المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

قراءة حول واقع مراكز الفكر في العالم

مقدمة:

أصبحت لمراكز الفكر (Think Tank) دورا رائدا ومتقدما في قيادة السياسات العالمية، باعتبارها أداة رئيسية لإنتاج العديد من المشاريع الاستراتيجية، إذ أنها جزء لا يتجزأ من المشهد السياسي والتنموي في دول العالم، وقد تطورت المراكز البحثية وأصبحت إحدى الفواعل الرئيسية التي تساعد صناع القرار في رسم التوجهات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك من خلال إشراك البحث العلمي في خدمة قضايا المجتمع، من خلال تقديم رؤى وطرح البدائل والخيارات، بما يدعم عمليات صنع القرار ورسم السياسات.[1] تعرّف مراكز الفكر بأنها مؤسسات تقوم بالدراسات والبحوث الموجهة لصانعي القرار، والتي تتضمن توجيهات أو توصيات معينة حول القضايا المحلية والدولية، بهدف تمكين صانعي القرار السياسي لصياغة سياسات حول قضايا السياسة العامة،” كما تعرف بأنها مراكز إنتاج أو إدارة المعرفة البحثية، وتتخصص في مجالات أو قضايا معينة علمية أو فكرية، وبما يخدم صنع أو تطوير أو تحسين السياسات العامة أو ترشيد القرارات أو بناء الرؤى المستقبلية للمجتمع أو الدولة. وهناك من يحاول التمييز بين مراكز الفكر ومراكز الأبحاث والدراسات استنادا إلى اعتقاده بأن مراكز الأبحاث والدراسات لا ترمي إلى أبعد من الغايات الأكاديمية والحياد الموضوعي الصرف، أما مراكز الفكر أو التفكير فتستهدف غايات استراتيجية محددة من خلال سعيها إلى الانخراط في صنع القرار السياسي العام.[2] نتناول في هذه المقال واقع مراكز الفكر، والتي تكون في صورة هيئات أو مؤسسات أو مراكز علمية بحثية، سواء كانت عامة أو خاصة، تقدم الاستشارات والتحاليل الاستراتيجية لصناع القرار، يتم التطرق لها بالتدرج على المستوى الدولي، العربي والوطني.

وتتمثل أهمية البحث في مراكز الفكر كونها تعد بمثابة خزان معلوماتي حيوي وفعّال في إعداد الدراسات والبحوث، سواء كانت تلك المؤسسات قائمة ومستقلة بحد ذاتها أو أنها تكون تابعة لجامعة أو مؤسسة معينة، بمعنى أن صانع القرار السياسي الخارجي يحتاج إلى قرار سليم وصائب يعتمد على تقص الحقائق وجمع البيانات وإعداد التقارير لها لتكون ناضجة وواضحة أمامه، وفي هذا الإطار من الواجب أن تكون هناك حلقة وصل بين مراكز الفكر والمؤسسات الرسمية الحكومية من أجل الحصول على دراسات وأبحاث رصينة بفضل المعلومات التي تحصل عليها هذه المراكز.

ومن المؤكد في ظل التغيرات الدولية والمتغيرات التي تعرفها العلاقات الدولية اليوم، ستكون لمراكز الفكر والرأي مكانة بارزة في عملية صناعة القرار السياسي، لما لها من دور مهم في إعداد وجمع وتحليل للمعلومات والأوضاع الدولية المستقبلية، غير أن ذلك يبقى رهينة الإرادة السياسية خصوصا وطبيعة النظام السياسي القائم بالدولة عموما.[3] وعليه، تبرز لنا أهمية الدراسة من خلال الدور الذي تلعبه مراكز الفكر في ترشيد السياسات العامة والمساهمة في صناعة القرارات الاستراتيجية، خاصة في ظل التغيرات والتحولات التي تشهدها الدول والعلاقات الدولية على حد سواء. ارتأينا الاعتماد على المنهج الوصفي التحليلي من أجل دراسة الظواهر العلمية المتعلقة بواقع وآفاق مراكز الفكر بالوصف والتحليل، بالإضافة إلى الاعتماد على المنهج المقارن من حين لآخر، وذلك بالتطرق لواقع وآفاق مراكز الفكر في العالم عموما. إن واقع مراكز الفكر في العالم اليوم يجرنا للتساؤل حول مكانة هذه المراكز بالنظام السياسي لكل دولة، فأي واقع تعيشه مراكز الفكر اليوم وما مدى اعتماد الدول عليها في رسم سياساتها العامة وصناعة قرارات الاستراتيجية ؟ وبناء على هذه الإشكالية، ارتأينا تقسيم موضوع الدراسة إلى محورين، نتناول في المحور الأول الإطار المفاهيمي المتعلق بمراكز الفكر، أما المحور الثاني فنتطرق فيه إلى المهام الاستراتيجية المسندة لمراكز الفكر.

المحور الأول: الإطار المفاهيمي لمراكز الفكر:

لا نكاد نقف عند مفهوم واضح عن مراكز الفكر، إلاّ أنه يمكننا تمييزها عن باقي المؤسسات العلمية والبحثية بموجب معايير، ومن أجل الإحاطة بالموضوع لابد من التطرق أولا لبعض المفاهيم الأساسية ذات الصلة بموضوع مراكز الفكر، وكذا نشأة وتطور هذه المراكز في دراسة تاريخية للموضوع، ثم نتناول طرق تمويل هذه المراكز وآلية تصنيفها، وأخيرا إبراز أهمية مراكز الفكر والرأي في الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية بالدولة.

أولا: مفهوم مراكز الفكر:

وبالرجوع لمفهوم مراكز الفكر والرأي، فإن “جيمس ماكغان” (James McGann) ينظر لها على أنها “ هيئات مستقلة للبحث تكرس وقتها لمسائل المصلحة العامة وتحليلها،” كما تعرفها “فيليبا شيرنغتون” (p.Sherringtolnf) على أنها: “ تنظيمات مستقلة نسبيا ومنخرطة بالبحث في أوسع نطاق من المصالح. هدفه الأول هو انتشار هذا البحث أوسع ما يمكن بنية التأثير على صيرورة تحضير السياسيين للشأن العام.”

وقد كان يشار لهذه المراكز في الولايات المتحدة الأمريكية خلال الحرب العالمية الثانية باعتبارها غرفة أو بيئة آمنة يستطيع علماء الدفاع والمخططون العسكريون الاجتماع فيها لمناقشة الأمور الاستراتيجية، وعليه يمكن اعتبار هذه المراكز مؤسسات مستقلة وغير حزبية، تقوم بإعداد وتقديم أبحاث ودراسات في مجالات مختلفة تهدف لتحسين السياسات العامة للدولة، ونشر الثقافة والمعرفة العامة، والتأثير في عملية صنع السياسة العامة، وذلك من خلال التركيز على مناقشة مختلف القضايا الهامة والاستراتيجية، وهي مؤسسات غير ربحية تعتمد على مجموعة من الآليات والاستراتيجيات للتأثير على صانع القرار.[4]

كما يعرف مشروع مراكز الفكر والدراسات العالمي مراكز الفكر بأنها: ” مؤسسات تقوم بالدراسات والبحوث الموجهة لصانعي القرار، والتي قد تتضمن توجيهات أو توصيات معينة حول القضايا المحلية والدولية، بهدف تمكين صانعي القرار والمواطنين لصياغة سياسات حول قضايا السياسة العامة، وقد تكون هذه المراكز مرتبطة بأحزاب سياسية، جهات حكومية، جماعات مصالح، شركات خاصة، أو قد تكون مراكز غير حكومية ومستقلة“.[5]

من خلال هذه التعاريف يتضح لنا أن المقصود بمراكز تلك المؤسسات الحكومية والغير حكومية التي تهتم بانجاز الدراسات والأبحاث في قضايا ذات أهمية ومحل نقاش لدى الرأي العام، تستخدم فيها أدوات ووسائل معينة من أجل الحصول على النتائج المطلوبة، والتأثير على صناع القرار بالدولة من أجل اعتماد أعمالها في تحضير ورسم السياسات العامة، واتخاذ القرارات الاستراتيجية بالدولة، فهي لا تهتم بشكل أساسي بالتكوين والتدريب، ولا ترتبط بالدوائر الوزارية المكلفة بالتعليم العالي والبحث العلمي، بل تكون عبارة عن مؤسسات لصناعة القرارات والاستشراف للمستقبل بناءً على طلب سلطات الدولة.

الحديث عن مفهوم مراكز الفكر يجعلنا نتساءل عن نشأة وتطور هذه المراكز عبر التاريخ إلى اليوم، لذا نتطرق بإيجاز عن تاريخ ظهور وتطور مراكز الفكر في العالم.

ثانيا: نشأة وتطور مراكز الفكر في العالم:

عند تتبع المسار التاريخي لمراكز الأبحاث والدراسات العلمية يلاحظ أن الباحثين يختلفون في تحديد البداية التاريخية لتأسيسها، فهناك من يحدد نشأتها الأولى مع تأسيس المعهد الملكي للدراسات الدفاعية في بريطانيا عام 1831م، وهناك من يربط نشأتها مع تأسيس الجمعية الفابية البريطانية التي تعنى بدراسة التغيرات الاجتماعية عام 1884م، ويصرف النظر عن البداية التاريخية لنشوء هذه المراكز، إلا أنه مع مطلع القرن العشرين انتشرت أعدادا من مراكز الفكر، ففي الولايات المتحدة تم تأسيس معهد كارنيغي للسلام الدولي عام 1910م، ثم معهد بروكنغر في عام 1916، ومعهد هوفر عام 1918م، ومؤسسة القرن عام 1919م، والمكتب الوطني لأبحاث الاقتصاد عام 1920م، ومعهد غالوب في عام 1920م، أما في بريطانيا فتأسس المعهد الملكي للشؤون الدولية عام 1920م، وفي فرنسا تم تأسيس المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية عام1979م، وفي ألمانيا تم تأسيس الأكاديمية الألمانية للسلام عام 1931م، واستمرت حركة تأسيس هذه المراكز بالتصاعد لاسيما خلال عقود الأربعينيات والخمسينات والستينات من القرن الماضي، إذ تم في أمريكا في هذا الوقت تأسيس معهد انتربرايز عام 1943، ومؤسسة راند عام 1945م، ومعهد دراسات الشرق الأوسط عام 1948م، ومركز فض النزاعات عام 1956م، وفي لندن المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية عام 1958م، وفي السويد معهد ستوكهولم لأبحاث السلام عام 1966م، وانتشرت ظاهرة تأسيس عبر الغرب ومنه إلى العالم حتى وصلت ذروتها في عام 1996م بمعدل 150 مراكزاً يؤسس سنويا.

وقد قامت الدول العربية خلال العقود الستة المنصرمة بتكوين العديد من مراكز الأبحاث المستقلة أو التابعة للجامعات، التي تتولى القيام بالأنشطة البحثية في مختلف العلوم والمعارف، وتعد مراكز الأبحاث والدراسات العربية التابعة لجامعة الدول العربية الذي تأسس عام 1952م، أول مركز للبحوث في العالم العربي، ثم تبعه في التأسيس المركز القومي للبحوث بالقاهرة عام 1956م، تلاهما إنشاء مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عام 1968م، ثم مركز دراسات الوحدة العربية عام 1975م، ومركز الإنماء العربي في طرابلس عام 1976.[6]

ومما يجدر ذكره هنا، هو أن الكثير من مراكز الفكر قد تشكلت نتيجة لأحداث مهمة في تاريخ دولة ما، أو لتغيير طرأ مثلا على النمط السياسي الداخلي والخارجي لنظام ما، أو بسبب قضايا ملحة قادت إلى البحث عن حلول أفضل، وعليه، فإننا نرى تطور ملحوظ وانتشار واسع للمراكز البحثية في العالم، ومن هذا المنطلق يبدوا أن العالم المتقدم قد أدرك وفي وقت مبكر أن العلم بات أحد أسلحة العصر المهمة، وعليه فإن مساحات توليد الطاقات والقدرات العلمية في الدول المتقدمة لم تعد من اختصاص الجامعات وحدها، بل هناك المئات بل الآلاف من مراكز الأبحاث ومؤسسات البحث العلمي، بعضها تديرها الدولة إدراكا منها بأهمية تفعيل مراصد البحث لامتلاك زمام الأمور، ويشرف عليها كبار المسؤولين السابقين والخبراء لا هدف لهم سوى التقدم بأنفسهم وبلادهم نحو المستقبل.[7]

في الفترة الأخيرة تأسست مراكز فكر بصور مختلفة، بالرغم من التشابه في أساليب العمل والأهداف المرجوة منها، إلا أنها قد تختلف فيما بينها بالنظر لبعض المعايير يمكن التطرق لها كما يلي.

ثالثا: تصنيفات مراكز الفكر:

يتم تصنيف مراكز الفكر عبر العالم وفق معايير تحدد كما يلي:

أ/ من حيث التمويل: تنقسم المراكز البحثية إلى مراكز بحثية حكومية، مثل معهد البنك الدولي ومعهد دائرة بحوث الكونغراس في الولايات المتحدة، والدوائر الملكية المتحدة لدراسات الأمن التابع للاتحاد الأوربي وغيرها، ومراكز بحثية أكاديمية، سواء كانت تابعة لجامعات أو تعتمد على جامعيين في عملها مثل معهد هوفر التابع لجامعة ستانفورد، ومركز التنمية الدولي ومركز بيلفير للعلوم والشؤون الدولية التابعان لجامعة هارفارد، ومراكز بحثية خاصة سواء ارتبطت بتقديم النفع العام أو تقديم النفع للجهات التي أسستها كالشركات مثلا.[8]

للإشارة فقط فإن المؤسسات البحثية والجامعات العربية تواجه انخفاض مستويات التمويل وتدني إسهام القطاع الخاص، إذ أنها لا تصل إلى 1 % من الميزانيات العامة، مما أثّر على مستوى الإنفاق على المؤسسات البحثية في الوطن العربي على مستوى الإنتاج المعرفي ومعدل نشر البحوث والأوراق العلمية العربية قياسا لما حصدته المؤسسات العلمية العالمية.[9]

ب/ من حيث الاتجاه السياسي أو الإيديولوجي: تنقسم مراكز البحث والدراسات من حيث التوجه السياسي والإيديولوجي إلى مراكز بحثية ليبرالية، ومراكز بحثية محافظة: دينية، قومية، اجتماعية، يسارية، وهناك نوع ثالث يندرج ضمن المراكز البحثية المستقلة فكريا.

ج/ من حيث الاستقلالية: من أمثلتها مراكز بحثية مستقلة، ومراكز بحثية شبه مستقلة، ومراكز بحثية جامعية، ومراكز بحثية حزبية، مثل: مؤسسة كونراداديناور في ألمانيا ومركز الدراسات السياسية في فرنسا.

د/ من حيث الارتباط الحكومي: تنقسم إلى: مراكز أبحاث حكومية، أي ترتبط بالحكومات إداريا وماليا، ومراكز أبحاث شبه حكومية، أي تكون مستقلة إداريا عن الحكومات، ولكن الأخيرة تمثل مصدر من مصادر تمويلها ماليا، ومراكز أبحاث خاصة، والتي تستقل عن الحكومات إداريا وماليا، فتعتمد على نفسها في إدارة شؤونها.

هـ/ من حيث التخصص: توجد مراكز متخصصة بمجال معرفي معين مثل مؤسسة راند الأمريكية التي تركز في دراساتها على القضايا ذات الطبيعة العسكرية والمخابراتية والاستراتيجية، ومكتب المحاسبة العامة التابع للكونغراس الأمريكي.

و/ من حيث النطاق الجغرافي: وتنقسم إلى مراكز تعنى بمنطقة جغرافية محددة كدولة ما أو قارة ما مثل مركز أبحاث البصرة والخليج العربي، ومعهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وغيرها.[10]

بعد الوقوف على مفهوم مراكز الفكر، من خلال تعريفها ونشأتها التاريخية وأهم معايير تصنيفها، نتطرق بالشرح والتحليل للوظائف والمهام الاستراتيجية لهذه المراكز مع إعطاء بعض النماذج التطبيقية عنها في العالم.

المحور الثاني: المهام الاستراتيجية لمراكز الفكر:

إن كفاءة الباحثين والخبراء العاملين بمراكز الفكر، واستخدامهم لطرق البحث العلمية وفق معايير منهجية دولية الخاصة بمجال إجراء البحوث والدراسات، وكذا تنظيمهم للمؤتمرات والملتقيات والأيام الدراسية والندوات الفكرية، جميعها تمكن مراكز الفكر من القيام بمهام استراتيجية ذات مستوى تنطلق بداية من الإصدارات العلمية والمنشورات والدراسات التحليلية والمستقبلية والأبحاث العلمية المنجزة. وبالرغم من اختلاف المهام المنوطة بهذه المراكز، إلاّ أنها تشترك جميعها في الغاية، وهي المساهمة الفعّالة والبناءة في رسام السياسات العامة وصنع القرارات الاستراتيجية بما يخدم المصالح الاستراتيجية للدولة على المدى القريب، المتوسط والبعيد. من أجل التفكير بعمق والفهم الواضح للدور الذي تلعبه مراكز الفكر، لابد من التطرق أولا للأدوات والوسائل التي تعتمد عليها هذه المراكز، وذلك من أجل تمييزها وفهم فلسفة عملها، ثم نتناول مسألة مساهمة مراكز الفكر والرأي في رسم السياسات العامة وصنع القرارات، وأخيرا نتطرق لواقع مراكز الفكر العربية كنموذج.

أولا: أدوات ووسائل تأثير مراكز الفكر:

تلعب مراكز الأبحاث دوراً حيوياً في الساحة السياسية على المستويين المحلي والدولي، وتعتبر هذه الوظيفة فريدة من نوعها في توفير الأبحاث للسياسات العامة، والاستشارات، وتفعيل الاستقلالية عن الحكومة والأحزاب السياسية، كما تبين العديد من الأدوار الحيوية الأخرى التي تلعبها، والتي من بينها: التوسط بين الدولة والمجتمع، بناء الثقة في المؤسسات العامة، تحويل الأفكار والمشاكل المطروحة إلى قضايا سياسية، تحديد وتوضيح وتقييم القضايا السياسية، وتقديم الاقتراحات والبرامج، تفسير القضايا والأحداث والسياسات في وسائل الإعلام وتيسير فهم القضايا السياسية المحلية والدولية لأفراد المجتمع، توفير وبناء منتديات للأفكار والمعلومات، توفير وتزويد وإعلام الأشخاص بالتشريعات والفروع التنفيذية للحكومة.[11] يمكن تلخيص أهم أشكال وطرق ووسائل تأثير مراكز الأبحاث في النقاط التالية:

أ/ الأنشطة العلمية التفاعلية: وهذا النوع من الأنشطة يتمثل في عقد المؤتمرات أو الندوات وورش العمل حول قضايا تكون ضمن اهتمام المسؤولين وصناع القرار، وفي هذا الإطار، عرف المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة في الجزائر INESG سلسلة من المؤتمرات واللقاءات العلمية ما جعلته يحتل مكانة متميزة في مجال الأداء الفعال لمراكز الفكر في الجزائر،[12] وعلى العموم يضطلع المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة بمهام التحاليل والدراسات المستقبلية التي تخص المسائل الاستراتيجية للحياة الوطنية والدولية، وذلك بالتشاور مع القطاعات والهيئات المعنية، وذلك بهدف كشف العوامل والعلاقات ذات الأثر الحاسم في مجال العمل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي وفهمها وتفسيرها، والملاحظ أن المعهد مستقل بنص القانون في انجاز أشغاله، واختيار الطرق المتبعة لتوجيهها وصياغة نتائجها.[13]

ب/ الحلقات البحثية أو اللقاءات المغلقة: وهي تدخل ضمن الأنشطة البحثية التفاعلية، ولكنها عادة تكون بين كبار المسؤولين وصناع القرار مع فريق من الخبراء المكلفين بإعداد دراسات معينة تتعلق بقضايا معينة أو إعداد سياسات عامة.

ج/ وسائل الإعلام: عادة ما تستقطب أو تستضيف وسائل الإعلام الباحثين والخبراء العاملين في مراكز الأبحاث للاطلاع على آرائهم وتحليلهم العلمي حول قضايا الساعة أو الأزمات السياسية أو سياسات الحكومة محل جدل لدى الرأي العام، وهنا عادة ما تلعب آراء الخبراء دوراً في صناعة أو صياغة أو تعديل مواقف واتجاهات الرأي العام.

د/ المشاركة في النشاط العام: حيث يتم دعوة الخبراء العاملين في مراكز الفكر للمشاركة في لقاءات أو محاضرات وأنشطة عامة، غالبا ما تشكل مشاركة هؤلاء الخبراء والباحثين تسويقاً فاعلاً لآرائهم وأطروحاتهم السياسية أو العلمية، وفي هذا الإطار يتم إبرام اتفاقيات تعاون وشراكة مع المؤسسات البحثية على المستوى الوطني وحى الدولي من أجل تعزيز وترقية العمل البحثي.

هـ/ العلاقات المباشرة أو الشخصية مع صناع القرار: وهو ما يسهل من قدرتهم على الإقناع والتأثير ومعرفتهم لاحتياجات ومتطلبات صناع القرار والمسؤولين، وهو ما نجده غالبا في الولايات المتحدة الأمريكية.

و/ النشر العلمي والمؤلفات العلمية: وهو المنتوج الأساسي الذي تستهدفه مراكز الدراسات والأبحاث، ويكون له تأثير على المدى المتوسط والبعيد من خلال اعتماد الدراسات والكتب والمؤلفات العلمية.[14]

وعليه، تعتمد مراكز الفكر على وسائل وأدوات من أجل الحصول على نتائج عملية تمكنها من رسم مسار السلطة وتحديد الخيارات المتاحة لها لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، إلا أن هذه الوسائل تبقى مرهونة بمدى جودتها والتمتع بالاستقلالية الوظيفية عند استخدمها، أي أن تقييم دور مراكز الفكر في العالم يعتمد على معايير تتعلق بمدى جودة الوسائل المشار إليها سابقا، ومن هنا تتحدد طبيعة وفعالية مساهمة مراكز في رسم السياسات العامة وعملية صنع القرارات.

ثانيا: مساهمة مراكز الفكر في رسم السياسات العامة وعملية صنع القرارات:

تعتمد جامعة بنسلفانيا معايير دولية لتقييم مراكز الفكر في العالم عبر تقرير Global Go To Think Tank Index Report، وهو تقرير سنوي يتضمن ترتيب مراكز الفكر ويعتمد على مجموعة من المعايير تتعلق بالمسائل الآتية: معايير تتعلق بالمركز نفسه، نشاطه ومجالاته، القدرة على اتخاذ القرارات وصنع السياسات، الإسهام الأكاديمي الفعّال، الكفاءة في التواصل مع المجتمع.[15]

وعليه، فإن مساهمة مراكز الفكر في صناعة القرارات لابّد أن تكون وفق معايير حتى تتمكن من تحقيق غاياتها، لكن وبعد التعرف على أهم هذه المعايير لابد من التطرق لأهم صور مساهمة مراكز الفكر، والتي يمكن تلخيصها في:

أ/ التفكير للحكومة ودعم صناع القرار: فخبراء مراكز الفكر يقدمون الأفكار الجديدة والرؤى الإبداعية بالاعتماد على أبحاثهم، الأمر الذي يعمل على ترشيد السياسات العامة، إذ أن رجل الدولة وصانع القرار بحاجة لمن يبلور له الخيارات ويوضح له السياسات، ويفصّل له القضايا بشكل دقيق وعلمي، بإجراء الأبحاث والدراسات وتقديم التحليلات المعمقة والمنهجية حول المشكلات والقضايا الراهنة التي تواجه السياسات العامة، وتقديم الاستشارات والإرشادات لصانع القرار حول الأولويات والمستجدات العاجلة أو الفورية، وذلك من خلال البحوث العلمية والتطبيقية الميدانية واستطلاعات الرأي.[16]

في هذا الإطار، يؤكد “جيمس ماك جين” أحد خبراء معهد بحوث السياسات على أن المراكز البحثية ليست فقط للتزويد بالمعلومات، ولكن يستعان بها من أجل وضع تقرير وأجندة السياسات، وتزداد أهمية هذه المراكز من خلال قيامها بدراسة كافة المستجدات الدولية ومعرفة أثرها على المصالح الأمريكية، فمثلا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001 عملت أغلب مراكز الفكر بالولايات المتحدة على إنتاج الأفكار والتحليلات التي من شأنها أن تؤدي لتطوير ومراجعة العلاقات بين الغرب والعالم الإسلامي، كما تزداد أهمية مراكز الفكر بشكل خاص عندما تكوّن للرئيس الأمريكي رؤية أيديولوجية ثابتة وواضحة أنذاك، حيث كان دور مؤسسة أمريكان انتربرايز دورا بارزا في مجمل الملفات بما في ذلك ملف الحرب على العراق، حيث أنه وعلى سبيل المثال لا الحصر تعتبر استراتيجية الأمن القومي التي أعلنها الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن عام 2002 الأساس السياسي لقرار الحرب على العراق، والتي هي في الأساس نسخة مطورة عن ورقة بحثية أعدها فريق من الباحثين المحافظين الجدد (رامسفيلد، ريتشارد بيل، وولفريتز، فايث) في نهاية عهد الرئيس الأمريكي بوش الأب عام 1992، ثم جرت صياغتها عام 2002 في مؤسسة الفكر والرأي المسمّاة مؤسسة مشروع القرن الأمريكي بعنوان: “وثيقة الأمن القومي الأمريكي”، وبذلك تحولت بعد عشر سنوات إلى استراتيجية رسمية للدولة، وحتى ملف انسحاب القوات الأمريكية من العراق عام 2011 كان لهذه المراكز دور مهم فيه، حيث عملت على وضع أنسب التصورات والخطط حول الانسحاب الأفضل للقوات الأمريكية، والذي يضمن أكبر قدر ممكن من المصالح الأمريكية في المنطقة، فمثلا نجد أن خبراء مؤسسة راند RAND قد قاموا بتشجيع حلول الأمن الوطني، في حين قدم معهد بروكينغز (إحدى أهم مراكز الفكر الأمريكية) بعض الاقتراحات لحل المشكلة العراقية، من خلال دعوة جميع الأطراف لتسوية الخلاف، وتقديم الدعم لدور الجوار، كما دعا مركز كارنيجي إلى الانسحاب التدريجي من العراق مع إبقاءه خارج النفوذ الإيراني.[17]

ب/ تقديم التفسيرات والتوجيهات لوسائل الإعلام حول السياسات العامة: وتقديم توضيحات للجمهور تتعلق بتلك السياسات حتى يتسنى له فهمها من جهة، والمساعدة في إعداد الأجندات السياسية، وتطوير الحياة المعرفية في الوسط العام من جهة أخرى، كما تستخدم مراكز البحث والتفكير كأداة أو كقناة اتصال بين صانع القرار والأفراد، ويقوم صانع القرار من خلالها بإرسال رسائل سياسية أو إشارات جس النبض إلى المواطنين، كما تستعمل للتعبير عن مواقف استباقية تتخذها بعض الأطراف من قضايا جدليّة أو أزمات سياسية.[18]

كنموذج عن ذلك، تلعب مؤسسة “راند” RAND دورا بالغ الأهمية في السياسة العامة الأمريكية، يتمثل في نشاط المؤسسة الأمريكية المتعلق بإصدار الكتب ونشر الأبحاث والدراسات وإقامة الندوات ومساعدة المرشحين من الرؤساء في الانتخابات وإقامة المؤتمرات العملية والدراسات التحليلية حول القضايا المطروحة على الساحة الأمريكية والرأي العام الأمريكي، ومثال ذلك اهتمامها بموضوع الخطر الإسلامي وأصدرت العديد من الكتب والدراسات تحذر من الفكر الإسلامي وخصوصا بعد أحداث الحادي عشر من شهر سبتمبر من عام 2001، بالإضافة إلى الدراسة المقدمة حول فهم الشأن الصيني والحرب على أفغانستان وقضية انسحاب القوات الأمريكية من العراق بصورة تدريجية.[19]

ج/ ممارسة الدبلوماسية الأكاديمية بإرسال خبراء وأكاديميين العاملين في المراكز الفكرية من قبل وزارة الخارجية أو غيرها: إما لمعرفة آفاق تسوية أو المشاركة في وساطة أو مفاوضات حول أزمة سياسية معينة، ويكون ذلك بشكل رسمي أو غير رسمي، بشكل معلن أو في مسار موازي، وأحياناً تكليفهم للمشاركة في مؤتمرات دولية للاطلاع على أحدث المعلومات والطروحات السياسية.[20]

تطبيقا لذلك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، أعلن الحزب الشيوعي الصيني بحلول سنة 2015 عن هدف تطوير ما بين 50 إلى 100 مؤسسة بحثية صينية بحلول عام 2020، كما يدعوا الحزب الشيوعي الصيني بشكل خاص إلى تنمية مراكز الفكر المتخصصة في القضايا والسياسات الاستراتيجية، كما تعمل الصين حاليا وعلى نطاق واسع على افتتاح مراكز الفكر خارج الحيز الجغرافي للصين من أجل تعزيز التعاون الدولي.[21]

في هذا الإطار، على سبيل المثال لا الحصر، نلاحظ أن مراكز الفكر الأمريكية من أهم الجهات المؤثرة في عملية صنع القرار، ونلمس ذلك من خلال وصول الكثير من موظفي هذه المراكز للعمل بالإدارة الأمريكية، كما أن هناك أيضا من ينتقل من الإدارة الأمريكية للعمل بهذه المراكز، فمثلا نجد الخبير مارتن إنيك مدير مركز سابان لشؤون الشرق الأوسط بمعهد بروكينغز عمل مساعدا لوزير الخارجية الأمريكي.[23]

د/ سياسة الباب الدوار بين الدبلوماسيين أو المسؤولين أو المناصب العليا في الدولة: وبين الخبراء والعاملين في مراكز الفكر والدراسات، ذلك من حيث تداول المناصب.[22]

هـ/ الاستشراف للمستقبل بانجاز الدراسات المستقبلية أو الاستشرافية: خاصة مع ظهور علم المستقبليات في العالم الغربي والتي أصبحت نتائجها من المتطلبات الأساسية للتخطيط الاستراتيجي في الدول المتقدمة.[24]

فعلى سبيل المثال، عرفت مركز الفكر الأوربية طوحا وأهدافا تتعلق ببناء وتوحيد أوربا، وبذلك أصبحت مراكز الفكر الأوربية عبارة عن هيئات مكرسة للبحث والنشر وإيجاد الحلول التي تساعد في عملية تطوير السياسات العامة بالاتحاد الأوربي، وخاصة في إطار مبادئ المجتمع الأوربي الموحد، بصرف النظر عن بعض الدراسات ذات الشأن الوطني، إذ أبدت شركة “قارتنا الأوربية” Notre Europe، وهي نفسها مؤسسة فكرية مقرها باريس والتي أنشأها “جاك ديلور”، اهتمامها بمسألة توسيع الاتحاد الأوروبي أنذاك إلى 25 دولة عضو، في إطار دراسات استشرافية مستقبلية، لذلك طلبت من فريق بحث خارجي، مهتم بالتحليل والاستشراف يعمل بمراكز الفكر الموجودة في الاتحاد الأوروبي والمهتمة بالشأن الأوروبي، الاهتمام بمسألة البناء والتوحيد الأوروبي، ومن ثم عملت مراكز الفكر والرأي الأوربية على إظهار الرغبة في التأثير العابر للحدود، أي أنها مؤسسات فكر وطنية بحتة ولكنها غالبا ما توجه أبحاثها بشكل أساسي نحو المسائل الأوروبية المشتركة بين الدول الأعضاء، وعليه يمكن القول أنه غالبا ما يعتبر المعاهد والمراكز المهتمة بالشؤون السياسية في الفضاء الأوربي مراكز فكر أوربية عابرة للحدود.[25]

ثالثا: نظرة على واقع مراكز الفكر العربية:

إن مراكز الأبحاث العربية يغلب عليها الارتباط إما بالقطاع الحكومي أو بالجامعات العربية، أما المراكز البحثية ذات الارتباط بالقطاع الخاص ظهر دورها حديثا نسبيا، من جانب آخر فإن مراكز البحوث الجامعية وخبراتها الأكاديمية في العالم العربي تملك مصداقية أكبر لدى الدولة أو صناع القرار مقارنة بمراكز الأبحاث الجامعية في العالم الغربي، كما أن نمو ظاهرة الشراكة بين القطاع الخاص والقطاع العمومي في الدول العربية يساهم أيضاً في تعزيز دور مراكز الفكر ومؤسسات البحث العلمي عموماً من خلال الشراكة بين الدولة ومراكز البحوث الخاصة كإحدى مؤسسات المجتمع المدني.[26]

وقد قامت الدول العربية خلال العقود الستة المنصرمة بتكوين العديد من مراكز الأبحاث المستقلة أو التابعة للجامعات، التي تتولى القيام بالأنشطة البحثية في مختلف العلوم والمعارف، وتعد مراكز الأبحاث والدراسات العربية التابعة لجامعة الدول العربية الذي تأسس عام 1952م، أول مركز للبحوث في العالم العربي، ثم تبعه في التأسيس المركز القومي للبحوث بالقاهرة عام 1956م، تلاهما إنشاء مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية عام 1968م، ثم مركز دراسات الوحدة العربية عام 1975م، ومركز الإنماء العربي في طرابلس عام 1976م.[27]

وكمثال عن واقع مراكز الفكر بالوطن العربي، شكل عام 2003 حد فاصل في التطور الأفقي والعمودي لمراكز الفكر والأبحاث في العراق، فقبل هذه السنة حسب الدكتور عبد اللطيف إرواء فخري كانت مراكز الفكر والأبحاث محدودة العدد، وضعيفة الدور، ولكن بعد هذا التاريخ ظهرت مراكز فكر متخصصة في مختلف المجالات العلمية والإنسانية وفي مختلف الامتدادات الجغرافية بمبادرات حكومية، أو فردية، أو حزبية أو فئوية. وحسب الدكتور عبد اللطيف إرواء فخري دائما ومن خلال متابعته لواقع مراكز الفكر في العراق يلاحظ نقطتين مهمتين، الأولى أنها مازالت حديثة، أخذت منذ سنوات ليست بالبعيدة بالنمو والانتشار، وهي ما زالت بحاجة إلى الدعم والرعاية وتذليل العقبات أمامها، أما الثانية فهي وجود مستوى متدني لهذه المراكز في إنتاجها العلمي وأدوارها التي ينبغي أن تضطلع بها، سواء في مجال رسم السياسة العامة أو في مجال ترشيد اتخاذ القرار وصنعه.[28]

عند تسليطنا الضوء على واقع مراكز الفكر في الجزائر لاحظنا تلك المساهمة الضعيفة والدور المحدود الذي عرفته في مجال صناعة القرار ورسم السياسات العامة وتحليلها، بالرغم من أن هذا تعرفه أغلب دول العالم العربي، لتبقى مراكز الفكر الجزائرية خارج تصنيف جامعة بنسلفانيا المعتمد منذ سنة 2006، لذا نرى ضرورة اللجوء إلى إعادة هيكلتها ومنحها مكانة تمكنها من الأداء بفعالية، خاصة وأن الجزائر (والدول العربية عموما) تمتلك مقومات بشرية ومادية هائلة تمكنها من تصنيف مراكز الفكر الخاصة بها ضمن المراتب الأولى في مجال الدراسات والأبحاث الاستراتيجية، وذلك إذا ما نظرنا إلى توفر الجزائر على أكثر من مائة مؤسسة جامعية وأكثر من مليوني طالب جامعي، بالإضافة إلى عشرات الآلاف من الأساتذة الجامعيين والباحثين الأكاديميين، هذا من ناحية.

من ناحية أخرى، تفتقد الجزائر لمراكز فكر متخصصة مستقلة تمولها الأحزاب السياسية أو الشركات والمؤسسات الاقتصادية أو الإعلامية، فقد أصبح من الضروري أن تعمل الدول العربية على إيجاد أطر قانونية تحدد العلاقة بينهما، وتعمل على تعزيز فكرة الاعتماد على مراكز الفكر وتزويدها بالمعلومات والبيانات الضرورية من أجل المساهمة بفعالية لاتخاذ القرارات الصحيحة والناجحة على مستوى هذه المؤسسات.

نخلص في هذا المحور إلى القول بأن مساهمة مراكز الفكر في رسم السياسات العامة وصنع القرارات لا تتسم بالفعالية إلا بعد أخذها للصور والأشكال التي تطرقنا إليها من ناحية، كما أن هذه المساهمة تتطلب في الأساس أدوات ووسائل تمكنها من الوصول إلى نتائج صحيحة، وعليه، تعتبر أفضل مراكز الفكر في العالم غرفا حقيقية لصناعة القرارات الاستراتيجية بالدولة، وتعمل على الاستشراف لمستقبل الدولة، كما أنها تساهم بفعالية في وضع وترشيد السياسات العامة في مختلف المجالات، وبذلك أصبحت أغلب الدول المتقدمة تعتمد عليها بشكل أساسي والاهتمام بها، على عكس باقي الدول التي تعرف انقطاع وتباعد بين صناع القرار وخبراء مراكز الفكر بها، مما يجعلها تعاني الواقع وتجهل المستقبل وتتخذ القرارات بصورة عشوائية غير مدروسة في أغلب الأحيان.

خاتمة:

على ضوء هذه الدراسة، نخلص إلى أن مراكز الفكر جزء هام من الساحة العلمية والبحثية، تعمل على مواجهة التحديات بطرق علمية، إذ تنشئ علاقة تشاورية بين صناع القرار ومراكز التفكير والدراسات، هذه العلاقة ضرورية الوجود من أجل رسم السياسات العامة وتطبيقها عن طريق اتخاذ القرارات الاستراتيجية المناسبة.

من ناحية أخرى فإن طبيعة أعمال مراكز الفكر يغلب عليها الطابع الاستشاري، غير أن تلك الاستشارة تبقى غير ملزمة التنفيذ بالنسبة لأغلب دول العالم الثالث، غير انه وما هو معمول به في الدول المتقدمة في هذا الشأن أن توصيات مراكز الفكر ملزمة التنفيذ، ونقصد لما لها من أهمية في بناء رأي يساعد على اتخاذ القرار المناسب، مع احتفاظ صناع القرار بالسلطة التقديرية.

وكنتائج نتوصل إليها بعد دراستنا للموضوع يمكننا القول أن:

أولا، واقع مراكز الفكر في العالم تعيشه بحسب الأنظمة السياسية المعتمدة والإرادة السياسية الموجودة لدى صناع قرار هذه الدول، إذ تعرف مراكز الفكر بالدول المتقدمة عموما، وبالولايات المتحدة الأمريكية والصين وأوربا خصوص، تقدما لافتا للانتباه، سواء من حيث تنظيمها أو من حيث المهام الاستراتيجية المسندة لها، على عكس دول العالم الثالث، التي لا تعطي الأهمية اللازمة لمثل هذه المراكز، فيتم الاستغناء عن الدراسات والأبحاث والتحاليل والاستشراف في التحضير لاتخاذ القرارات الاستراتيجية، وهو ما يبرر التأخر الذي تعرفه هذه الدول في مختلف المجالات، لاسيما مجال الاستشراف لمستقبل الدولة.

ثانيا، اعتماد الدول المتقدمة على هذه المراكز يظهر جلّيا في مختلف القرارات الاستراتيجية والاستباقية التي تتخذها كبرى الدول، سواء على المستوى الداخلي أو على مستوى العلاقات الدولية، فقد أصبحت مراكز الفكر في الولايات المتحدة مثلا كما رأينا غرفا حقيقية يتم داخلها إيجاد الأدوات الضرورية من أجل بناء السياسات العامة وصناعة القرارات الاستراتيجية، بينما في دول العالم الثالث ولاسيما الوطن العربي تبقى الفجوة بين صناع القرار ومراكز الفكر هي ما تميز العلاقة بينهما.

ثالثا وأخيرا، مما لا شك فيه وجود إشكالات وصعوبات تظهر في شكل تحديات تواجهها الدول العربية في مجال الاعتماد على مراكز الفكر والاستشراف للمستقبل، ومما لا شك فيه أيضا تعرف مراكز الفكر رهانات كبيرة وهامة في هذه المرحلة، أين أصبح التفكير بعمق والفهم والتحليل واليقظة الاستراتيجية ضرورة لابد منها من أجل وضع السياسات العامة وترشيدها، وكذا بناء التصور الصحيح لاتخاذ القرارات الاستراتيجية.

وعليه، وبناء على هذه النتائج المتوصل إليها، نتناول مسألتين في شكل توصيات نوردها كمايلي:

المسألة الأولى تتضمن ضرورة من إعادة النظر في مكانة وأهمية مراكز الفكر خاصة في الوطن العربي، وذلك لا يتأتى حسب نظرنا إلا بتوفر الإرادة السياسية الحقيقية من قبل صناع القرار، واقتناعهم بضرورة الاعتماد على استخدام الطرق العلمية والتفكير بعمق والاستشراف من اجل مستقبل أفضل.

أما المسألة الثانية تتعلق بوجوب التنويع في المجالات التي تهتم بها مراكز الفكر، مع الاعتماد على المراكز المتخصصة، بالإضافة إلى وضع إطار قانوني يشجع المؤسسات السياسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية على تأسيس مراكز فكر تعتمد عليها من أجل أن تساهم في بناء قرارات استراتيجية مناسبة.

قائمة المراجع المعتمدة:

1/ المؤلفات والكتب:

سلسلة إصدارات مركز البيان للدراسات والتخطيط، دور مراكز الفكر والرأي في عملية صنع القرار السياسي الخارجي، دراسة صادرة عن مركز البيان للدراسات والتخطيط، سنة 2016.

2/ المقالات العلمية:

المجلة الجزائرية للدراسات السياسية، رزايقية حنان، دور مراكز الفكر في صنع السياسة الخارجية الأمريكية: الحرب على العراق نموذجا، صادرة عن المدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية، المجلد الرابع، العدد الأول.

مجلة الفكر، ساعد رشيد، تأثير مراكز البحث والتفكير Think Tank على توجهات التفكير الاستراتيجي الأمريكي اتجاه الصين، صادرة عن جامعة بسكرة – الجزائر، العدد 13، فيفري 2016.

مجلة دفاتر السياسة والقانون، الخزندار سامي الخزندار والأسعد طارق، دور مراكز الفكر والدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة، مجلة دفاتر السياسة والقانون، صادرة عن جامعة ورقلة، العدد السادس، جانفي 2022.

مجلة الأبحاث القانونية والسياسية، بلخير سلمى بلخير وشرفي محمود، واقع مراكز الفكر والدراسات في الجزائر بين الضرورة الاستراتيجية ورهانات المستقبل، صادرة عن جامعة سطيف 2، المجلد الثاني، العدد الثاني، سنة 2020.

المجلة الجزائرية للدراسات السياسية، بورياح سلمى، مراكز الأبحاث وآليات تأثيرها على صنع السياسات العامة، صادرة عن المدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية، المجلد الثالث، العدد الثاني.

المجلة السياسية والدولية، فخري عبد اللطيف إرواء، دور مراكز الأبحاث والفكر في صنع القرار السياسي ورسم السياسات العامة في العراق، صادرة عن كلية العلوم السياسية جامعة المستنصرية، العراق.

مجلة جيل العلوم الإنسانية والاجتماعية، البرق لطيفة عمر، دور المراكز البحثية في إثراء المعرفة والبحث العلمي: دراسة ميدانية على عينة من أعضاء هيئة التدريس بكلية الآداب جامعة سرت، صادرة عن مركز جيل البحث العلمي، العام السابع، العدد 67، سبتمبر 2020.

3/ دراسات وأبحاث علمية:

مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، تقييم مراكز الدراسات والبحوث العربية والدولية 2018-2019.

4/ النصوص القانونية:

الجزائر، المرسوم رقم 84-398 المؤرخ في 24/12/1984، المتضمن إنشاء المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة، الصادر بالجريدة الرسمية عدد 71، المؤرخة في 30/12/1984.

الجزائر، المرسوم الرئاسي رقم 93 – 39 المؤرخ في 26 جانفي 1993، يضبط مهام المعهد الوطني للدراسات الاستراتيجية الشاملة ويحدد تنظيمه وعمله، الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6، المؤرخة في 31/01/1993.

5/ المواقع الإلكترونية:

السيقلي محمود محمد، دور مراكز الفكر والبحث في صنع القرار: واقع مراكز الفكر العربية، مقال منشور سنة 2019 بموقع العلوم القانونية الإلكتروني: marocdroit.com ، تاريخ الاطلاع على الموقع 02/11/2021 / 20:00 م.

رجب علاء ابراهيم، دور المراكز البحثية الأمريكية في عملية صنع القرار السياسي: دراسة حالة مؤسسة “راند” الأمريكية، دراسة منشورة بالموقع الإلكتروني للمركز العربي للبحوث والدراسات: http://www.acrseg.org/40792، تاريخ نشر الدراسة: الجمعة 22 جويلية 2018 / 04:34 ص، تاريخ الاطلاع على الموقع 11 نوفمبر 2021 / 15:43 م.

رجب علاء ابراهيم، دور المراكز البحثية الأمريكية في عملية صنع القرار السياسي: دراسة حالة مؤسسة “راند” الأمريكية، دراسة منشورة بالموقع الإلكتروني للمركز العربي للبحوث والدراسات: http://www.acrseg.org/40792، تاريخ نشر الدراسة: الجمعة 22 جويلية 2018. / 04:34 ص، تاريخ الاطلاع على الموقع 11 نوفمبر 2021 / 15:43 م.

6/ المراجع الأجنبية:

B/ Articles :

Alice Ekman, Les Think Tanks Chinois : ambitions et contradictions, Institut Français des Relations Internationales, Politique étrangère, 2017.

C/ Etudes :

Stephen BOUCHER, L’Europe et ses Think Tanks : un potentiel inaccompli, une analyse des think tanks spécialistes de l’Europe au sein de l’Union Européenne élargie, octobre 2004, Etudes et recherches n° 35, Etude publiée sur le site http://www.notre-europe.asso.fr

[1] مجلة الأبحاث القانونية والسياسية، بلخير سلمى وشرفي محمود، واقع مراكز الفكر والدراسات في الجزائر بين الضرورة الاستراتيجية ورهانات المستقبل، صادرة عن جامعة سطيف 2، المجلد الثاني، العدد الثاني، سنة 2020، ص 216.

[2] سلسلة إصدارات مركز البيان للدراسات والتخطيط، دور مراكز الفكر والرأي في عملية صنع القرار السياسي الخارجي، دراسة صادرة عن مركز البيان للدراسات والتخطيط، سنة 2016، ص 4، الدراسة منشورة بالموقع الإلكتروني للمركز: www.bayancenter.org، تاريخ الاطلاع على الموقع: 14/11/2021 / 15:50 م.

[3] سلسلة إصدارات مركز البيان للدراسات والتخطيط، نفس المرجع، ص 9 و12.

[4] المجلة الجزائرية للدراسات السياسية، رزايقية حنان، دور مراكز الفكر في صنع السياسة الخارجية الأمريكية: الحرب على العراق نموذجا، صادرة عن المدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية، المجلد الرابع، العدد الأول، ص 268.

[5] بلخير سلمى وشرفي محمود، المرجع السابق، ص 218.

[6] مجلة جيل العلوم الإنسانية والاجتماعية، البرق لطيفة عمر، دور المراكز البحثية في إثراء المعرفة والبحث العلمي: دراسة ميدانية على عينة من أعضاء هيئة التدريس بكلية الآداب جامعة سرت، صادرة عن مركز جيل البحث العلمي، العام السابع، العدد 67، سبتمبر 2020، ص 54.

[7] المجلة السياسية والدولية، فخري عبد اللطيف إرواء، دور مراكز الأبحاث والفكر في صنع القرار السياسي ورسم السياسات العامة في العراق، صادرة عن كلية العلوم السياسية جامعة المستنصرية، العراق، ص 27.

[8] البرق لطيفة عمر، مرجع سابق، ص 55.

[9] المجلة الجزائرية للدراسات السياسية، بورياح سلمى، مراكز الأبحاث وآليات تأثيرها على صنع السياسات العامة، صادرة عن المدرسة الوطنية العليا للعلوم السياسية، المجلد الثالث، العدد الثاني، ص 133.

[10] البرق لطيفة عمر، مرجع سابق، ص 56.

[11] سلمى بورياح، المرجع السابق، ص 136.

[12] تم تأسيسه في الجزائر سنة 1984 بموجب المرسوم رقم 84-398، المؤرخ في 24 ديسمبر 1984، الصادر بالجريدة الرسمية عدد 71، المؤرخة في 30/12/1984، وتم تنظيمه إداريا ووظيفيا في الجزائر بموجب المرسوم الرئاسي رقم 93 – 39 المؤرخ في 26 جانفي 1993، الصادر بالجريدة الرسمية عدد 6، المؤرخة في 31/01/1993.

[13] أنظر نص المادة 2 و4 من المرسوم الرئاسي رقم 93 – 39 المؤرخ في 26 جانفي 1993، نفس المرجع.

[14] مجلة دفاتر السياسة والقانون، الخزندار سامي والأسعد طارق، دور مراكز الفكر والدراسات في البحث العلمي وصنع السياسات العامة، صادرة عن جامعة ورقلة، العدد السادس، جانفي 2012، ص 19.

[15] مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، تقييم مراكز الدراسات والبحوث العربية والدولية 2018-2019، ص 7.

[16] السيقلي محمود محمد، دور مراكز الفكر والبحث في صنع القرار: واقع مراكز الفكر العربية، مقال منشور سنة 2019 بموقع العلوم القانونية الإلكتروني: www.marocdroit.com ، ص 11، تاريخ الاطلاع على الموقع 02/11/2021 / 20:00 م.

[17] مجلة الفكر، ساعد رشيد، تأثير مراكز البحث والتفكير Think Tank على توجهات التفكير الإستراتيجي الأمريكي اتجاه الصين، صادرة عن جامعة بسكرة – الجزائر، العدد 13، فيفري 2016، ص 389.

[18] محمود محمد السيقلي، مرجع سابق، ص 12.

[19] رجب علاء ابراهيم، دور المراكز البحثية الأمريكية في عملية صنع القرار السياسي: دراسة حالة مؤسسة “راند” الأمريكية، دراسة منشورة بالموقع الإلكتروني للمركز العربي للبحوث والدراسات: http://www.acrseg.org/40792، تاريخ نشر الدراسة: الجمعة 22 جويلية 2018. / 04:34 ص، تاريخ الاطلاع على الموقع 11 نوفمبر 2021 / 15:43 م.

[20] السيقلي محمود محمد، المرجع السابق، ص 12.

[21] Alice Ekman, Les Think Tanks Chinois : ambitions et contradictions, Institut Français des Relations Internationales, Politique étrangère, 2017, p 146.

[22] السيقلي محمود محمد، المرجع السابق، ص 12.

[23] رزايقية حنان، المرجع السابق، ص 273 وما بعدها.

[24] السيقلي محمود محمد، مرجع سابق، ص 13.

[25] Stephen BOUCHER, L’Europe et ses Think Tanks : un potentiel inaccompli, une analyse des Think Tanks spécialistes de l’Europe au sein de l’Union Européenne élargie, octobre 2004, page 4, 7 et 10, Etudes et recherches n° 35, Etude publiée sur le site http://www.notre-europe.asso.fr

[26] الخزندار سامي والأسعد طارق، المرجع السابق، ص 17.

[27] البرق لطيفة عمر، المرجع السابق، ص 54 و55.

[28] فخري عبد اللطيف إرواء، المرجع السابق، ص 37.

مقال منشور في مجلة جيل الدراسات السياسية والعلاقات الدولية العدد 31 الصفحة 51.

اترك تعليقا