المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

المنطقة إلى أين …تنافس أم صراع ؟ نقاط على الحروف.. ناصر قنديل

  • لا ينطرح هذا السؤال مع بدايات الربيع العربي الذي بدا مبشرا بدعوة للتغيير الثورة قبل أن يتضح كمبشر بالفوضى والغموض الداكن يلف مصير الكيانات الوطنية التي تولدت بعد الحربين العالميتين ويأخذها عكس حلم الوحدة ، نحو تفتيت المفتت وتقسيم المقسم وإدخالها في حروب أهلية بعد تدمير الجيوش الوطنية التي غالبا ما كانت رموزا لقمع الدولة المركزية وسرعان ما صارت رمزا للهوية الوطنية المهددة بالزوال لحساب هويات أتنية وعرقية وطائفية وقبلية ومذهبية ، هويات متناحرة متورطة بإنفعال غرائزي قاتل في حروب حتى الموت ، حتى صارت حماية بقاء الكيانات التي  ولدها سايكس بيكو كمشروع تفتيت مطلبا وطنيا يستحق التضحيات الجسام ، كما صار الحفاظ على الجيوش قضية حفاظ على عمود فقري لدولة تتداعي مهددة بالإندثار ، ولا يطرح السؤال أيضا بعد حروب الإمبراطورية الأميركية لإنشاء نظام عالمي  جديد تأسيسا على إنهيار النظام الذي عبرت عنه قواعد الإشتباك بعد الحرب العالمية الثانية وما عرف بالحرب البادرة ، وما صار معروضا على الشعوب في منطقتنا خصوصا من خيارات أحلاها مر ، الوقوف بوجه حروب ما بعد سقوط جدار برلين دفاعا عن أنظمة أذاقت شعوبها الأمرين ، أو الوقوف في صف حرب إستتباع لا مكان فيها لحياة وحرية وإستقلال وهوية ، والمشروع الإمبراطوري يحمل فلسفته  للعالم الجديد ويبشرعلى لسان فرانسيس فوكوياما بإحدى ثنائيته ، نهاية التاريخ وسقوط الهويات ، وما تعنيه العولمة التوحشة الأحادية ، أو صدام الحضارات وفقا لصموئيل هنتغتون ، صدام تسحق فيه الشعوب  والأمم التي تتمسك بخصوصية وهوية ، ولا يكون مصيرها أفضل من مصير الهنود الحمر ، كسكان اصليين للبلاد ، كل البلاد ، واي بلاد ، يتمسكون بنمط عيش وثقافة وسلوك ، لا تنسجم مع الهوية الجامعة الموحدة والمعروضة للإستنتساخ على البشرية في زمن نهاية التاريخ .
  • ينطرح السؤال وقد دار الزمان دورة كافية لتبرير طرحه ، فالمشروع الإمبراطوري الأميركي يتهاوي والسؤال صار مشروعا أميركا إلى أين ، والربيع العربي نتجأ،تإستولد حمله الشرعي بمولود مشوه هو داعش ، كثمرة تراكمية للفوضى العارمة التي  دخلتها المنطقة أو أدخلت إليها ، ليصير السؤال الطبيعي المنطقة إلى أين ، بعد فشل المشروع الإمبراطوري الأميركي وفشل الربيع العربي وألإنتصار المنتظر على داعش ، والسؤال يبدأ من تحديد قدرتنا على وعي الذي تغيرفينا ، وهل هو كاف لنجيب عن السؤال برؤيا تستشرف ولا تعيد إنتاج وعي الذات المريضة بعيون مريضة ، لتنتج بإسم الإنتصار على حروب الآخرين ، حروبنا  نحن ، بدلا من سلامنا وعمراننا ، وتنميتنا ، وبالأصل دولنا ، ومجتمعاتنا ؟
  • عندما حاول توماس فريدمان في كتابه سيارة اللكزس وشجرة الزيتون أن يصيغ مفهوم العولمة الذي تحمله الحروب الأميركية ، في تطوير لما بدأه في إفتتاحيات نيويورك تايمز ترويجا لهذه الحروب في عهد الرئيس الأميركي بيل كلينتون وكانت  ساحتها اوروبا قبل أن يحين دور آسيا مع جورج بوش ، إعتبر أن شجرة الزيتون ترمز للهوية والخصوصية ، وسيارة اللكزس ترمز للرفاه ، مستنتجا بحصيلة كتابه أن لا مكان في العالم الجديد للهويات الخاصة بل للحاق بركب الرفاه ، مطلقا شعار إقتلعوا أشجار زيتونكم بأنفسكم وإلتحقوا بركب الركض وراء اللكزس قبل أن تقتلع اللكزس أشجاركم ، فزيتونكم لا مكان له  في عالم الغد في الحالتين ، لتتكشف الحروب الأميركية ومن بعدها ربيعها العربي أو حربها الذكية ، وختامها ولادة داعش ، ثلاثة حقائق خطيرة ، أولها أن سيارة اللكزس كانت تشتغل لحساب شجرة زيتون بعينها يراد إقتلاع أشجار الغير لحسابها ، وفي منطقتنا الشجرة الوحيدة المسموح  ببقائها هي الشجرة الإسرائيلية ، فليست مصادفة أن يتزامن صعود المشروع الإمبراطوري الأميركي المعولم مع إشهار إسرائيل نيتها تطوير هوية مشروعها لمزيد من الفظاظة في الإمعان بالهوية الخصوصية المستفزة والمغايرة لوصفات فريدمان وتطلق مشروعها كدولة يهودية ، والحقيقة الثانية أن السعي لتدمير اشجار زيتوننا الوطنية كان لحساب أشجار زيتوننا الأخرى التي لا تنتج  ثمرا ، وهي هوياتنا القاتلة والمتقاتلة ، التي حظيت عشائر وقبائل وطوائف ومذاهب بكل الرعاية اللازمة للنمو على حساب الدولة الوطنية لتمتلك كل منها أحزابا وحيوشا وأعلاما ودويلات ، والحقيقة الثالثة هي أن داعش كمولود شرعي تراكمي لفشل المشروعين الإمبراطوري العسكري والإستخباري التثويري ، الصيف والربيع ، إستمد قوته من نموذج مشوه لهوية غارقة في التاريخ حتى الإختناق في الشكل والمضمون ، لكن الحقيقة المفاجئة هي ان النهاية بدأت في بلد المنشأ للعولمة المتوحشة بالعودة للهوية الخاصة الفجة والعنصرية ، لكن المستندة إلى شجرة زيتونها ، في نموذج تفرزه تباعا تشكيلات الخطاب السياسي الصاعد في الغرب من أميركا دونالد ترامب إلى بريطانيا الخارجة من الإتحاد الأوروبي وصولا لفرنسا الآتية كما يصفها فرانسوا فيون  المرشح الرئاسي الأوفر حظا، أكثر فرنسية أقل أوروبية ، واقل وأقل عالمية .
  • مع معادلة صراع الهويات يصير الخطر سقوط السعي للرفاه والتمدن والحداثة حاضرا ، ويصير التوازن بين صياغة الهوية القادرة على ملاقاة التحديات ومواءمة حقائق التاريخ والجغرافيا في آن واحد بصورة غير مفتعلة ، هو السياسة ، وتصير الحروب الصغيرة داخل حدود الدول إمعانا في تفتيتها وتشتيتها ، أو بين الدول تضييعا لمواردها وإستنهاضا لعصبياتها ، التعبير الأوضح عن اللاسياسة ، ولأنه يستحيل بعد كل الذي جرى الحديث عن لعبة شطرنج ودية ، يعاد بنتيجتها رصف الحجارة كما في الشوط الأول ، بينما في الحرب يخاض الشوط الثاني من حيث إنتهى الشوط الأول لا تكرار بالبدء كما بدأ ، وجب القول أن ثمة مشروعا هزم ، وقوى إنتصرت ، لكن ليس ثمة بعد مشروع ينتصر ، والواضح من مقاربة المشهد الدولي الإقليمي أن الذين وقفوا في خندق الحروب الأميركية وضعوا أنفسهم في صف الخاسرين ، وبالمقابل فإنهم اليوم أعجز من إنتاج مشروع ، ومشروعهم قد سقط ، لأن الأميركي وهو عامود خيمتهم يرتد إلى داخل الحدود لإعادة صياغة ذانه ، بينما بالمقابل تستطيع الدول التي  ناوءت وقاومت المشروع الأميركي أن تباهي بوقوفها في ضفة النصر ، لكنها لا تستطيع إدعاء إمتلاك مشروع ، على أهمية إمتلاكها مفردة ذهبية تؤسس أحد أركان المشروع المنشود وهي مفردة المقاومة ، لكنها مفردة للإقليم وصراعاته وهوياته ، لكنها ليست مفردة كافية لتوصيف مشروع الهوية الوطنية ومشروع الدولة الوطنية ، ولا أشكال التحالفات والمصالحات التي تشكل السياسة بعينها في صياغة بنود المشروع .
  • المنطقة بين التنافس والصراع وقف على إثنتين ، الأولى هل يذهب الذين هزموا إلى الإنتحار ، ويخوضون مغامرة ومخاطرة تصعيد نموذج داعش وضخ المزيد من الجغرافيا والمقدرات  في حسابه ما يمنحه اسباب قوة جديدة من عيار سيطرته على بيئة ثقافية وفكرية تنسجم مع مشروعه وثروات النفط الأهم في المنطقة من ليبيا إلى الخليج  ، أم يمتلكون شجاعة الخروج من الحرب بتحديد الخسائر والذهاب بعقل سياسي بمعنى السياسة العلمي نحو الإنخراط في التسويات الإقليمية ، التي في قلبها تدور المنافسة ، أما الثانية والأهم فهي هل يمتلك الذي إنتصروا وراكموا فائض قوة تواضع الإنتصار ، فينجحوا بتحويل فائض القوة إلى قمية مضافة ، والقيمة المضافة الأهم هي التسويات  الوطنية ، ليتحول النصر من نصر قوى بعينها إلى إنتصار لمشروع يملك رؤيا بناء الدولة الوطنية ؟
  • ما يجري حتى الآن في لبنان وطنيا وما تذهب إليه معادلة الحرب في سوريا إقليميا ودوليا يشجعان على الحديث عن ترجيح كفة التنافس على الصراع ، خصوصا في ظل شح الموارد التي يقع الجميع تحت أثقالها ، وقد أكل  ما مضى من الحروب اخضر بلادنا واليابس في البشر والحجر ، لكن تبقى الكلمة الفصل لما سيفعله العراق ، وطنيا وإقليميا ، وهل يملك اللاعبون الرئيسيون فيه قدرة رفع سقوفهم الإقليمية نحو التكامل مع سوريا الذي ينشأ وحده قطبا جاذبا لمشروع نهضة ، وتخفيض سقوفهم الوطنية ، نحو صياغة تسويات شجاعة تستعيد الواقعين تحت قلق التهميش إلى السياسة ، وتبتكر حلولا لمشاريع الإنقسام والإنفصال والتقسيم بتوصيف للعراق الموحد ، يبتعد عن تلازمه مع قواعد صراع الهويات البينية ورابح وخاسر فيها ، فيصير عائد التنازل للتوافق الوطني أكبر من عائد الإنقسام الإفتراضي أوحلم أو وهم  الإنفصال ؟
اترك تعليقا