بساط البحث دستوراً جديداً للذهاب إلى جمهورية سادسة. حيويته وأفكاره الخلاقة وتمكّنه من فنّ الخطابة عوامل سمحت له دائماً بتحدّي الإحصاءات والتوقّعات، وها هو اليوم يُلامس الـ17% في آخر الإحصاءات. لا مجال لعرض رؤيته وبرنامجه الذي حصل أحياناً على إعجاب بعض القيادات اليمينية (مشروعه للفضاء والطاقة والبحار والتموضع الجيوسياسيّ الفرنسيّ)، ولكن أعتقد أن نقطة قوّة برنامجه تأتي من مصالحة اليسار الفرنسيّ مع ثقافة الدولة العميقة والواقعيّة السياسية (الدفاع، والجيوسياسية، والتطور التكنولوجي) التي أراد منها مواجهة الصعود القوميّ Nationalisme بنموذج تاريخيّ محدث من الأفكار الوطنية Patriotisme، التي تسمح له بمحاكاة أفكار الوسط الفرنسي. نقطة ضعفه التي قد تكون قاتلة له هي استبعاده لموضوع الهجرة ومعالجة إشكاليّاتها بشكل مباشر وصريح. السؤال هو: هل ستصوّت جماهير الأحزاب اليسارية الأخرى له في اللحظة الأخيرة؟ وهل ستمكّنه من التأهل للدور الثاني وإحداث المفاجئة؟ لا احتياطات كثيرة إلا في جهة المقاطعين. والسؤال الآخر هو في حال وصوله إلى الدور الثاني أمام ماكرون أو لوبن، هل سيكون بمقدوره صياغة تحالفات أمام خريطة انتخابيّة بثلاثة أرباعها من اليمين؟ هناك شبه استحالة. إذا استبعدنا فشل الرئيس في التأهّل إلى الدورة الثانية، فالسؤال الثالث المطروح هو كيف يمكن للوبن التصرف في منافسة ماكرون في حال تأهّلها إلى الدور الثاني؟ أعتقد أن مهمّتها ستكون أسهل من ميلونشون في صياغة تحالفات مع زمور وقواعد اليمين التقليدي وبعض اليسار الوسطيّ الكارهين لماكرون. في كلّ الأحوال، ستكون هذه الانتخابات مفصليّة في تاريخ فرنسا، على وقع فكرتين مسيطرتين على النقاش العام، وهما الخوف من الصراع الأهلي ومن فقدان فرنسا لموقعها الاقتصادي La guerre civile et le déclassement. وإذا كان فوز الرئيس ماكرون Par défaut في ولاية ثانية، فإن هذه الانتخابات ستكون عبارة عن سباق لرئاسة الوزراء أمام التوقعات التي تشير جميعها إلى استحالة حزب الرئيس في الفوز بالأكثرية النيابية في الانتخابات البرلمانيّة المقبلة.

المصدر : النهار اللبنانية

اترك تعليقا