المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

اوكرانيا: من “السلام الساخن” الى الحرب

“لا يمكن التأكيد بقوة على أنه من دون أوكرانيا، لم تعد روسيا إمبراطورية، ولكن مع إخضاع أوكرانيا ثم إخضاعها ، تصبح روسيا تلقائياً إمبراطورية”. الكلام لمستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبيغنيو بريجنسكي في أوائل العام 1994 في مجلة الشؤون الخارجية. وكلام آخر ايضاً للرئيس الروسي فلاديمير بوتين العام 2005، يثبت اهمية استعادة جمهوريات الاتحاد السوفياتي سابقاً الى الحضن الروسي، اذ قال بوتين يومها “ان تفكك الاتحاد السوفياتي هو الكارثة الكبرى في القرن الأخير”. ولعّل خلاصة الحرب التي تشنها موسكو على كييف تكمن في اعلان الرئيس الاميركي جو بايدن ان “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين يركز على محاولة إقناع العالم بأن لديه القدرة على تغيير الديناميكيات في أوروبا بطريقة لا يمكنه القيام بها”، مما جعل اوكرانيا سلاح الغرب الأمامي للمواجهة مع موسكو في موقع لا تُحسد عليه ابداً.

مراقبون كثر كانوا يعوّلون على مفهوم “الحرب الباردة” لتوصيف الازمة الاوكرانية- الروسية قبل ان ينقضها كلها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين صباح الرابع والعشرين من شباط، شاناً حرباً جوية وبرية وبحرية على “حديقة موسكو الخلفية” اوكرانيا التي لم يعتبرها يوماً الا جزءاً لا يتجزأ من روسيا. وقد اعتبر سياسيون روس كثر ان انفصال أوكرانيا كان خطأ في التاريخ بعد الانهيار السوفياتي وتهديداً لمكانة روسيا كقوة عظمى. فالبلدان يمتلكان روابط عائلية قوية تعود إلى قرون. كما غالباً ما يشار إلى كييف الى انها “أم المدن الروسية”.

واذا كانت الحرب الباردة سادت العلاقات الغربية – الروسية، او على الاصح الاميركية – الروسية فإن استعادة بوتين الرئاسة الروسية العام 2011 ، وتوطيد سلطته، جعلا عبارة “الحرب الباردة” تُستبدل بحقبة “السلام الساخن”.
فالحرب الباردة التي سادت العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية بدأت باختلاف القوتين الاساسيتين، الولايات المتحدة الاميركية والاتحاد السوفياتي، حيال كيفية إدارة مرحلة ما بعد الحرب وإعادة بناء العالم، انطلاقاً من اوروبا وصولاً الى كل مكان في العالم.

وقد سادت هذه الفترة ازمات عالمية عدة، ابرزها حصار برلين العام 1948، والحرب الأهلية الصينية بين العامين 1927 و1949، والحرب الكورية بين عامي 1950 و1953، والثورة الهنغارية كما ازمة السويس العام 1956، وأزمة جدار برلين عام 1961 وحرب فيتنام بين عامي 1956 و1975 والغزو السوفياتي لأفغانستان. الا ان اخطر هذه الأزمات كانت أزمة الصواريخ الكوبية 1962 التي اوشكت ان تودي بـ”ستاتيكو” الحرب الباردة مهددة العالم بالدخول في حرب عالمية ثالثة بعدما اكتشفت واشنطن وجود صواريخ سوفياتية نووية تحت الانشاء في كوبا. وفي اعقاب شد حبال قطيع الانظار توصّل الطرفان إلى اتفاق يقضي بإزالة الصواريخ السوفياتية ومنصات إطلاقها من الأراضي الكوبية شرط أن تتعهد الولايات المتحدة بعدم غزو كوبا وأن تتخلص بشكل سري من صواريخ “ثور” و”جوبيتر” المنصوبة في كل من بريطانيا وإيطاليا وتركيا.

حزام “الناتو”

الا ان مرحلة الحرب الباردة انتهت في النصف الثاني من الثمانينيات بانهيار الاتحاد السوفياتي العام 1991 فبات العالم بقبضة قوة عظمى وحيدة هي الولايات المتحدة، مما حدا بالرئيس الأميركي جورج دبليو بوش الى الاعلان العام 1992 ان “أكبر شيء حدث في العالم في حياتي ، في حياتنا ، هو هذا: بفضل الله، انتصرت أميركا في الحرب الباردة.” واضاف في جلسة مشتركة للكونغرس: “إن العالم الذي انقسم في يوم من الأيام إلى معسكرين مسلحين يعترف الآن بقوة واحدة وحيدة وخطيرة، وهي الولايات المتحدة الأميركية”.

لكن هذه الأحادية القطبية العالمية بدأت تهتز مع تمتين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قبضته على روسيا، بعدما ارتمت غالبية الجمهوريات السوفياتية السابقة في احضان الغرب عبر انضمامها الى حلف شمال الاطلسي “الناتو” في حزام خانق يطوّق موسكو. فجمهوريات التشيك والمجر وبولندا كانت اولى الدول (الاعضاء في حلف وارسو السابق) التي انضمت الى الحلف العام 1999، تبعتها العام 2004 ليتوانيا واستونيا ولاتفيا اضافة الى سلوفينيا وسلوفاكيا وبلغاريا ورومانيا. كما انضمت البوسنة والجبل الأسود وصربيا الى برنامج “الشراكة من أجل السلام” الذي يديره الحلف (كخطوة اولى باتجاه العضوية الكاملة). وفي العام 2008، دعت الدول الاعضاء في الحلف البانيا وكرواتيا للإنضمام اليها، واعلنت نيتها بضم أوكرانيا وجورجيا، مما شكل خطاً احمر لا يمكن ابداً لموسكو ان تسمح بتجاوزه.
وقد أعلن بوتين رفضه للنظام العالمي الذي تقوده أميركا في خطابه في مؤتمر ميونيخ للأمن العام 2007 حيث حذّر مما وصفه “الذخائر غير المنفجرة” التي خلفتها الحرب الباردة مشيراً الى “الصور النمطية الإيديولوجية” و “المعايير المزدوجة” التي سمحت لواشنطن بحكم العالم بينما تتم اعاقة تنمية روسيا.

وبوتين، كما قال فرانسيس فوكوياما ، مؤلف كتاب ، The End of History and the Last Man يسعى الى “تقويض اعتقاد الديمقراطيات الغربية في أنظمتها الخاصة، لكنه في الواقع لا يحاول التظاهر بأن روسيا لديها نظام متفوق يمكن تطبيقه في بلدان أخرى”، على عكس العقيدة السوفياتية. وهو يسعى ايضاً الى استبدال “الجدار الحديدي” الذي كانت تشكله الجمهوريات السوفياتية السابقة بآخر عازل يؤمن له منطقة جيوسياسية تحميه من الغرب الاوروبي.
لذا، عمل بوتين على مدى السنوات الـ 14 الماضية على ترسيخ الوجود الروسي، اكان على مشارف روسيا عبر ضم شبه جزيرة القرم، ودعم المقاطعتين الاوكرانيتين الانفصاليتين واجراء مناورات مشتركة مع بيلاروسيا، ام خارج اوروبا. فأرسى وجوداً عسكرياً له على البحر الأبيض المتوسط في القواعد البحرية والجوية في سوريا . كما نشر في إفريقيا آلاف المرتزقة الروس المتعاقدين في ليبيا والسودان ومالي وجمهورية إفريقيا الوسطى وموزمبيق ومدغشقر.

لماذا الحرب؟

شكلت اوكرانيا بجغرافيتها شبه المستطيلة الممتدة في الزاوية الشرقية – الجنوبية للقارة الأوروبيّة، “حجر الزاوية” بالنسبة الى روسيا. فهي أكبر جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق مساحة، تمتد من شواطئ البحر الأسود الشمالية وبحر آزوف وتجاور سبع دول هي: روسيا، بيلاروسيا، هنغاريا، مولدافيا، بولندا، رومانيا وسلوفاكيا.
وهي حاولت في العقود الثلاثة الاخيرة التمرد على النفوذ الروسي بعد انهيار الاتحاد السوفياتي واستقلالها، عبر ثورتين برتقاليتين، في 2004 و2013 – 2014، متشجعة بنجاح ثورة الورود في جورجيا العام 2003، و “ثورة التوليب” في قرغيزستان العام 2005.

الضربة الروسية المباشرة الاولى لأوكرانيا جاءت بضم شبه جزيرة القرم العام 2014، وبإعلان السيادة الروسية عليها في اعقاب “خلق” منطقتين انفصاليتين في شرق البلاد هما دونيتسك لوغانسك ودعمهما مباشرة (اعطى مواطنيهما 30 الف جواز سفر روسي) قبل اعتراف بوتين باستقلالهما في 21 شباط 2022، مؤكداً ان أوكرانيا جزء لا يتجزأ من تاريخ روسيا، مما سمح له بالتذرّع بأنه غزا اوكرانيا دفاعاً عن ارض روسية وليس من باب التدخل الخارجي في شؤون دولة مستقلة… لا بل اراد اظهار اوكرانيا بأنها تتدخل بشؤون جمهوريتين مستقلتين.

وقد استبق الاعتراف بالمنطقتين الانفصاليتين عبر التنصل من اتفاقات “مينسك 1″ و”مينسك 2،” التي تم التوصل إليها في العاصمة البيلاروسية في محاولة لإنهاء الصراع شرقي أوكرانيا، والتي لم يتم تنفيذها بالكامل.
فروسيا كانت لفترة طويلة الشريك التجاري الأكبر لأوكرانيا، قبل ان تتصدر الصين المرتبة الاولى. وهي سعت جاهدة لضمها الى “سوق الاتحاد الاقتصادي الأوراسي” الذي يضم أرمينيا وبيلاروسيا وكازاخستان وقيرغيزستان… من دون جدوى.

وقد اعتمدت روسيا على خطوط الأنابيب الأوكرانية “نورد ستريم 1” لضخ الغاز إلى وسط أوروبا وشرقها، فدفعت مليارات الدولارات سنويًا كرسوم عبور إلى كييف. وهي عمدت من بعدها الى بناء خط أنابيب “نورد ستريم 2” الذي يمتد تحت بحر البلطيق إلى ألمانيا منتصف 2021، مما سيسمح لها بتجاوز خطوط الأنابيب الأوكرانية وباكتساب نفوذ جيوسياسي أكبر في المنطقة.
وهذا ما أثار حفيظة واشنطن التي رأت في هذه الخطوة امكان نفوذ سياسي اكبر على أوكرانيا وعملاء الغاز الأوروبيين الآخرين، مما حدا بإدارة الرئيس الاميركي السابق دونالد ترامب الى فرض عقوبات أواخر عام 2019 على الشركات المشاركة في بناء خط الأنابيب.
ويجب عدم اغفال العامل الروسي الداخلي الذي اشار اليه اكثر من مراقب عبر سعي بوتين الى التحفيز الشعبي بواسطة حرب خارجية جديدة ولا سيما في اعقاب اندلاع الاحتجاجات الفريدة المناهضة للحكومة في روسيا في أواخر عام 2011.

ما هي شروط بوتين؟

 11 صفحة شكلت رد الكرملين على مقترحات الرئيس الاميركي جو بايدن لتعزيز الأمن لكل من أوروبا وروسيا قبيل غزوه اوكرانيا. وقد قدم بوتين للولايات المتحدة وحلف الناتو في كانون الاول 2021 قائمة بمطالبه الأمنية التي يمكن اختصارها بشرطين اساسيين هما:


– منع أوكرانيا من الانضمام إلى حلف الناتو
– الغاء الناتو نشره للقوات والعتاد إلى حدود عام 1997، وسط اوروبا وشرقها
وأشار بوتين إلى أنه غير مهتم بإجراء مفاوضات مطولة حول هذا الموضوع، لا بل قال: “أنتم من يجب أن تقدموا لنا الضمانات، وعليكم أن تفعلوا ذلك على الفور، الآن”. وأضاف: “هل ننشر صواريخ بالقرب من حدود الولايات المتحدة؟ لا، لا نفعل. إن الولايات المتحدة هي التي تأتي إلينا بصواريخها وهي واقفة بالفعل على أعتابنا”.
وقد ارفق بوتين شروطه في ما بعد بإشرافه على تدريبات للقوات النووية الروسية تشمل إطلاق صواريخ باليستية وصواريخ كروز، في اول اشارة علنية الى القوة النووية الروسية. واكد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو أن هذه التدريبات شملت محاكاة استخدام أسلحة نووية للتأكد “من موثوقية الأسلحة التابعة للقوات الاستراتيجية النووية وغير النووية في الجيش الروسي”.
ومن المفيد الاشارة هنا، الى ان تذكير بوتين بقدرات موسكو النووية لن يمر مرور الكرام جيو- ستراتيجياً، اذ ان روسيا تملك ما يعادل الضعفين مما تشكّله الولايات المتحدة من الرؤوس النوويّة. وقد فنّد كتاب جيوبوليتيك العالم المعاصر (Géopolitique du Monde contemporain) توزع القنابل النوويّة بين موسكو وواشنطن كما يلي:
– روسيا: 4630 قنبلة
– اميركا: 2468 قنبلة

تداعيات الحرب

إذا كان من المبكر جداً الحديث عن تداعيات الحرب الروسية – الاوكرانية وتأثيرها على ملفات العالم الساخنة وعلى الاستقرار العالمي الاقتصادي والأمني، فإن ملامح هذه التداعيات بدأت تتضح منذ ان بدأ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بحشد قواته على حدود اوكرانية الشرقية. فعلى رغم كل التهديدات الغربية والتهويل بالعقوبات، يدرك بوتين تماماً ان كل ذلك ينبع من “نمر من ورق”. فالرئيس الاميركي جو بايدن سبق واعلن انه لا ينوي زج بلاده في صراعات جديدة، كما ان غالبية دول الاتحاد الاوروبي تعهدت بمد اوكرانيا بالأسلحة والتدريبات العسكرية من دون اي تدخل مباشر او اي وجود عسكري فعلي لها، ناهيك عن ان 4 دول أوروبية بينها ألمانيا كانت ترى قبل الغزو ان من الأفضل عدم فرض عقوبات على بوتين الآن، وفق ما نقلت نيويورك تايمز عن مسؤول أوروبي يومها.

صحيح ان حلف الناتو المكون من 30 دولة يعمل مع أوكرانيا لتحديث قواتها المسلحة… لكن لا تدخل مباشراً من قبله خصوصاً ان اوكرانيا ليست عضواً في الحلف. وبوتين يدرك تماماً ان لا أحد صدّق او سيصدّق وزير الدفاع البريطاني عندما قال “نستطيع توجيه ضربة للجيش الروسي كما فعلنا عام 1853″.


فالمساعدات العسكرية الغربية كانت رمزية فقط: دعوات عاجلة من واشنطن ولندن و25 دولة لتزويد كييف بمزيد من السلاح، كندا تدير برنامجاً تدريبياً في كييف، بينما تكثف الدنمارك جهودها لرفع مستوى الجيش إلى معايير الناتو.
ومن حيث المبدأ حشدت القوات الغربية قواتها للمساعدة… من دون ان تفعل. فوضعت وزارة الدفاع الأميركية حوالي 8500 جندي في حالة تأهب قصوى، فيما أرسلت الدنمارك فرقاطة إلى بحر البلطيق و4 طائرات حربية من طراز F-16 إلى ليتوانيا. أما إسبانيا فأرسلت كاسحة ألغام وفرقاطة للانضمام إلى القوات البحرية لحلف شمال الأطلسي في البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، كما قالت انها تدرس إرسال طائرات مقاتلة إلى بلغاريا، بينما عرضت هولندا أيضا طائرتين حربيتين من طراز F-35 إلى بلغاريا اعتبارًا من نيسان 2022. واشارت معلومات غير مؤكدة الى نية فرنسا ارسال قوات إلى رومانيا تحت قيادة الناتو.

وقبل الأزمة، كانت أوكرانيا تتلقى في المتوسط أكثر من 200 مليون دولار سنويًا كمساعدات اميركية، اضافت اليها واشنطن بعدها أكثر من 600 مليون دولار سنويًا في شكل مساعدات تنموية وأمنية، وأخيراً 350 مليون دولار كـ”دعم أمني عاجل”. كما زّود الجيش الأميركي القوات الأوكرانية بالتدريب والمعدات، بما في ذلك بنادق القنص وقاذفات القنابل اليدوية ومعدات الرؤية الليلية والرادارات وصواريخ جافلين المضادة للدبابات وسفن الدوريات.

وفي الموازاة، تهدد الازمة الروسية – الاوكرانية تماسك حلف الناتو. فكرواتيا اعلنت أنها ستسحب جنودها من “الحلف” في حال نشوب صراع مع روسيا. كما اكدت الحكومة البلغارية انها لن تشارك في الصراع المحتمل مع روسيا بأي جندي بلغاري من دون موافقة البرلمان. ورفضت الحكومة المجرية استضافة وحدة من وحدات “الناتو”، مصرّحة بأنها ستضمن أمن البلاد بنفسها. اما في سلوفاكيا، فإن ملامح ازمة حكومية بدأت تلوح في الافق بسبب الإجراءات المناهضة لروسيا.
ثم يجب عدم اغفال ان الولايات المتحدة اعادت بفضل الغزو الروسي لأوكرانيا سيطرتها نوعاً ما على اوروبا التي كانت دائماً عبر التاريخ وسيلتها الكبرى للهيمنة العالمية منذ الحرب العالمية الثانية. من هنا، معارضتها الشرسة لخط غاز “نورد ستريم 2” الذي سيضع الاتحاد الاوروبي على تواصل مباشر مع روسيا فيما اكد وزير خارجية إيطاليا ووزير المال الفرنسي ان هذا الخط هو “أمر حيوي بالنسبة لأوروبا”.

ومن هنا ايضاً سعي واشنطن للتواصل مع قطر بهدف تأمين الغاز اوروبياً، كما العمل على مد خطوط انابيب تحت البحر الابيض المتوسط تربط اوروبا بمنابع الغاز الشرق اوسطية. وقد قال مسؤولون أميركيون إنهم يبحثون عن مخزونات من الطاقة في شمال أفريقيا والشرق الأوسط وآسيا وداخل الولايات المتحدة.


اما خارجياً، فإن انشغال العالم بالازمة الاوكرانية، سيفرمل حتماً الجهود الدبلوماسية لتسوية عدد كبير من الملفات الساخنة والملتهبة، أبرزها مفاوضات الاتفاق النووي الايراني في فيينا، تضاف اليها ازمات المنطقة من اليمن الى العراق فسوريا، وصولا الى الوضع في كوريا الجنوبية.

داخلياً، روسيا الهشة اقتصادياً ستعاني حتماً من كلفة الحرب بعدما عانت من سباق التسلح، ناهيك عن ان العقوبات الاقتصادية والمالية ستشكل ضربة شبه قاضية لنظامها المصرفي ولصادراتها ووارداتها من الغرب.

تأثير الحرب الاقتصادي 

الى جانب التخوفات من موجة لاجئين هائلة وسط أوروبا، وقد بدأت بالفعل، يتكلم الاقتصاديون عن 5 محاور اساسية ستتأثر بها روسيا بفعل الحرب التي شنتها على اوكرانيا، وفق ما اوردتها وكالة رويترز:

1– الملاذات المالية الآمنة
أولها السندات الائتمانية التي ينظر إليها المستثمرون على أنها الأصول الأكثر أماناً في ظل ارتفاع التضخم بسبب الحروب. وقد تسهم زيادة اسعار النفط بذلك بشكل مباشر.
كما ان الفرنك السويسري الذي يشكل ملاذاً آمناً ومستقراً وصل عشية بدء الحرب إلى أعلى مستوياته منذ ايار 2015، ناهيك عن الذهب الذي وصل سعره الى الذروة منذ شهرين.

2– الحبوب
من المتوقع ان يؤدي ارتفاع اسعار النفط كما صعوبة تدفق شحن الحبوب من أوكرانيا وروسيا وكازاخستان ورومانيا عبر موانئ البحر الأسود الى ارتفاع اسعار هذه الأخيرة بشكل كبير، مما يؤدي الى تضخم أسعار الأغذية ويهدد الأمن الغذائي العالمي في ظل وضع اقتصادي عالمي هش جداً بسبب جائحة كورونا.
علماً ان توقعات المجلس الدولي للحبوب كانت تشير الى ان اوكرانيا ستكون ثالث أكبر مصدر للذرة في العالم في موسم 2021/2022 ورابع أكبر مصدر للقمح فيما روسيا هي أكبر مصدر للقمح في العالم.

3– الطاقة
تعتمد أوروبا على روسيا للحصول على حوالي 35 % من الغاز الطبيعي، ويأتي معظمها من خلال خطوط الأنابيب التي تعبر بيلاروسيا وبولندا إلى ألمانيا، كما ان “نورد ستريم1 ” يذهب مباشرة إلى ألمانيا، وغيرها إلى سلوفاكيا والمجر وجمهورية التشيك من خلال أوكرانيا.
واشار مركز “ستاندرد آند بورز غلوبال بلاتس” الى ان تمرير أوكرانيا للنفط الخام الروسي للتصدير إلى أوروبا بلغ 11.9 مليون طن متري في عام 2021، بانخفاض عن 12.3 مليون طن متري في عام 2020.
ومن الطبيعي ان تتأثر عملية نقل الغاز بفعل العقوبات الغربية، مما سيؤدي الى ارتفاع الاسعار التي سبق وارتفعت بشكل كبير العام الماضي بارتفاع الاستهلاك وتخفيض التوريد. فأسعار النفط ارتفعت بشكل مضطرد فور بدء العملية العسكرية الروسية بحيث سجل برنت 103 دولارات للبرميل كما ارتفعت أسعار الغاز في أوروبا مسجلة زيادة بنسبة 50% في بريطانيا. وأفاد اقتصاديون ان ارتفاع برميل النفط الى 150 دولارا سيخفض نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي إلى 0.9 % فقط سنوياً في النصف الأول من العام.
وقد نقلت صحيفة “وول ستريت جورنال” عن مسؤول اميركي “إذا قررت روسيا عسكرة امداداتها من الغاز الطبيعي أو النفط الخام، فلن يكون ذلك بدون عواقب على الاقتصاد الروسي. أنه اقتصاد ذو بعد واحد وهذا يعني أنه يحتاج إلى عائدات النفط والغاز على الأقل بقدر ما تحتاج أوروبا إلى إمدادات الطاقة”.


4– سوق الأسهم والقطاع المالي
توقعت بيانات بنك التسويات الدولية (BIS) أن تتأثر بنوك أوروبية عدة بالحرب ولا سيما منها البنوك الفرنسية والنمساوية التي لديها النسبة الأكبر بين المقرضين الغربيين لروسيا حيث تبلغ مستحقاتهما معا نحو 41 مليار دولار، ويليهم المقرضون الأميركيون بمبلغ 16 مليار دولار، واليابانيون بقيمة 9.6 مليار دولار، والبنوك الألمانية بقيمة 8.8 مليار دولار.
ومع تدهور الروبل الروسي والهريفنا الأوكرانية، باتت الأصول الروسية والأوكرانية في طليعة الخاسرين من أي تداعيات للأسواق بفعل الحرب، علماً ان الاتجاه الغربي يميل الى عدم تشديد الخناق مالياً. فالرئيس الاميركي جو بايدن قال غداة بدء بوتين الحرب ان واشنطن لن “تفرض حظرا على نظام سويفت المصرفي في الوقت الحالي” وذلك رغم تحذير الرئيس التشيكي انه “إذا لم يتم فصل روسيا عن نظام سويفت للتحويلات المالية ستسقط أوكرانيا خلال أيام”.


5– تأثير العقوبات
بدأت العقوبات الاميركية والاوروبية بالظهور قبيل بدء روسيا عمليتها العسكرية وتصاعدت مع بدء الحرب.
واعلن الرئيس الاميركي جو بايدن ان بلاده أقرت “عقوبات بالتنسيق مع قادة مجموعة السبع (بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وكندا واليابان) لتقويض قدرة روسيا على القيام بأعمال تجارية بالعملات الرئيسية في العالم، إلى جانب عقوبات ضد البنوك والشركات المملوكة للدولة الروسية”.

وقال مسؤولون كبار في الإدارة الأميركية إن الولايات المتحدة يمكن أن تحظر تصدير منتجات مختلفة تستخدم الإلكترونيات الدقيقة إلى روسيا استنادا إلى المعدات أو البرمجيات أو التكنولوجيا الأميركية، بحيث يتم استهداف القطاعات الصناعية الروسية الحيوية مثل الذكاء الاصطناعي والحوسبة الحكومية والفضاء، مما يحرمها من مكونات التكنولوجيا الفائقة التي لا يمكن استبدالها محليا أو من خلال موردين بديلين.
كما فرض الاتحاد الأوروبي وكندا واليابان ونيوزيلندا عقوبات واسعة النطاق على روسيا.

في المحصلة

قد تكون الاجراءات العقابية الغربية خانقة بالنسبة الى روسيا الا انها لن تسهم حتماً في استعادة وحدة الاراضي الاوكرانية التي سُلخت عنها مقاطعتان باتتا جمهوريتين مستقليتين باعتراف ودعم روسيين.
فالمفاوضات التي ستتم ستكون على “ايقاع سخونة الحرب” وسترتكز حتماً على شروط بوتين حيال تمدد “الناتو” في اوروبا الشرقية. وقد اظهرت الحرب الباردة ان تجنب الأسوأ لا يحتاج الى معاهدات علنية، بل على العكس الى تفاهمات ضمنية، اذ ان ما من معاهدة من المعاهدات التي أبرمت بعد العام 1945 نصت على أن الأسلحة النووية لن تستخدم مرة أخرى في الحرب.


ولعلّ المستفيد الأكبر ستكون الصين التي باتت تشكل قطبية ثالثة في العالم. والتاريخ هنا ليثبت القول بالفعل. فتعاون موسكو والصين في اواخر الاربعينيات عبّد الطريق امام التوسع الشيوعي في آسيا وأمام الحرب الكورية، قبل ان يؤدي تعاون بيكين وواشنطن في السبعينيات الى حشر موسكو في الزاوية.


وما تمدد الصين اليوم في اكثر من منطقة آسيوية عبر “مبادرة الحزام والطريق” سوى ابرز دليل على ذلك.
وإذا كان هدف بوتين، كما يتفق عليه المحللون، ليس “إعادة إنشاء الاتحاد السوفيتي ولكن جعل روسيا عظيمة مرة أخرى “… فإن سياساته في العقدين الأخيرين تصب كلها في هذا الاتجاه. فتبدو الحرب على اوكرانيا “رابحة” روسياً حتى قبل ان تبدأ فيما اوكرانيا تُركت فعلياً وحيدة في ساحة المعركة. ولعلّ اكبر دليل هو اعلان رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون ان “لندن مستعدة لمنح اللجوء للقيادة الاوكرانية”، كما تأكيد الرئيس الاميركي “إذا تجاوز بوتين أوكرانيا وتدخل في أراضي أي دولة من الناتو فسنتدخل نحن أيضاً”.

المقال للكاتبة والصحفية ـجوسلين حداد الدبس

صحافية منذ نحو 36 عاماً في وسائل اعلامية مكتوبة ومرئية عدة. كتبت مقالات وتحقيقات سياسية واجتماعية في كل من مجلة “المسيرة” و”القافلة” و”الفارس” – دار الصياد وصحيفتي “الحياة” و”نداء الوطن”. احتلت منصب رئيسة تحرير الاخبار في تلفزيون “او تي في” ومسؤولة فترة اخبارية في تلفزيون “ال بي سي آي”.

اترك تعليقا