المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

كتاب : المنشقون بين المنشقين


كتاب : المنشقون بين المنشقين
روسيا بين الميراث السوفيتي و الثالوث القاتل

ترجمة وعرض: نضال إبراهيم

تتحدث نشرات الأخبار في كل دول العالم اليوم عن روسيا. هل يمكن القول إنها على أعتاب إعادة أمجادها الغابرة؟ يقدم المؤلف #إيليا_بودرايتسكيس في كتابه «المنشقون بين المنشقين» تحليلاً شاملاً للمشهد السياسي والثقافي للبلاد من منظور يساري نقدي من الداخل، ويوضح كيفية إعادة تشكيل السياسة والثقافة الروسية في عهد بوتين، وكيف وصلت الأمور إلى الوضع الراهن.

كتب المؤلف معظم فصول الكتاب بين عامي 2014 و2020، ويقدم فيه مساهمة قيّمة من خلال إعادة بناء التاريخ المنسي لليسار المنشق لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، ويرسم خرائط لنمط بديل بشكل كامل للفكر الماركسي والاشتراكي سواء من برنامج «ذوبان خروتشوف» الذي كان بين أوائل خمسينات القرن العشرين وأوائل ستيناته، حين خفّ القمع والرقابة في الاتحاد السوفييتي، وسُرِّح ملايين المعتقلين السياسيين السوفييتيين من معسكرات الغولاغ، بفضل سياسات نيكيتا خروتشوف التي استَهدفت التراجع عن سياسات ستالين والتعايش السلمي مع الدول الأخرى ثم إلى ما يعرف ب«البيريسترويكا» التي تعني «إعادة الهيكلة» وهي برنامج للإصلاحات الاقتصادية أطلقه رئيس الاتحاد السوفييتي، ميخائيل غورباتشوف.

ولد المؤلف في موسكو عام 1981، وهو من جيل نشأ عندما كان الاتحاد السوفييتي يتجه نحو نهايته. بالنسبة لوالديه، كانت «البيريسترويكا» والنضال من أجل الديمقراطية عاملاً أساسياً. كان والده، وهو مهندس كيميائي يعمل في قطاع الدفاع، من بين أولئك الذين احتشدوا إلى جانب بوريس يلتسين في مبنى البرلمان الروسي لمعارضة الانقلاب في أغسطس/آب1991، أما والدته، وهي محررة في قطاع النشر الواسع في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، كانت عضواً فيما يطلق عليه غالباً «المثقفون الجماهيريون». لكن بالنسبة للمؤلف، كان الملمح الرأسمالي الجديد في التسعينات هو الذي شكله؛ حيث نشأ تحت تأثير مزيج من أيديولوجية السوق الحرة المتسارعة والمشاعر المعادية للشيوعية.

في محاولتهم للهروب مما كان يحدث، سارع المراهقون من جيل المؤلف إلى البحث عن الموارد المهمة والفرص السياسية التي يمكن أن يجدوها في أواخر التسعينات المربكة (كان عمر المؤلف ثمانية عشرة سنة في العام الذي وصل فيه بوتين إلى السلطة لأول مرة كرئيس وزراء ليلتسين، في العام الذي أعقب أزمة الروبل في عهد يلتسين 1998). انجذب العديد من أقرانه، على سبيل المثال، إلى البلشفية الوطنية لإدوارد ليمونوف، وهي مزيج من الشيوعية والفاشية. لكن مؤلف هذا الكتاب ابتعد عن مثل هذه الانتقائية المريبة، وسعى لترسيخ نقده للإجماع الرسمي من منظور اشتراكي راسخ. قرأ بنهم عن تاريخ العالم وتاريخ اليسار على وجه الخصوص، وكان قادراً على الاعتماد على الموارد الهائلة التي توفرها دور النشر السوفييتية.

عمل بودرايتسكيس محاضراً في الفلسفة السياسية في كلية موسكو العليا للعلوم الاجتماعية والاقتصادية، وهي مؤسسة انطلقت في عام 1995 على يد عالم الاجتماع تيودور شانين. شارك في جهود أوسع لإعادة تأسيس سياسة اشتراكية في روسيا. لقد كان، على سبيل المثال، جزءاً من الحركة الاشتراكية الروسية منذ تأسيسها في عام 2011، وعمل إلى جانب الشاعر كيريل ميدفيديف لتقديم ترجمات لإسحاق دويتشر للصحافة الماركسية الحرة. في الآونة الأخيرة، بدأ المؤلف بإطلاق بودكاست، بالاشتراك مع عالم السياسة إيليا ماتفيف بعنوان «مذكرات سياسية»، ويشير العنوان إلى النشرة الإخبارية «ساميزدات» التي أنشأها المنشق اليساري روي ميدفيديف بين عامي 1964 و1970.

عودة اليسار الروسي

منذ عودة بوتين إلى الرئاسة في عام 2018، ساد مناخ معارضة متزايد في روسيا. أصبحت الحركات الاحتجاجية جزءاً طبيعياً من المشهد السياسي بطريقة بدت غير واردة قبل سنوات قليلة فقط. ظل اليسار الروسي الناشئ إلى حد كبير هامشياً لهذه الزيادة، التي لا تزال تهيمن عليها الحركات ذات التوجه الليبرالي الواسع مثل تلك التي يرأسها أليكسي نافالني، الناشط المناهض للفساد الذي ظهر باعتباره المنافس الأبرز لبوتين. يرى المؤلف أن تكوين الاحتجاجات اجتماعياً وجغرافياً وديموغرافياً أصبح أوسع من ذي قبل، وهذا بدوره «يفتح مساحة للأفكار الاشتراكية» التي كانت شبه غائبة تماماً في روسيا منذ نهاية الحرب الباردة.

يقول المؤلف أنه في اليوم الراهن غالباً ما تظهر روسيا في الأخبار العالمية كعامل جيوسياسي، فزعيمها يلقي بالاتهامات على الغرب ككل؛ ونجد جنوده في أوكرانيا ثم في سوريا، في الوقت الذي يعمل رجاله على تقويض أمن الديمقراطيات الليبرالية. هذه الصورة للتهديد الخارجي الدائم، الموروثة إلى حد كبير من الحرب الباردة، تفترض مسبقاً وجود ثالوث قاتل داخل روسيا نفسها: (حكومة استبدادية، وأغلبية وطنية مخلصة تدعمه، وحفنة من المنشقين الذين يناضلون من أجل حقوق الإنسان وحريات المدنيين..) إن صراع هؤلاء المنشقين محكوم عليه بالفشل (لأنه يتعارض مع التجربة التاريخية لبلدهم). والمثير للدهشة أن هذه الصورة، التي تتبناها وسائل الإعلام الغربية، تتطابق كلياً مع الخط الذي وضعته الدعاية الروسية الرسمية.

يقول المؤلف: «يسعى النظام الراهن الذي تطور على مدى العقود الثلاثة الماضية من أنقاض الاتحاد السوفييتي إلى تقديم نفسه كخليفة طبيعية لدولة عمرها ألف سنة ومدافع عن «القيم الأخلاقية التقليدية»، أثناء السعي لإثبات أن أي معارضة تفتقر إلى جذور حقيقية في المجتمع الروسي، وهي في النهاية مجرد أداة للنفوذ الغربي. هذا «التسييس الجيوسياسي» لروسيا، والذي يعمل على حجب الصراعات الاجتماعية داخل البلاد، ترك تأثيره على أجزاء من اليسار الغربي، الذين كانوا في كثير من الأحيان على استعداد لتبرير تصرفات النظام الروسي المعاصر على أسباب طابعها «المعادي للإمبريالية».

يذكر الكاتب أن هدفه من هذا العمل هو تحدي هذه الآراء السائدة، وهذا لا يستلزم فقط تحليلاً ملموساً، مرتبطاً بنقد الأيديولوجية السائدة في البلاد، لكن أيضاً إعادة التفكير في الموقف الذي ينبغي أن يصدر منه هذا النقد. يقول: «أعتقد اعتقاداً راسخاً بأن البديل الحقيقي للوضع الحالي في روسيا لا يمكن أن يأتي إلا من منظور يساري ومناهض للرأسمالية. علاوة على ذلك، على هذا الأساس فقط يمكن أن تكون هناك نظرة دولية حقيقية، تتغلب على منطق المواجهة الجيوسياسية والكليشيهات الدعائية».

ويشير إلى أنه من الواضح الآن أننا نجد أنفسنا على أعتاب فترة جديدة؛ حيث ستكشف الأزمات الاقتصادية والسياسية تدريجياً جميع نقاط ضعف النظام الذي تبلور في روسيا منذ انهيار الاتحاد السوفييتي خلال عقود من استقرار بوتين. بالنسبة لليسار الروسي، ستتطلب الفترة المقبلة شجاعة وتحليلاً واضحاً وإخلاصاً لتقاليده التاريخية الغنية، وسيكون على اليسار الغربي التضامن والقدرة على مقاومة التيار الإعلامي السائد.

مفارقات روسية- غربية

يشير الكتاب إلى أنه «من بين التقلبات العديدة في علاقات روسيا مع الغرب منذ نهاية الحرب الباردة يكمن بشكل خاص في مفارقاتها. بالمقارنة مع نظام الحزب الواحد المنغلق لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية، فإن روسيا الديمقراطية اسمياً أصبحت أكثر غموضاً وأقل فهماً من قبل المراقبين الغربيين. هناك عدة أسباب لذلك، بما في ذلك الانكماش المفاجئ، من التسعينات فصاعداً، وعدم تمويل الأبحاث حول القوة العظمى التي أصبحت منقرضة الآن، هناك عامل بارز آخر هو النقص النسبي في ترجمات أعمال روسية عن روسيا المعاصرة. ونتيجة لذلك، فإن الكتابة عن روسيا تهيمن عليها كتابات بأقلام الغرباء، والتي تميل إلى عكس الأولويات والافتراضات السابقة للجماهير المحلية. ضمن هذا المشهد، يتم تهميش التحليل النقدي من اليسار الروسي بشكل مضاعف».

يستكشف الكاتب كيف أدى سقوط الاتحاد السوفييتي والهيمنة الطويلة لفلاديمير بوتين إلى إعادة تشكيل السياسة والثقافة الروسية. ويصف الاندماج الغريب بين أيديولوجية حرية السوق والقومية ما بعد الحداثة التي تسود هناك الآن، ويرسم العديد من التقلبات والتناقضات في التخيلات الجيوسياسية للكرملين، والتي تمزج بين الإشارات الحديثة إلى حروب المعلومات مع الاحتفاء بالحنين إلى الماضي وعهد القياصرة.

يغطي المؤلف مجموعة متنوعة من الموضوعات، من الجغرافيا السياسية إلى الأدب، والتاريخ إلى الثقافة الشعبية، وعبر هذا النطاق، يتغلغل خيط ثابت يهيمن على العمل وهو التفكير الإبداعي والنقدي حول النظام الحاكم في روسيا، من جميع جوانبه، حيث يقدم رؤية يسارية عن التحولات التي مرت بها البلاد في العقود الأخيرة.

بنية الكتاب

رتب المؤلف المقالات ضمن ثلاثة أقسام كالتالي: الأول بعنوان «عوالم خيالية عن القوة» يركز على التخيلات الجيوسياسية، لاسيما تلك الخاصة بالكرملين ونظرائه الغربيين. في خضم المواجهة المتصاعدة بين روسيا والغرب، والحادة بشكل خاص منذ أزمة أوكرانيا وضم شبه جزيرة القرم في 2013-2014، يتساءل المؤلف: ما هي الرؤى والمخاوف والأوهام التي تحفز الجهات الفاعلة حقاً؟ يلقي في هذا القسم نظرة انتقادية على الصور النمطية للحرب الباردة الجديدة بينما يستكشف أوهام رؤية الكرملين للعالم، وفي الوقت نفسه يضع صدامات معاصرة على خلفية تاريخية أعمق.

تتجه المقالات في القسم الثاني بعنوان «السياسة الثقافية في عهد بوتين» إلى السياق المحلي الروسي، وإلى تناقضات المجال الثقافي والأيديولوجي الذي يهيمن عليه الفكر المحافظ، ومع ذلك لا تزال تطارده أشباح الماضي السوفييتي. يحلل المؤلف العواقب الناشئة عن صعود القومية المحافظة، بدءاً من صورة محددة عن عالم الفنون والثقافة؛ حيث تم تشكيل هجين من السياسات العامة الجديدة وأيديولوجية ما بعد الحداثة المميزة للكرملين. في صيغة فلسفية على نحو أكثر، يتعمق الكاتب في عمل المفكر إيفان إيلين، الذي غالباً ما يُنظر إلى آرائه اليمينية على أنها المفتاح لقراءة أفكار بوتين السياسية. ومع ذلك، فبالنسبة للمؤلف، ليس من منظور أيديولوجي، لكن كفيلسوف أخلاقي يمكن لإيلين مساعدتنا في فهم النظام الحالي، لأنه قدم الشرعية لاستخدام الدولة للقوة باسم هدف أخلاقي أعلى. تتناول المقالات اللاحقة في هذا القسم الأهمية السياسية والثقافية المعاصرة للماضي السوفييتي، لاسيما في المخاوف الليبرالية بشأن استمرار الهوس ب«الإنسان السوفييتي» وهو نوع من الزومبي الاجتماعي.

تجديد الروح اليسارية

تقدم المقالات في القسم الأخير تحت عنوان «الميراث السوفييتي»، موارد لتجديد اليسار الروسي. منذ أواخر الخمسينات فصاعداً، حاولت مجموعة كاملة من الجماعات اليسارية المنشقة الدفع بسياسة اشتراكية صريحة انتقدت النظام السوفييتي لقصوره عن مبادئه الماركسية، لكن قوبلت هذه التيارات بأشكال مختلفة من القمع. يُظهر المؤلف في مقال – يشكل جوهر هذا القسم وأخذ منه عنوان كتابه – عن اليسار ما بعد الاتحاد السوفييتي، أن ذلك أدى فعلياً إلى فصلهم عن الحركات اليسارية التي بدأت تتشكل في التسعينات.

يختتم المؤلف العمل بتأملات حول المسار الطويل الأمد للمثقفين الروس، ويدعوهم إلى العمل لتجديد الروح اليسارية التي يمكن لها أن تغير روسيا، وتجعل سياساتها تركز على مصالح الشعب الروسي ورفاهيته.

اترك تعليقا