المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

تقرير التوازن العسكري 2022اتجاهات الإنفاق الدفاعي والتسلح في العالم

محمد بسيوني عبدالحليم

على الرغم من موجة التضخُّم العالمي وتأثيرات جائحة كورونا، استمرت مُعدَّلات الزيادة في الإنفاق العسكري العالمي خلال عام 2021، بنسبة 1.8% مقارنةً بعام 2020. وحسب تقرير التوازن العسكري 2022 الصادر عن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISS، فإن بعض الدول لجأت إلى زيادة إنفاقها العسكري، كالولايات المتحدة، في عام 2021، ليصبح نحو 754 مليار دولار بعد أن كان 775 مليار دولار تقريباً في عام 2020. وفي حين أن التخفيض قد طال بعض دول الشرق الأوسط، فإن المنطقة ظلت تحتل مرتبة متقدمة في الإنفاق العسكري العالمي مقارنةً بالناتج المحلي الإجمالي؛ حيث تأتي عشر دول من المنطقة ضمن قائمة أكبر الميزانيات الدفاعية نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي. وربما تبقى الدلالة الرئيسية في معدلات الإنفاق العسكري أنه مرتبط بالسياقات الإقليمية والدولية المُعقَّدة والمتشابكة والموسومة بتصاعد حدة الصراعات. وبالرغم من التهديدات التي طرحها فيروس كورونا المستجد عالميّاً، التي كانت من المتوقع أن تعمل على تخفيف حدة الصراعات، وأن تؤثر بالتبعية على عمليات التسلح؛ فإن السمات الرئيسية للعلاقات بين الدول في السنوات الأخيرة مضت في عكس ذلك الاتجاه، فباتت العلاقة بين الصراعات القائمة والإنفاق العسكري علاقة معقدة يصعب معها تحديد درجة تأثير كل متغير منهما على الآخر. صحيح أن تقدير الدولة للتهديدات المحيطة بها يجعلها تنفق المزيد على شراء الأسلحة، لكنها في الوقت الذي تزيد فيه مخزونها من الأسلحة، تُعظِّم احتمالات الصراع، وقد تخلق صراعات جديدة مع أطراف جدد، وهي صراعات ستؤدي بدورها إلى المزيد من الطلب على الأسلحة.

اتجاهات الإنفاق

يعكس تقرير التوازن العسكري 2022 درجة من التفاعل بين عدد من المتغيرات المؤثرة في مسار الإنفاق العسكري للدول، وفي مقدمتها استمرار التهديدات الخارجية لأمن الدول، والتنافس الدولي القائم بين الولايات المتحدة وكل من الصين وروسيا، وكذلك التأثيرات الاقتصادية الناجمة عن فيروس كورونا. وفي هذا الصدد، يكشف استقراء الإنفاق العسكري العالمي خلال العام الماضي (2021) عن عدد من الاتجاهات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– تحجيم التضخم المتزايد للإنفاق العسكري العالمي: صحيح أن الإنفاق الدفاعي العالمي الإجمالي بلغ خلال عام 2021 نحو 1.92 تريليون دولار أمريكي بزيادة عن إجمالي الإنفاق العسكري خلال عام 2020 الذي كان يُقدَّر الإنفاق فيه بنحو 1.83 مليار؛ فإن موجة التضخم العالمية التي واجهتها العديد من الدول كان لها تأثير عكسي على القيمة الحقيقية للإنفاق العسكري، التي يبدو أنها انخفضت (في ضوء التضخم) خلال عام 2021 بنسبة 1.8%. ويُلاحَظ أن تأثيرات التضخم كانت حاضرة في الإنفاق العسكري على مستوى العديد من الأقاليم؛ وذلك على غرار أمريكا اللاتينية، وإفريقيا، وروسيا، وأوراسيا، وكذلك منطقة الشرق الأوسط التي شهدت، نتيجةً للتضخم، تراجعاً في القيمة الحقيقية للإنفاق العسكري، وحسب التقرير، بلغ متوسط الانخفاض في الإنفاق العسكري نحو 3.6% سنويّاً على مدار أربع سنوات سابقة. وعطفاً على ما سبق، يبدو أن استمرار الارتفاع في معدلات التضخم سيفرض المزيد من الضغوط على النفقات العسكرية للدول مع زيادة التكاليف، وكذلك ربما يطالب الأفراد العسكريون بأجور أعلى لمواكبة الزيادات في تكلفة المعيشة.

2– تداعيات متباينة لجائحة كورونا على الإنفاق الدفاعي: يُلاحَظ أن جائحة كورونا كان لها تأثيرات متباينة على أرقام الإنفاق العسكري للدول؛ فثمة دول لجأت إلى تخفيض إنفاقها العسكري بصورة فعلية، بينما واصلت دول أخرى تعزيز إنفاقها العسكري. وتكشف خريطة الدول التي خفَّضت إنفاقها عن مجموعة من الدول، في مقدمتها الولايات المتحدة التي خفضت إنفاقها العسكري في عام 2021 ليصبح نحو 754 مليار دولار بعد أن كان 775 مليار دولار تقريباً في عام 2020، كما خفضت عدد من دول الشرق الأوسط إنفاقها العسكري؛ وذلك على غرار تركيا التي انخفض إنفاقها من 10.88 مليار دولار (عام 2020) إلى 10.16 مليار دولار خلال عام 2021، وكذلك خفضت السعودية إنفاقها العسكري بقدر واضح في عام 2021 ليصبح 46.67 مليار دولار بعد أن كان 52 مليار دولار خلال عام 2020، ويرتبط هذا التراجع في الإنفاق العسكري السعودي بخطط الدولة لضبط نفقاتها ضمن استراتيجيات التعافي من تراجع أسعار النفط في السنوات الأخيرة، ناهيك عن التداعيات الاقتصادية الناجمة عن جائحة فيروس كورونا.

وعلى الجانب الآخر، لم يكن لجائحة كورونا تأثير سلبي على النفقات العسكرية لمجموعة من الدول التي عملت على تعزيز هذه النفقات للتعامل مع مجموعة من التهديدات أو للتكريس لطموحاتها الإقليمية والدولية، وفي مقدمة هذه الدول الصين التي ارتفع إنفاقها من 188.6 مليار دولار في عام 2020 إلى 207.34 مليار دولار في عام 2021. كما زاد الإنفاق العسكري لعدد من الدول الأوروبية، على غرار فرنسا التي زاد إنفاقها من 54.86 مليار دولار في عام 2020 إلى 59.34 مليار دولار في عام 2021، وألمانيا التي وصل إنفاقها العسكري في عام 2021 إلى 56.05 مليار دولار بعد أن كان 52.09 مليار دولار في عام 2020.

3– استمرار الصدارة الأمريكية والصينية لميزانيات الدفاع العالمية: تظل الولايات المتحدة والصين من أكبر الدول على المستوى العالمي في الميزانيات الدفاعية والإنفاق العسكري خلال عام 2021؛ فقد كانت الولايات المتحدة المحرك الرئيسي لنمو الإنفاق العسكري العالمي، وجاءت في المرتبة الأولى من حيث الإنفاق بإجمالي إنفاق 754 مليار دولار. وجاءت الصين في المرتبة الثانية عالميّاً بمعدل إنفاق نحو 207.3 مليار دولار. وهو الأمر الذي يعكس حالة التنافس الشديدة بين الدولتين على قيادة النظام الدولي. ويأتي بعد الدولتين مجموعة أخرى من الدول الطامحة إلى تعزيز نفوذها أو حتى تلك التي تواجه تهديدات إقليمية تدفعها نحو تعزيز نفقاتها العسكرية؛ حيث تأتي المملكة المتحدة في المرتبة الثالثة بإجمالي إنفاق 71.6 مليار دولار، ثم الهند بمعدل إنفاق 65.1 مليار دولار، وتأتي روسيا في المرتبة الخامسة بإجمالي إنفاق 62.2 مليار دولار.

4– ثبات أهمية الإنفاق العسكري بمنطقة الشرق الأوسط: تحتل منطقة الشرق الأوسط مرتبة متقدمة في الإنفاق العسكري العالمي مقارنةً بالناتج المحلي الإجمالي؛ حيث تأتي عشر دول من المنطقة ضمن قائمة أكبر ميزانيات دفاعية نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي، فقد جاءت أفغانستان في المرتبة الأولى عالمياً بمعدل إنفاق عسكري يساوي 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي. وجاءت بعدها سلطنة عمان بنسبة 8% من الناتج المحلي، ثم الكويت بنسبة 7.3%، وبعدها كل من السعودية والجزائر بالمُعدَّل نفسه بنسبة 5.5% من الناتج المحلي الإجمالي. ويلاحظ في هذا الصدد، أن متوسط الإنفاق العسكري في المنطقة نسبةً إلى الناتج المحلي الإجمالي على مدار السنوات الماضية (وتحديداً منذ عام 2016)، كان يدور حول نسبة متقاربة، وإن كانت هذه النسبة وصلت إلى أدنى مستوياتها في عام 2021؛ حين كان الإنفاق يمثل 4.98% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2016، ووصل في عام 2020 إلى 4.99%، ثم أصبح في عام 2021 يقدر بنحو 4.10%.

مُحفِّزات التسلح

بالرغم من تخفيض بعض الدول إنفاقها العسكري في عام 2021، ظل الارتفاع في مجمل الإنفاق العسكري العالمي هو الاتجاه المهيمن على توجهات الدول، وهو الأمر الذي انعكس في ارتفاع الإنفاق العسكري بكافة الأقاليم، باستثناء أمريكا الشمالية التي تراجع الإنفاق العسكري فيها نتيجة لانخفاض الإنفاق العسكري الأمريكي. ولا يمكن إغفال أن هذه الزيادة في الإنفاق العسكري ترتبط بعدد من المحفزات الرئيسية المتمثلة فيما يلي:

1– التخوُّف الأوروبي من التحركات الروسية: أثارت السياسة الروسية في شرق أوروبا خلال السنوات الماضية، وخاصةً بعد تدخل روسيا في أوكرانيا وضمها شبه جزيرة القرم عام 2014؛ الكثير من الهواجس الأوروبية، وخصوصاً أن موسكو استمرت في مسار التصعيد عبر التهديد بتنفيذ عملية عسكرية ضد أوكرانيا على مدار عامي 2021 والشهور الأولى من عام 2022. وبناءً عليه، شكَّل هذا السياق المأزوم في شرق أوروبا محفزاً على الإنفاق العسكري الأوروبي، الذي استمر في الزيادة خلال السنوات الماضية بصرف النظر عن تداعيات جائحة كورونا؛ فعلى سبيل المثال، كان الإنفاق العسكري الأوروبي خلال أعوام 2019 و2020 و2021 يُقدَّر بـ299.2 مليار دولار و313.48 مليار دولار و350.845 مليار دولار على التوالي.

وفي هذا السياق، فإن ثمة توقعات أن يستمر الإنفاق العسكري الأوروبي في الزيادة، نظراً إلى طبيعة السياسات الروسية، وإلى اعتقاد العديد من مسؤولي حلف الناتو أن روسيا تمتلك القدرة على خلق تحديات متنوعة في مواقع متعددة، وربما تقوض قدرة الحلف على تشكيل استجابة متماسكة وسريعة، وهو أمر لا يقتصر على شرق أوروبا ومناطق النفوذ التاريخي لروسيا فقط، بل يمتد إلى بعض المناطق الأخرى، على غرار القطب الشمالي؛ حيث يثير الاستثمار الروسي في البنية التحتية هناك قلق دول حلف الناتو. ولعل هذا ما يفسر إعادة تركيز انتباه الدول الغربية على تطوير القدرات وزيادة التدريبات؛ وذلك من قبيل تدريبات الاستجابة الباردة cold response التي من المزمع أن تُجرَى في ربيع عام 2022 بمشاركة نحو 40 ألف جندي من دول حلف الناتو؛ وذلك بقيادة النرويج، وهي المناورة التي يصفها البعض بأنها قد تكون أكبر مناورة عسكرية داخل القطب الشمالي منذ نهاية الحرب الباردة.

2– تصاعد التنافس على قيادة النظام الدولي: لا يزال التنافس على قيادة النظام الدولي واحداً من المحفزات الرئيسية على استمرار التزايد في الإنفاق العسكري العالمي؛ فالوثائق والتصريحات الصادرة عن القيادة الأمريكية تؤكد ضرورة مواجهة التهديدات التي تمثلها كل من روسيا والصين؛ وذلك مع التركيز بصورة رئيسية على بكين التي ينظر إليها العديد من صانعي القرار في واشنطن على أنها التهديد الرئيسي لواشنطن ونفوذها العالمي. وهنا، يتحدَّث وزير الدفاع الأمريكي “لويد أوستن” عن مفهوم الردع المتكامل integrated deterrence الذي يُشير إلى الجمع بين الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية وكذلك سياسة التحالفات في إطار شامل للتعامل مع صعود الصين وردعها. وبالرغم من تراجع الإنفاق العسكري الأمريكي خلال عام 2021 فإن الولايات المتحدة لا تزال الدولة الكبرى من حيث الإنفاق بفارق شاسع عن الصين وروسيا. وفي مقابل هذه الرؤية الأمريكية، تطمح كل من الصين وروسيا إلى تعزيز حضورهما في النظام الدولي، في ظل اقتناعهما بأنهما تمتلكان القدرة على المشاركة في قيادة هذا النظام. وبناءً عليه حرصت الدولتان على تطوير قدراتهما العسكرية، سواء بزيادة المخصصات أو من خلال تطوير منظومة التسليح، وامتلاك أسلحة أكثر تقدماً.

3– اتجاهات تعزيز الحضور في الهندوباسيفيك: كشفت السنوات الأخيرة عن طموحات بعض الدول نحو تمديد حضورها العسكري والأمني في مناطق مختلفة. ولعل النموذج الأهم على ذلك منطقة الهندو–باسيفيك التي استقطبت اهتمام عدد من القوى الدولية، ومنها القوى الأوروبية؛ إذ بدأ عدد من الدول الأوروبية في صياغة رؤيتها لدور أمني في منطقة المحيطين الهندي والهادي؛ فعلى سبيل المثال، تنص وثيقة استراتيجية الهندو–باسيفيك لعام 2021 الخاصة بفرنسا على أنها تهدف إلى زيادة قابلية التعاون مع الشركاء الإقليميين، بما في ذلك أستراليا والهند واليابان والولايات المتحدة، مع إجراء عمليات انتشار وتدريبات. كما نشرت ألمانيا خطوطاً عريضة لسياستها في الهندو–باسيفيك في عام 2020، وتعتزم أيضاً توسيع نطاق وجودها في التدريبات وعمليات الانتشار الإقليمية. وفي هذا الصدد، من المزمع أن تشارك ألمانيا، خلال عام 2022، في تمرين Pitch Black الذي تقوده أستراليا، كما تخطط برلين لتعزيز شراكات الدفاع الثنائية مع أستراليا واليابان على وجه الخصوص. ومن جهتها، تتعاطى بريطانيا مع منطقة الهندو–باسيفيك كمنطقة حيوية بالنسبة إلى المصالح الأمنية والاقتصادية لها.

4– تصاعد التوترات في الشرق الأوسط وآسيا: لا ينفصل استمرار التزايد في معدلات الإنفاق العسكري العالمي عن الصراعات الإقليمية المحتدمة في أكثر من منطقة؛ ففي الشرق الأوسط، لا تزال الصراعات محتدمة في المنطقة بالرغم من حالة التهدئة العسكرية في بعض الملفات على غرار الملف الليبي، وخاصةً مع مواصلة السياسة الإقليمية لإيران وطموحات التوسع المهيمنة عليها. واللافت أن الإنفاق العسكري الإيراني شهد ارتفاعاً واضحاً، حسب تقرير التوازن العسكري، خلال عام 2021 ليصل إلى 25 مليار دولار مقارنةً بـ16.55 مليار دولار في عام 2020. وفي مقابل هذا الإنفاق الإيراني، عملت إسرائيل –التي تنظر إلى إيران كتهديد رئيسي لها– على زيادة إنفاقها العسكري خلال عام 2021 ليصل إلى 20.23 مليار دولار مقارنةً بـ17.23 مليار دولار خلال عام 2020. كما كانت ديناميات التنافس الإقليمي حاضرة في النطاق الآسيوي؛ فدولة مثل الهند زادت إنفاقها العسكري في 2021، الذي يُقدِّر بـ65.08 مليار دولار مقارنةً بـ63.51 مليار دولار خلال عام 2020، وهو التوجه المرتبط بالصراع القائم بين الهند وكل من باكستان والصين، علاوةً على التخوف الهندي من الارتدادات المحتملة لسيطرة حركة طالبان على السلطة في أفغانستان.

5– تزايد حدة تهديدات الفاعلين من غير الدول: كشفت السنوات الماضية عن بزوغ موجة جديدة من التهديدات غير التقليدية أمام الدول، وفي مقدمتها تصاعد تهديد الفاعلين العنيفين من غير الدول، والنماذج المتنوعة من الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية التي باتت تمتلك أسلحة متطورة قادرة على تهديد أمن الدول. ولعل المثال الأبرز على ذلك ميليشيا الحوثي في اليمن، والتطور الحادث في قدراتها التسليحية. وعلاوةً على ذلك، فقد باتت الدول تواجه مجموعة متنوعة من التهديدات السيبرانية التي دفعت الدول إلى تطوير قدراتها العسكرية السيبرانية. ومن ذلك أيضاً التغير المناخي الذي يعد واحداً من التهديدات غير التقليدية للدول، لا سيما أنه قد يلعب دوراً محفزاً إضافيّاً على نشوء صراعات تفرض ضغوطاً جديدةً على جيوش الدول ونفقاتها العسكرية.

التطوير الدفاعي

سعت العديد من الدول، خلال السنوات الأخيرة إلى تطوير قدراتها العسكرية عبر الحصول على مجموعة من الأسلحة النوعية التي تمنحها قدراً من التفوق في أي مواجهة عسكرية ضد أطراف أخرى، ناهيك عن توسع الدول في برامج التصنيع العسكري الوطني، وهو ما يظهر من خلال الأبعاد الثلاثة التالية:

1– التوسع في برامج الابتكار والتطوير العسكري: أوضح التوجه الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي (NSSG) لإدارة بايدن، الذي صدر في مارس 2021؛ أن دعم القدرات الدفاعية الأمريكية يتطلَّب تعزيز تدريب القوات والجاهزية وكذلك عمليات الابتكار والتحديث العسكري، كما تشير الميزانية الأولى لإدارة بايدن إلى تخصيص مبلغ يُقدر بـ112 مليار دولار أمريكي للبحث والتطوير، والاختبار والتقييم. وتحدد الميزانية العديد من التقنيات باعتبارها أساسية في التحديث والابتكار؛ وذلك على غرار الإلكترونيات الدقيقة، والذكاء الاصطناعي، وشبكات الجيل الخامس 5G، ومجالات التسليح فوق الصوتية (فرط الصوتية) hypersonics. وتؤكد الصين هي الأخرى فكرة الابتكار والتطوير في كافة المجالات، بما فيها المجال العسكري. وتضع بكين عملية تحديث الجيش هدفاً رئيسيّاً خلال السنوات القادمة، ولعل هذا ما أعادت تأكيده الخطة الخمسية الرابعة عشرة (FYP) الصادرة في عام 2021، التي حددت هدف عام 2035 بإنشاء “صين مسالمة وآمنة”، وهو الهدف المرتبط –حسب الوثيقة– بتسريع عملية التحديث الدفاعي، وبناء جيش حديث بحلول عام 2027. وتظهر أيضاً فكرة الابتكار والتحديث العسكري في توجهات حلف الناتو الذي يسعى إلى تسريع عملية الابتكار الدفاعي لشمال الأطلنطي a Defence Innovation Accelerator for the North Atlantic (DIANA)، علاوةً على استخدام صندوق الابتكار التابع للحلف من أجل تعزيز التطور التكنولوجي، وإمكانية التشغيل البيني، والقدرة على دمج التقنيات ذات الاستخدام المزدوج.

2– تسارع عمليات تحديث منظومات التسلح: عملت العديد من الدول، خلال السنوات المختلفة، على تحديث منظومتها التسليحية. ويرتبط هذا التحديث بعدد من المجالات المهمة، مثل تبني تقنيات تأمين القوات البرية؛ إذ يواصل الجيش الصيني تجارب أنظمة المركبات الأرضية غير المأهولة (UGV)؛ للقيام بعدد من المهام منها التخلص من الذخائر المتفجرة، والدوريات، والاستطلاع؛ وذلك بهدف تقليل الخسائر البشرية وتأمين قواتها. كما تمتلك روسيا برنامجاً لتطوير المركبات المدرعة استناداً إلى منصات Armata وKurganets–25 وBumerang الجديدة، كما أدخلت وزارة الدفاع الروسية بعض التحديثات على أسطول المركبات المدرعة والدبابات، ومنها الدبابة T–72B3؛ وذلك بإضافة المزيد من الحماية لها في المناطق الحضرية، وهو ما يشمل قفصاً قابلاً للإزالة أو درعاً شبكيةً تغطي الجزء العلوي من البرج. ومن المحتمل أن يكون الغرض منه الحماية ليس من النيران الموجهة من الطوابق العليا للمباني فقط، بل ضد الهجوم العلوي من بعض أنواع الصواريخ المضادة للدبابات أو الطائرات بدون طيار أيضاً. كما تم الإعلان في معرض الجيش الروسي عام 2021 أن مركبات قتال المشاة BMP–3 ستتلقَّى أيضاً مجموعات من الدروع القفصية والدروع التفاعلية المتفجرة؛ وذلك ضمن برنامج التحديث العسكري.

وإضافة إلى التنافس على الأسلحة فوق الصوتية، بات تطوير الصواريخ الفائقة السرعة (فوق الصوتية) hypersonic يستحوذ على اهتمام الكثير من الدول؛ فالولايات المتحدة تضع برنامج السلاح فوق الصوتي الطويل المدى (LRHW) (المعروف باسم دارك إيجل Dark Eagle) كواحد من أهم برامج التحديث العسكري لديها، وخاصةً أن خصمَيْها التقليديَّيْن (الصين وروسيا)، تمكَّنا من قطع خطوات جادة في هذا المسار؛ فقد أعلنت موسكو، على سبيل المثال، في شهر أكتوبر 2021 أن الأسطول الروسي نجح في تجربة لإطلاق صاروخ “زيركون” أسرع من الصوت من الغواصة النووية “سيفيرودفينسك”. وفي سياق ذي صلة، أشارت تقارير أمريكية صادرة في شهر أكتوبر 2021، إلى أن الصين أجرت محاولة لإطلاق صاروخ “هايبرسونيك” عبر الفضاء. وبالرغم من نفي بكين هذه التقارير، فإنها لا تزال واحدة من الدول التي تمتلك برنامجاً متقدماً في هذا المجال، حتى إنها كشفت في عام 2019 عن امتلاكها صاروخاً أسرع من الصوت متوسط المدى من طراز DF–17، ويمكنه اجتياز 2000 كم وحمل رؤوس نووية. وعلاوةً على ذلك، أشارت تقارير في نهاية عام 2021 إلى أن الصين نجحت في تطوير الجيل التالي من الأسلحة التي تفوق سرعة الصوت؛ وذلك باستخدام تكنولوجيا التوجيه بالأشعة تحت الحمراء. ووفقاً لهذه التقارير، باتت الصين قادرة على إنتاج صواريخ مزودة بتقنية البحث عن الحرارة التي قد تسمح للصواريخ بالوصول إلى أي هدف تقريباً، بما في ذلك الطائرات الشبح، والمركبات المتحركة، بدقة وسرعة غير مسبوقَيْن.

وذلك بجانب تعزيز الاستفادة من إمكانات الدرونز؛ حيث أثبت الطائرات المسيرة (الدرونز) خلال السنوات الأخيرة قدرتها على إحداث تغييرات في توازنات القوة العسكرية في أكثر من صراع، ومن ثم لجأت العديد من الدول إلى تطوير برامج الطائرات المسيرة لديها. ويبرز في هذا الإطار كل من تركيا والصين؛ فتركيا تعد تعتمد على الطائرات المسيرة في عملياتها العسكرية بمنطقة الشرق الأوسط. ليس هذا فحسب، بل أصبحت تستخدمها أداة للترويج لصناعتها العسكرية في الخارج وتوظيفها بصورة غير مباشرة في التأثير في ديناميات الصراعات الأخرى. ولعل النموذج الأبرز على ذلك، بيع أنقرة طائرات درونز لأوكرانيا على النحو الذي أثار استياء روسيا. كما عملت بكين على تطوير برنامج الطائرات المسيرة لديها، واستخدام طائرات بدون طيار كبيرة من طراز CH–4 في المهام القتالية، والاستخبارات، والمراقبة، والاستطلاع. وثمة تقارير تتحدث عن إجراء الجيش الصيني اختبارات تستهدف إقران الطائرات المسيرة CH–4 بطائرات الهليكوبتر الهجومية WZ–10.

يُضَاف إلى ذلك تصاعد اهتمام العديد من الدول بتطوير قدراتها البحرية في ظل ارتفاع وتيرة التنافس على النفوذ في المياه الدولية؛ فقد أصبحت الكثير من الدول مهتمة بتطوير حاملات الطائرات الكبيرة على غرار حاملة الطائرات الأمريكية الضخمة “جيرالد فورد”، التي من المقرر أن تبدأ الانتشار في العام الجاري، كما أن الصين على وشك إطلاق حاملة الطائرات الثالثة الخاصة بها، التي تحمل اسم type–003، التي توصف بأنها أضخم من سابقتَيْها. وبالرغم من عدم الإعلان رسميّاً عن قدرات هذه الحاملة، فإن العديد من التقارير تشير إلى امتلاكها إمكانات متقدمة، من قبيل نظام إطلاق الطائرات الكهرومغناطيسي (EMALS) بدلاً من المنجنيق البخاري أو العادي. كما تُجرِي الهند تجارب على ناقلتها المُصنَّعة محليّاً، INS Vikrant، ويُتوقَّع أن تبدأ العمل في العام الجاري. كما تعمل اليابان على تطوير وتعديل حاملتي طائرات هليكوبتر لديها حتى يمكن لطائرات “F–35Bs” الهبوط عليها. ويلاحظ أيضاً أن عام 2021 شهد اهتمام عدد من الدول بتطوير غواصاتها؛ فقد سمحت اتفاقية “أوكوس” التي وُقِّعت في شهر سبتمبر الماضي بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا للأخيرة بامتلاك غواصات تعمل بالطاقة النووية. وفي شهر سبتمبر 2021، أعلنت كوريا الجنوبية إجراء تجربة ناجحة لإطلاق صاروخ باليستي من غواصة، كما يستمر البرنامج الروسي الخاص بتطوير الغواصات النووية. وعلاوةً على ذلك، أشارت تقارير، في شهر يوليو 2021، إلى أن الصين تركب مضخات نفاثة بدون أعمدة في الغواصات النووية من الجيل التالي.

3– تنامي برامج التصنيع العسكري الوطني: تشكِّل برامج التصنيع العسكري الوطني اتجاهاً واضحاً في منطقة الشرق الأوسط خلال السنوات الأخيرة؛ حيث صاغت دول عديدة برامج للتوسع في التصنيع العسكري الوطني، ومنها السعودية التي تستهدف رؤيتها 2030 توطين 50% من الإنفاق الدفاعي العسكري بحلول عام 2030. وقد انعكست هذه الرؤية على الاتفاقيات التي وقَّعتها السعودية مع دول أخرى بهدف تطوير الصناعات العسكرية المحلية. ومن هذه الاتفاقيات تلك التي وقَّعتها الشركة السعودية للصناعات العسكرية (SAMI)، في شهر فبراير 2021، مع شركة لوكهيد مارتن لتأسيس مشروع مشترك. وذكرت الشركة السعودية حينها أن المشروع الذي تمتلك 51% منه، سيعمل على “تطوير قدرات التوطين من خلال نقل التقنية والمعرفة وتدريب الكوادر السعودية على تصنيع المنتجات وتقديم الخدمات لصالح القوات المسلحة السعودية”.

وختاماً، فإن مؤشرات الإنفاق الدفاعي الدولي التي كشف عنها تقرير التوازن العسكري، تشير إلى أن مسار الاتفاق العسكري الدولي مستمر في التزايد. وبالرغم من التأثيرات المعاكِسة التي يمكن أن تفرضها المشكلات الاقتصادية التي تواجهها العديد من الدول، وخصوصاً أن أزمة جائحة كورونا لا تزال قائمة؛ فإن السياقات الإقليمية والدولية الراهنة تدفع الدول نحو مواصلة الاهتمام بتطوير قدراتها العسكرية لاعتبارات عديدة؛ قد يكون أهمها التطور الحادث في بيئة التهديدات الأمنية، ونشوء أنماط جديدة من التهديدات غير التقليدية التي تستدعي من الدول تطوير قدرات المواجهة غير التقليدية. أضف إلى ذلك، حالة الشك التي باتت تحيط بقدرة الولايات المتحدة على قيادة النظام العالمي، في ظل بزوغ قوى دولية طامحة إلى تكريس مكانتها الدولية ومناوأة القيادة الأمريكية، وبالأخص روسيا والصين.

المصدر : انترريجنال التحليلات الاستراتيجية

اترك تعليقا