المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

السياق المحفز : كوريا الجنوبية في الشرق الأوسط الدوافع والأسباب

كشفت جولة رئيس كوريا الجنوبية “مون جاي إن” في منطقة الشرق الأوسط، خلال شهر يناير الماضي –التي شملت زيارة كل من الإمارات والسعودية ومصر– عن تصاعد الاهتمام الكوري بتطوير العلاقات مع دول الشرق الأوسط، وهو التوجه الذي يرتبط بعدد من الدوافع الرئيسية، خلقت ما يمكن تسميته بالسياق المحفز لصعود الدور الكوري؛ فعلى مدار عقود كانت سيول تنظر إلى المنطقة بوصفها شريكاً اقتصاديّاً وتجاريّاً هامّاً، لا سيما مع قدرتها على الترويج لمنتجاتها واستثماراتها في العديد من دول الشرق الأوسط، ناهيك عن كون المنطقة مصدراً هامّاً للطاقة بالنسبة إلى كوريا الجنوبية. علاوة على ذلك، فقد كانت كوريا الجنوبية حاضرة، بشكل أو بآخر، في عمليات التحول التي تشهدها دول المنطقة نحو تنويع مصادر التسليح والتوسع في عمليات التصنيع العسكري المحلي في أكثر من دولة بالمنطقة. ولا يمكن إغفال أن سياسة الانسحاب التي تبنتها واشنطن، في السنوات الأخيرة، تجاه قضايا المنطقة ربما يكون قد شكل محفزاً إضافيّاً لكوريا الجنوبية من أجل تعزيز دورها في المنطقة وتوظيف هذا الدور في دعم دبلوماسية القوة المتوسطة التي باتت تعتمد عليها سيول بصورة مكثفة.

أدوات رئيسية

اعتاد الخطاب السياسي الكوري، خلال السنوات الماضية، تأكيد أهمية منطقة الشرق الأوسط بالنسبة إلى سيول، وهي الأهمية التي تجلت في طرح مجموعة من الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية وتمديد الشراكة مع دول المنطقة في المجالات التكنولوجية وفي مجال التسليح والتصنيع العسكري. وعطفاً على هذا، يمكن القول إن السياسة الكورية تجاه الشرق الأوسط اعتمدت على عدد من الأدوات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– استثمار كوريا الجنوبية دبلوماسية القمة: حرصت سيول على توطيد علاقاتها بدول المنطقة من خلال الزيارات المكثفة للقيادة الكورية إلى دول المنطقة؛ فعلى سبيل المثال، زار الرئيس الكوري “مون جاي إن” أبوظبي في شهر مارس 2018، وهي الزيارة التي شهدت تدشين الشراكة الاستراتيجية الخاصة بين كوريا الجنوبية والإمارات، كما أعادت زيارة الرئيس الكوري “مون جاي إن” لكل من الإمارات والسعودية ومصر ، في شهر يناير الماضي، تأكيد أهمية دبلوماسية القمة كمدخل رئيسي لتطوير الدور الكوري في المنطقة، وخاصةً أن الزيارة تضمنت توقيع عدد من الاتفاقيات مع الدول الثلاثة في مجالات متنوعة.

2– تقديم الدعم السياسي لدول الخليج: عبرت سيول، خلال السنوات الماضية، عن مواقف داعمة للدول الخليجية في مواجهة التهديدات الأمنية التي تتعرض لها؛ فعلى سبيل المثال، اعتادت كوريا الجنوبية إصدار بيانات إدانة ورفض للهجمات الحوثية المتكررة على السعودية، على غرار الهجمات التي تعرضت لها مواقع شركة أرامكو في سبتمبر 2019، كما عبرت سيول عن موقف داعم للإمارات بعد الهجمات التي شنها الحوثيون على الأراضي الإماراتية، في شهر يناير الماضي؛ إذ نقلت وكالة الأنباء الكورية “يونهاب” عن مسؤول في وزارة الخارجية الكورية، يوم 18 يناير 2022، قوله: “ندين بشدة هجمات الحوثيين على صهاريج نقل المحروقات البترولية بمنطقة المصفح ومنطقة الإنشاءات الجديدة في مطار أبوظبي الدولي”، وأضاف: “نعرب عن قلقنا البالغ إزاء الأعمال الإرهابية التي يقوم بها الحوثيون والتي تهدد السلام والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بما في ذلك الإمارات، وندعو الحوثيين إلى وقف هجماتهم على المنشآت المدنية”، كما أصدرت وزارة الخارجية الكورية، يوم 25 يناير 2022، بياناً قالت فيه: “ندين الهجوم الصاروخي الذي نفذه المتمردون الحوثيون يوم 24 يناير على أبوظبي”.

3– تعزيز التعاون الاقتصادي بشكل أكبر: إذ شكل البعد الاقتصادي محوراً هامّاً في السياسة الكورية تجاه منطقة الشرق الأوسط؛ فخلال السنوات الماضية عملت سيول على تعزيز روابطها الاقتصادية مع دول المنطقة من خلال اتفاقيات وشراكات متنوعة، منها –على سبيل المثال– التوقيع على اتفاق مع البحرين، في أغسطس 2013، لإنشاء لجنة مشتركة لتعزيز التعاون الاقتصادي الثنائي بين الدولتين. كما تجمع كوريا الجنوبية والإمارات علاقات اقتصادية متميزة تجلت ملامحها في حصول شركات كورية على عقد بناء أربع مفاعلات نووية في عام 2009، كما تم تحفيز هذه العلاقات من خلال تدشين الشراكة الاستراتيجية الخاصة بين الدولتين في مارس 2018. وأعلنت الدولتان، في أكتوبر 2021، بيان نوايا مشتركاً لبدء محادثات اتفاقية شراكة اقتصادية. كما شهدت زيارة الرئيس الكوري الأخيرة إلى دول المنطقة توقيع اتفاقيات اقتصادية مهمة على غرار الاتفاقيات التي تم توقيعها مع السعودية من أجل تطوير اقتصاد الهيدروجين بالسعودية، كما وقعت مصر وكوريا الجنوبية، على هامش زيارة الرئيس الكوري إلى القاهرة في يناير الماضي، مذكرات تفاهم في مجالات الشراكة التجارية والاقتصادية والتعاون الإنمائي وتطوير السكك الحديدية.

4– التوسع في التعاون الدفاعي المشترك: لم تعد السياسة الكورية تجاه المنطقة معتمدة بصورة حصرية على الجوانب الاقتصادية والتجارية أو حتى بيانات الدعم السياسي، بل أضحت تستدعي الجانب العسكري والدفاعي كأحد مجالات الانخراط الكوري في المنطقة. ولعل هذا ما أكدته الاتفاقيات التي وقعتها سيول مؤخراً مع بعض دول المنطقة؛ إذ شهدت زيارة الرئيس الكوري الأخيرة إلى دولة الإمارات، يوم 16 يناير 2022؛ التوقيع على مذكرة تفاهم بين وزارة الدفاع الإماراتية وإدارة برنامج الاستحواذ الدفاعي في كوريا الجنوبية بشأن التعاون المتوسط والطويل الأمد في مجالات الصناعات الدفاعية وتكنولوجيا الدفاع، كما أشارت وكالة الأنباء الكورية “يونيهاب”، يوم 17 يناير الفائت، إلى توقيع الدولتين اتفاقاً مبدئيّاً تبيع سيول بموجبه لدولة الإمارات صواريخ أرض–جو متوسطة المدى. وفي سياق متصل، تم الإعلان، يوم 1 فبراير الجاري، عن إبرام القوات المسلحة المصرية اتفاقاً قيمته نحو 1,66 مليار دولار مع شركة هانوا الكورية الجنوبية للصناعات الدفاعية والعسكرية؛ لشراء أسلحة مدفعية من طراز “كيه–9 هاوتزر” بالإضافة إلى تصنيعها محلياً.

وتجدر الإشارة إلى أن هذا التعاون العسكري استصحب معه مشاركة سيول في مهام تأمين الملاحة في الممرات الرئيسية بالمنطقة؛ فمنذ عام 2009، تنشر كوريا قوة بحرية في خليج عدن للمساعدة في التصدي للقرصنة؛ وذلك بالشراكة مع دول إفريقية والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. ومع تطور الأحداث في منطقة الخليج، كان الانخراط الكوري يكتسب المزيد من الزخم؛ فعلى سبيل المثال، أعلنت وزارة دفاع كوريا الجنوبية، في شهر يناير 2021، إرسال وحدة مكافحة القرصنة إلى نطاق مضيق هرمز في منطقة الخليج، بعد الإعلان عن احتجاز إيران ناقلة نفط كورية. وأوضحت حينها وزارة الدفاع الكورية الجنوبية أنها أرسلت “وحدة مكافحة القرصنة إلى المياه القريبة من مضيق هرمز بسبب احتجاز إيران ناقلة للنفط”.

الدوافع الكورية

تستدعي التحركات الكورية في منطقة الشرق الأوسط عدداً من الدوافع الجوهرية المتمثلة فيما يلي:

1– بحث سيول عن مكانة دولية: مع تزايد القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية لكوريا الجنوبية على مدار العقود الماضية، حدث ما يشبه التغير في تصور سيول الذاتي لنفسها فيما يتعلق بوضعها الإقليمي والعالمي، وقدرتها على التحرك بعيداً عن المناطق التقليدية في آسيا، وهو الأمر الذي جلب معه إمكانية صياغة دور جديد لكوريا الجنوبية كلاعب مهم في الساحة العالمية. وفي هذا الإطار، تشير العديد من الأدبيات إلى أن كوريا الجنوبية أعادت اكتشاف دورها منذ تسعينيات القرن الماضي ضمن ما عرف بدبلوماسية القوة المتوسطة. واللافت أن هذه الدبلوماسية، وطموحات المكانة، مثَّلت –ولا تزال– مدخلاً تفسيريّاً هامّاً لطبيعة وديناميات الدور الكوري في الشرق الأوسط.

2– تعزيز المصالح الاقتصادية: بالرغم من محاولة سيول تنويع مجالات تعاونها مع دول المنطقة، فقد ظلت السياسة الخارجية الكورية تجاه منطقة الشرق الأوسط متمحورة بصورة رئيسية حول المصالح الاقتصادية؛ حيث تعتبر دول المنطقة مصدراً هامّاً لتوريد الطاقة (النفط والغاز الطبيعي) لكوريا الجنوبية، وخصوصاً أنها تعتبر من أكبر مستوردي النفط والغاز الطبيعي عالميّاً. علاوةً على ذلك، فإن المنطقة تنطوي على فرص استثمارية واقتصادية مهمة بالنسبة إلى الشركات الكورية، فهناك العديد من الشركات الكورية الحاضرة في مشروعات دول المنطقة، على غرار شركات سامسونج وشركة LS Cable and System لبناء شبكات الطاقة، وشركة دايو للأعمال الهندسية والإنشاءات التي فازت، في أغسطس 2013، بعقد قيمته 709 ملايين دولار لتشييد منشآت لمعالجة الغاز الطبيعي في حقل غاز عكاس بالعراق. كما وقَّعت شركة قطر للبترول، في شهر يونيو 2020، اتفاقيات مع ثلاث شركات كورية كبرى لبناء السفن لشراء 100 سفينة للغاز الطبيعي المسال حتى عام 2027.

3– تقوية التحالف مع الولايات المتحدة: لا يمكن إغفال أن طبيعة العلاقات الكورية الأمريكية تضطلع بدور جوهري في تشكيل التوجهات الكورية تجاه المنطقة؛ لاعتبارات رئيسية أولها أن الدور الكوري في المنطقة لن يثير الكثير من الهواجس أو الاعتراض الأمريكي، وهو ما قد يشجع أيضاً دول المنطقة على الانفتاح على سيول، وخصوصاً أن التحالف مع واشنطن يجعل كوريا الجنوبية أكثر حذراً إزاء القضايا المثيرة للمشكلات على غرار الملف الإيراني. ولعل هذا ما يفسر الخلافات الكورية الإيرانية المستمرة حول تجميد كوريا الجنوبية أرصدة مالية لإيران بمليارات الدولارات بسبب العقوبات الأمريكية. ومن جهة ثانية، ربما يكون الانسحاب الأمريكي من قضايا الشرق الأوسط دافعاً جوهريّاً لسيول لتعزيز حضورها في المنطقة؛ إذ إن حالة الفراغ التي تشهدها المنطقة بعد الانسحاب الأمريكي تسمح بحيز جديد للحركة لفاعلين آخرين، مثل كوريا الجنوبية، من أجل تدعيم مصالحهم. وربما تستخدم سيول أيضاً حضورها في المنطقة من أجل الترويج لنفسها كحليف يمكن أن تعتمد عليه واشنطن في بعض قضايا وملفات الشرق الأوسط.

4– المساهمة في المشروعات التنموية: حيث تراهن سيول على قدرتها على الاستجابة لطموحات دول المنطقة التنموية، وإمكانية مساهمة التكنولوجيا الكورية في المشروعات التنموية لدول الشرق الأوسط؛ فعلى سبيل المثال، أعربت كوريا عن رغبتها في تطوير اقتصاد الهيدروجين بالسعودية؛ وذلك على هامش زيارة الرئيس الكوري الأخيرة إلى السعودية، كما تساهم سيول في مشروع الطاقة النووية بدولة الإمارات. وصرَّح أيضاً وزير التجارة والصناعة والطاقة الكوري الجنوبي “مون سونج ووك”، يوم 19 يناير 2022، بأن “حكومة كوريا الجنوبية أكملت استعداداتها في حال استئناف السعودية إجراءاتها الخاصة بمشروع الطاقة النووية هناك”.

5– الاستفادة من تطور الصناعات العسكرية: يمثل ملف الصناعات العسكرية واحداً من المداخل الرئيسية للانخراط الكوري في المنطقة؛ فخلال السنوات الماضية تصاعدت خطط التوسع في توطين الصناعات العسكرية في عدد من دول المنطقة، وهو ما دفع بعض الحكومات إلى الاستعانة بشركات كورية في هذا المجال؛ فعلى سبيل المثال، وقَّعت الشركة السعودية للصناعات العسكرية مع مجموعة “هانوا” الدفاعية الكورية الجنوبية على اتفاقية لمشروع مشترك في يونيو 2019 للتصنيع العسكري، وتضمنت الاتفاقية بنداً لتقييم إمكانية تعزيز القدرة التقنية للمشروع وتوسيع خطوط الإنتاج لتشمل الذخائر والأسلحة والصواريخ والأنظمة المدفعية، ومركبات القتال/الاشتباك، وأنظمة الدفاع، والأنظمة البحرية، وأنظمة القيادة والسيطرة والاتـصالات والحاسب الآلي والاستخبارات، وأنظمة الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع.

وفي شهر فبراير 2021، أعلنت شركة “Science Technology” السعودية عن شراكة مع “Hanwha Defense” الكورية الجنوبية، ستقوم الرياض بموجبها بإنتاج نظام الدفاع الجوي الكوري (Biho II). وبموجب الاتفاقية تقوم السعودية بإنتاج أحدث أنظمة “Biho II”، الذي يحتوي على برج بمدفع عيار 30 ملم، وأربعة أنظمة صواريخ أرض–جو. كما تم الإعلان، يوم 1 فبراير الجاري، عن إبرام القوات المسلحة المصرية اتفاقاً قيمته نحو 1,66مليار دولار مع شركة هانوا الكورية الجنوبية للصناعات الدفاعية والعسكرية، لشراء أسلحة مدفعية من طراز “كيه–9 هاوتزر” بالإضافة إلى تصنيعها محلياً.

6– تكثيف الضغط على كوريا الشمالية: لا تنفصل السياسة الخارجية الكورية الجنوبية في منطقة الشرق الأوسط عن مساعي سيول إلى تصدير الضغوط إلى كوريا الشمالية؛ حيث إن وجود سيول المكثف في الشرق الأوسط يخدم الصراع مع بيونج يانج من زاويتين؛ إحداهما أن التقارب بين سيول ودول المنطقة يمكن أن ينتج المزيد من المواقف الدولية الداعمة لكوريا الجنوبية عبر الترويج المستمر للسردية الكورية الجنوبية، وبالتبعية فرض المزيد من الضغوط والعزلة على كوريا الشمالية. ومن جهة ثانية، ربما تحاول سيول تعزيز الوضعية الإقليمية لحلفائها بالمنطقة في مقابل القوى الإقليمية المتقاربة مع بيونج يانج، وفي مقدمتها إيران التي تجمعها علاقات تسليح وطيدة بكوريا الشمالية.

وختاماً، تظل مقاربة المصالح المتبادلة هي المحفز الأهم لتطور الحضور الكوري الجنوبي في الشرق الأوسط؛ فمصالح سيول وحدها لن تكون كافية لتعزيز الدور الكوري في المنطقة، ولكن يتطلب الأمر قبولاً من دول المنطقة بهذا الحضور الكوري، واستمرار التعاطي مع هذا الدور من منظور إيجابي يرى أن حضور سيول يمكن أن يخدم مصالح دول المنطقة ومشاريعها التنموية والتوسع الجاري في خطط التصنيع العسكري الوطني، ناهيك عن إمكانية استخدام الدور الكوري كأحد أدوات إدارة مرحلة ما بعد الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط.

المصدر : إنترريجونال

اترك تعليقا