المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

ستيف ريتشاردز في «رؤساء حكومات بريطانيا»: زعماء قادوا شعبهم نحو سياسات خارجية خاطئة

ما هي المقومات والميزات المطلوبة لدى أي سياسي لقيادة بلد ضخم وفاعل في العالم لعب أو يلعب دوراً تاريخياً بارزاً وينتسب إلى الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن التي تمتلك حق النقض «الفيتو»؟

هذا سؤال يحاول ستيف ريتشاردز، الصحافي الإذاعي والتلفزيوني في هيئة الإذاعة البريطانية «بي.بي.سي» والكاتب في صحف بريطانية مثل «غارديان» و«اندبندنت» وغيرها، الإجابة عليه بالنسبة إلى الدولة البريطانية في كتاب بعنوان «رؤساء حكومات بريطانيا، تأملات حول قيادة بريطانيا من هارولد ويلسون إلى بوريس جونسون» علماً أنه قابل معظم هؤلاء القادة شخصياً في لقاءات مباشرة معهم في وسائل الإعلام التي عمل فيها.

يؤكد ريتشاردز في هذا الكتاب ان الصفة الرئيسية المطلوبة من قائد لبلد كبريطانيا هي القدرة على إقناع الشعب وقيادات الأحزاب البارزة (وخصوصاً نواب الحزب الحاكم) بانه القائد الأمثل الممُسك بزمام الأمور في فترات الأزمات الصعبة وأنه ليس متردداً أو ضعيفاً في مثل تلك الحالات.

مثل هذه القدرة في العادة، حسب قول المؤلف، تُكتسب عبر احتلال مناصب وزارية أو قيادية في المعارضة قبل الانتقال إلى رئاسة الحكومة. ولكن هذا الأمر ليس شرطاً من المستحيل تجاوزه. فالقائد العّمالي السابق توني بلير وصل إلى رئاسة الحكومة البريطانية عام 1997 بعد 18 عاما من حكم حزب المحافظين من دون ان يكون احتلّ منصباً وزارياً قبل ذلك، وبقي في منصبه الرئاسي الحكومي عشر سنوات.

غير أنّ ريتشاردز يُقدم في الكتاب تحفظات هامة حول سياسات توني بلير الخارجية وخصوصاً قراره مشاركة بريطانيا في حرب الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن ضدّ العراق في عام 2003.

فيقول في الصفحات (246 إلى 249) من الفصل السادس: «من أهم دوافع بلير لخوض حرب العراق إلى جانب بوش الابن سعيه للتأكيد بأنه كزعيم وقائد عّمالي يساري بامكانه العمل مع رئيس أمريكي يميني من الحزب الجمهوري، كما كان قد فعل سابقاً مع الرئيس الأمريكي الديمقراطي بيل كلينتون في الأزمة الإيرلندية. كما خشي من أن يسبقه زعيم المعارضة المحافظة (آنذاك) ايان دانكان سميث إلى تأييد بوش الابن وأن يسحب من يديه ورقة سياسية هامة». ويضيف: «مشاركة بلير في حرب أمريكا في العراق أتت بشكل رئيسي لأن المبادرة للقيام بالعملية ضّد (الرئيس العراقي) صدام حسين أتت من رئيس الجمهورية الأمريكية وليس من جانب أي قائد عالمي آخر، الأهم بالنسبة لبلير استراتيجياً كان أن يظهر أمام الشعب البريطاني بانه مقرّب من الرئيس الأمريكي ولن يهدّد العلاقة البريطانية-الأمريكية الخاصة، وخصوصا بعدما تأكد بلير بأن بوش وأعوانه في القيادة سينفذون الهجوم على العراق وسيفعلون كلّ ما في وسعهم للعثور على أدلة لتنفيذ مشروعهم، حتى لو لم يحصلوا على قرار من مجلس الأمن في هيئة الأمم المتحدة يعطيهم الضوء الأخضر لذلك».

ويعتبر ريتشاردز انه من الخطأ الاعتقاد بان بلير قرر مشاركة بريطانيا في حرب العراق لكونه يمتلك معتقدات دينية أو أخلاقية ذات طابع صليبي غربي بأنه ينقذ العالم من الشر. فبلير أدرك بعد خطاب بوش الابن حول «محور الشر» في منطقة الشرق الأوسط وربط (الرئيس) صدام حسين به في خطاباته منذ عام 2002 بأن الهجوم الأمريكي أصبح قريبا وانه لا يود ان يبقى خارج اللعبة السياسية وان يتهمه الجمهور الوسطي البريطاني بالتخاذل وعدم الوفاء للحليفة الدائمة لبريطانيا وهي تاريخياً الدولة الأمريكية التي دعمتها في الحربين العالميتين الأولى والثانية وفي مناسبات أخرى.

بيد ان المؤلف يشير أيضا إلى الموقف الشجاع لوزير الخارجية البريطاني الراحل روبن كوك الذي فضل الاستقالة رفضاً لحوض بريطانيا حرباً غير مبرّرة، وحذر كوك بلير (آنذآك) من ان خوضه حرب العراق من دون قرار أممي سيخسره شعبيته، وهكذا كان (ص249).

ويوضح ريتشاردز بأن بلير حاول اقناع بوش الابن بتقديم التزامات أمريكية سياسية بالنسبة للقضية الفلسطينية للتغطية على مشروعه العسكري في العراق، ففعل بوش ذلك بطريقة غامضة وغير حاسمة لمحاولة إبعاد النظر عن ان المفتشين الدوليين لم يؤكدّوا أمر امتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل. كما ان بلير فوجئ (ولكنه تجاهل) مظاهرة المليون التي جرت في شوارع لندن في شباط (فبراير) 2003 ضد غزو العراق (ص252 و253).

وبالنسبة للفصل العاشر من الكتاب الذي أضافه الكاتب لاحقاً إلى النسخة الأخيرة الورقية الغلاف للكتاب، فأهم ما ورد فيه ان جونسون، خلافاً للقائد البريطاني الذي يعتبره مثله الأعلى (وينستون تشرتشل) يحاول ان يتجنب الخوض في مواجهات عسكرية دولية منذ تسلمه السلطة، وقبل ذلك في مناصبه الأخرى، ولكن حربه الضروس أتته في المواجهة الشديدة الصعوبة مع فيروس كورونا الخبيث التي ما زال يخوضها، وفي المنازلة الأخرى التي خاضها ضد نصف الشعب البريطاني الذي لم يكن يؤيد الخروج من الاتحاد الأوروبي (مشروع بريكست) والتي رجحت كفته فيها بسبب إجادته إدارة اللعبة السياسية ضد خصميه في حزب المحافظين رئيسة الوزراء السابقة تيريزا ماي، وصاحب المنصب الرئاسي نفسه قبلها ديفيد كاميرون، بالإضافة إلى خصمه في القيادة المعارضة زعيم حزب العمال السابق جيريمي كوربن.

إجادة اللعبة السياسية، كما ذكر الكاتب في مقدمة الكتاب، تتطلب القدرة على إقناع الشعب والقيادات في الحزب الحاكم بصواب مواقفه. وجونسون من دون شك يملك قدرة خطابية وخزّان معلومات حول كثير من الأمور يتيحان أمامه المجال لإقناع عدد كبير من الناس بقضايا في بعض الأحيان من الصعب الاقتناع بها. وهذه الميزة اكتسبها منذ انتخابه عمدة لمدينة لندن فائزاً على شخصية عمالية بارزه تمثلت بالعمدة السابق كين ليفنغستون.

ولكن الأمر اللافت الآخر الذي نفذه جونسون، ولم ينفذه بلير عندما كان رئيسا للحكومة، كان اعتماد رئيس الحكومة الحالي على «الماكيافيلية» أي إقصاء الخصوم أو إضعافهم بداخل الحزب الحاكم والبقاء في موقع الآمر الناهي في شتى الأمور.

ومن ضحايا جونسون في هذا المجال بعض الوزراء السابقين المخضرمين في حزب المحافظين ككنيث كلارك وفيليب هاموند وإطاحة بعض الوزراء والمستشارين في الفترة الأخيرة كجيريمي هانت ودومينيك كامينغز والتضييق على وزراء آخرين كمايكل غوف ودومينيك راب وغيرهما.

وهذا أمر لم يكن بلير قادراً على فعله تجاه ندّه الرئيسي وحليفه السابق في حزب العمال غوردون براون الذي سلبه القيادة في عام 2007 ولكنه فقدها لاحقا بسبب عدم قدرته على الاقناع برغم معرفته الاقتصادية والمالية الواسعة، حسب الكاتب.

كما استطاع جونسون احتواء قدرات الحزب البريطاني الثالث من حيث الشعبية وهو حزب الليبراليين الديمقراطيين عندما نجح رئيس الحكومة الحالي نجاحاً ساحقاً في الانتخابات الاشتراعية التي جرت في نهاية عام 2019 وقلص عدد نواب ذلك الحزب إلى 11 بعدما كانت زعيمته جو سوينسون يعتقد انها ستحظى بعدد كبير من المقاعد لكونها المؤيدة الأولى لبقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي. ونجح جونسون من خلال مناوراته واجتماعاته مع قادة أوروبا الآخرين في إفشال مشروعها وإيهام الشعب البريطاني بان ما يفعله هو كان الأفضل لبريطانيا.

ويستنتج الكاتب بان قادة بريطانيا في الفترة الأخيرة برغم قدراتهم على الشعبوية والمناورة يختلفون عن قادة بريطانيا السابقين خلال عقود النصف الثاني من القرن العشرين، أكان ذلك في عمق التزامهم العمل السياسي أو في خبراتهم السياسية والاقتصادية. ويطرح في هذا المجال أسماء بعض القادة البريطانيين السابقين الذين يعتبرهم من الأبرز في قدراتهم القيادية على شاكلة رئيس الوزراء المحافظ السابق ادوارد هيث، الذي ترأس الحكومة في مطلع سبعينيات القرن الماضي وكان عّراباً للانتماء البريطاني إلى أوروبا، ونظيره العمالي الرئيس جيمس كالاهان ووزير دفاعه وخارجيته دينيس هيلي، كالاهان لاتّزانه وقدرته على الانفتاح نحو الخصوم في الأحزاب الأخرى (خصوصا في حزب الليبرالي الديمقراطي) وهيلي لذكائه ووضوح وقوة مواقفه المبدأية وتمسكه بها.

وإضافة إلى هؤلاء تواجد سياسيون وقادة كبار في مختلف الأحزاب على شاكلة هارولد ويلسون وروي جينكينز وتوني بن وشيرلي ويليامز ومايكل هيزلتاين ودوغلاس هيرد بامكان القادة الحاليين الاحتذاء بهم وبمواقفهم وخبراتهم، حسب المؤلف.

ويختتم ريتشاردز كتابه بجملة عميقة ومفيدة جداّ بالنسبة لمقاربة الكتاب وهي التالية «أصبحت بريطانيا جمهورية من دون رئيس جمهورية» (يقصد في هيكليتها السياسية). أي انّ قادتها يتصرفون كقادة كاريزماتييّن شعبوبين بدلاً من التزام نظام محاسبة القائد على قراراته وخياراته من جانب الشعب ومجلسيّ العموم والشيوخ والأحزاب والمجموعات الأخرى.

Steve Richards: «The Prime Ministers»

Atlantic Books, London 2020

507 pages.

اترك تعليقا