المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

فوكوياما : نهاية الهيمنة الأمريكية

نشرت مجلة #الإيكونوميست  مقالاً لفرانسيس فوكوياما، وهو خبير في السياسة الخارجية وزميل أول في معهد فريمان سبوجلي للدراسات الدولية بجامعة ستانفورد، حول نهاية الهيمنة الأمريكية بعد الانسحاب من أفغانستان، حيث يرى أنه قد لا تمثل أفغانستان نهاية العصر الأمريكي، ولكن التحدي الذي يواجه المكانة العالمية للولايات المتحدة بشكل أكبر هو الاستقطاب السياسي في الداخل. وجاء المقال على النحو التالي:

كانت الصور المروعة للأفغان اليائسين الذين كانوا يحاولون الخروج من كابول  بعد انهيار الحكومة المدعومة من الولايات المتحدة بمثابة منعطف رئيسي في تاريخ العالم، حيث ابتعدت أمريكا عن العالم و(أدارت ظهرها له). وحقيقة الأمر أن نهاية العهد الأمريكي جاءت قبل ذلك بكثير. ولكن الأسباب طويلة المدى للضعف والانحدار الأمريكي هي في الحقيقة محلية أكثر منها دولية. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ستبقى قوة عظمى لسنوات عديدة، إلا أن مدى تأثيرها ونفوذها يعتمد على قدرتها على إصلاح مشاكلها الداخلية، فضلاً عن سياستها الخارجية.

لقد استمرت فترة ذروة الهيمنة الأمريكية لأقل من عشرين عاماً، وذلك منذ سقوط جدار برلين في عام 1989 وتقريبا حتى الأزمة المالية في 2007-2009. حيث كانت الولايات المتحدة مهيمنة في العديد من مجالات القوة آنذاك – العسكرية والاقتصادية والسياسية والثقافية. وكانت ذروة الغطرسة الأمريكية هي غزو العراق في عام 2003، عندما كانت تأمل في أن تكون قادرة على إعادة تشكيل ليس فقط أفغانستان (التي غزتها قبل عامين) والعراق، ولكن منطقة الشرق الأوسط بأكملها.

لقد بالغت الولايات المتحدة في تقدير فعالية القوة العسكرية في إحداث تغيير سياسي أساسي، حتى عندما قللت من تقدير تأثير نموذجها في “اقتصاد السوق الحرة” على التمويل العالمي. وانتهى العقد بتورط قواتها في حربين ضد المتمردين عليها، وأزمة مالية دولية زادت من التفاوتات الهائلة التي أحدثتها العولمة التي تقودها الولايات المتحدة.

كانت درجة الأحادية القطبية في هذه الفترة نادرة نسبياً في التاريخ، وكان العالم يعود إلى حالة من التعددية القطبية أكثر مما اعتاد عليه على مدى تاريخه، في ظل اكتساب الصين وروسيا والهند وأوروبا ومراكز أخرى القوة مقارنة بأمريكا. ومن المرجح أن يكون التأثير النهائي لأفغانستان على الجغرافيا السياسية ضئيلاً. فقد تجاوزت أمريكا هزيمة مذلة سابقاً عندما انسحبت من فيتنام في عام 1975، لكنها سرعان ما استعادت هيمنتها في غضون أكثر من عقد بقليل، وهي تعمل اليوم مع فيتنام للحد من التوسع الصيني. وفي نفس الوقت لا تزال أمريكا تتمتع بالعديد من المزايا الاقتصادية والثقافية التي لا يمكن لكثير من الدول الأخرى أن تضاهيها في ذلك.

إن التحدي الأكبر من ذلك بكثير بالنسبة لمكانة أمريكا العالمية هو محلي بامتياز: فالمجتمع الأمريكي يسوده استقطاب حاد، ومن الصعوبة بمكان الوصول إلى إجماع على أي شيء تقريباً. وعلى الرغم من أن هذا الاستقطاب كان قد بدأ حول قضايا السياسة التقليدية مثل الضرائب والإجهاض، إلا أنه تحوّل منذ ذلك الحين إلى صراع مرير حول الهوية الثقافية. كانت المطالب بالاعتراف من جانب الجماعات التي تشعر بأنها قد تم تهميشها من قبل النخب شيئاً حدّدته قبل 30 عاماً على أنه نقطة الضعف في الديمقراطية الحديثة. في العادة، يجب أن يكون حدوث تهديد خارجي كبير مثل تفشي جائحة عالمية، على سبيل المثال، بمثابة فرصة للمواطنين للالتفاف حول مواجهة مشتركة لمثل هذا التهديد؛ لكن أزمة كوفيد-19 أدت في الحقيقة إلى تعميق الانقسامات في المجتمع الأمريكي، حول التباعد الاجتماعي، وارتداء الأقنعة؛ والآن يُنظر إلى التطعيمات ضد كورونا على أنها مؤشرات سياسية أكثر من حقيقة كونها تدابير للصحة العامة.

وامتدت هذه الصراعات إلى جميع جوانب الحياة، من الرياضة إلى العلامات التجارية للمنتجات الاستهلاكية التي يشتريها الأمريكيون. تم استبدال الهوية المدنية التي افتخرت بها أمريكا باعتبارها ديمقراطية متعددة الأعراق في حقبة ما بعد الحقوق المدنية بروايات متناحرة حول عام (1619) مقابل عام (1776)، أي ما إذا كانت الدولة قائمة على العبودية (1619) أم الكفاح من أجل الحرية (1776). ويمتد هذا الصراع إلى الحقائق التي يعتقد كل طرف على حدة أنه يراها، هذه الحقائق التي كانت بموجبها انتخابات نوفمبر 2020 الأخيرة إما واحدة من أكثر الانتخابات عدلاً في التاريخ الأمريكي أو تزويراً هائلاً أدى إلى رئاسة غير شرعية.

لقد كان هناك إجماع قوي من النخبة في أمريكا طوال الحرب الباردة حتى أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين على ضرورة الحفاظ على موقع قيادي في السياسة العالمية. ولكن الحروب الطاحنة التي لا نهاية لها في أفغانستان والعراق أدت إلى تعكير صفو العديد من الأمريكيين، ليس فقط في الأماكن الصعبة مثل الشرق الأوسط، ولكن في التدخل الدولي بشكل عام.

لقد أثّر الاستقطاب على السياسة الخارجية الأمريكية بشكل مباشر. فخلال سنوات حكم أوباما، اتخذ الجمهوريون موقفاً متشدداً وهاجموا الديمقراطيين بسبب “إعادة ضبط” روسيا وسذاجتهم المزعومة فيما يتعلق بالرئيس بوتين. لكن الرئيس السابق دونالد ترامب قلب الطاولة باحتضانه بوتين علناً، واليوم يعتقد نصف الجمهوريين تقريباً أن الديمقراطيين يشكلون تهديداً أكبر على طريقة الحياة الأمريكية من روسيا. وفي هذا السياق، كان هدف “إزعاج الليبراليين” (أي، استعداء اليسار، كشعار يرفعه اليمين) أكثر أهمية من الدفاع عن القيم الديمقراطية، عندما سافر مذيع الأخبار التلفزيونية المحافظ تاكر كارلسون إلى بودابست للاحتفال برئيس الوزراء المجري الاستبدادي فيكتور أوربان.

وهناك إجماع أكثر وضوحاً حول الصين: حيث يتفق كل من الجمهوريين والديمقراطيين على أنها تشكل تهديداً للقيم الديمقراطية. وهذا فقط ما يبدو أنه يجمع الأمريكيين حتى الآن، لكن الاختبار الأكبر بكثير من أفغانستان، في مجال السياسة الخارجية الأمريكية، ستكون تايوان إذا تعرضت لهجوم صيني مباشر. هل ستكون الولايات المتحدة على استعداد للتضحية بأبنائها وبناتها من أجل استقلال تلك الجزيرة؟ أو أكثر من ذلك في واقع الأمر، هل تخاطر الولايات المتحدة بصراع عسكري مع روسيا إذا غزت الأخيرة أوكرانيا؟ هذه أسئلة جادة الإجابة عليها ليست أمراً سهلاً، ولكن قد يتم إجراء نقاش منطقي حول المصلحة الوطنية الأمريكية، لكنه سيكون من خلال منظور كيفية تأثيرها على الصراع الحزبي في المقام الأول.

لقد أضر الاستقطاب بالفعل بالتأثير العالمي لأمريكا، وهو أقل بكثير من مثل هذه الاختبارات في المستقبل. وكان هذا التأثير قد اعتمد على ما أطلق عليه جوزيف ناي، الباحث في السياسة الخارجية، بـ “القوة الناعمة”، أي جاذبية المؤسسات الأمريكية والمجتمع الأمريكي للناس في جميع أنحاء العالم. لقد تضاءلت هذه الجاذبية إلى حد كبير: حيث من الصعب على أي شخص أن يقول إن المؤسسات الديمقراطية الأمريكية كانت تعمل بشكل جيد في السنوات الأخيرة، أو أنه يتوجب على أي دولة أن تقلد التحزبية السياسية السائدة في أمريكا والاختلال الوظيفي. السمة المميزة للديمقراطية الناضجة هي القدرة على إجراء عمليات انتقال سلمي للسلطة بعد الانتخابات، وهو اختبار فشلت فيه الولايات المتحدة بشكل كبير في السادس من يناير 2021.

كانت أكبر كارثة سياسية قامت بها إدارة الرئيس جو بايدن خلال الأشهر السبعة التي قضاها في منصبه هي فشل هذه الإدارة في التخطيط بشكل مناسب لمواجهة الانهيار السريع الذي وقع في أفغانستان. ومهما كان هذا التوصيف غير لائق، إلا أنه لا يتحدث عن حكمة القرار الأساسي بالانسحاب من أفغانستان، والذي قد يثبت في النهاية أنه القرار الصحيح. فالسيد بايدن يرى بأن الانسحاب كان ضرورياً من أجل التركيز على مواجهة التحديات الأكبر من روسيا والصين في المستقبل. وآمل أن يكون جاداً في هذا الأمر. لم ينجح باراك أوباما أبداً في إنشاء “محور” لآسيا لأن أمريكا ظلت تركّز على مكافحة التمرد في الشرق الأوسط. لذا، فالإدارة الحالية بحاجة إلى إعادة توزيع الموارد واهتمام صانعي السياسة من أجل ردع المنافسين الجيوسياسيين والانخراط بشكل أكبر مع الحلفاء.

في النهاية، ليس من المرجح أن تستعيد الولايات المتحدة مكانتها المهيمنة السابقة، ولا ينبغي لها أن تطمح إلى ذلك. ولكن كل ما يمكن أن يُؤمل تحقيقه، جنباً إلى جنب مع الدول التي تشاطر الولايات المتحدة نفس التفكير، هو الحفاظ على نظام عالمي يكون صديقاً للقيم الديمقراطية. ولا يعتمد مدى استطاعتها القيام بذلك على الإجراءات قصيرة المدى في كابول، بقدر ما يعتمد على استعادة الشعور بالهوية والأهداف القومية على أرض الوطن.

ترجمة :عادل رفيق

اترك تعليقا