المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

ماكرون يخلف نفسه بالاقتراع السلبي

هل يغيّر الفرنسيون رئيسهم الليبرالي الذي أتى قبل خمس سنوات من خارج المؤسسات السياسية التي تصنع الرؤساء في بلادهم؟ هل يجرؤون على تغييره لصالح امرأة للمرة الأولى في تاريخهم؟ هل يفعلونها وقارّتهم تعيش حرباً طاحنة في #أوكرانيا قد تفضي إلى تغيير النظام العالمي؟ هل يستسلمون لليمين المتطرف الذي يرسم مستقبلهم بعيون الماضي الفرنسي “المجيد”؟ هل يغيرون رئيساً لا إجماع على سياسته في مواجهة الجائحة وعلى إصلاحاته المؤذية في قانون التقاعد والمحروقات وسياسته الأوروبية الخ؟

تجزم استطلاعات الرأي بأن الفرنسيين لن يفتحوا أبواب الإليزيه امام اليمين المتطرف. أقول تجزم لأنها تعطي #ماكرون حوالي 56% من الناخبين، وإذا افترضنا أن هامش الخطأ لا يتعدى 3% أو حتى 4% فإن ماكرون سيخلف نفسه بنفسه بنسبة 51 إلى 52% في الحد الأدنى، وسيكون الرئيس الأول الذي تمكن من تولي الحكم مرتين منذ أن خفض الرئيس الراحل #جاك شيراك سنوات الرئاسة من سبع إلى خمس سنوات.
ثمة من يشكك في استطلاعات الرأي. فهي أخفقت في رصد نتائج #البريكسيت في #بريطانيا. وفي نتائج اتفاقية الدستور الأوروبي عام 2005 وأخفقت في رصد نتائج الدورة الأولى من رئاسيات العام 2002. ما يعني انها يمكن أن تخفق أيضاً في رصد نتائج الرئاسيات هذه المرة أيضاً فتفوز السيدة #لوبن. هذه الحجة على أهميتها تستدعي النظر بدقة في التجارب الثلاث. كانت التقديرات متقاربة في قضية البريكسيت وبالتالي هامش الخطأ ضعيف، ما أدى إلى انتصار الرافضين لبقاء بريطانيا في #الاتحاد الأوروبي.

في رئاسيات العام 2002 كانت نتائج استطلاعات الراي دقيقة قبل أسبوعين من الاقتراع فاعتقد الاشتراكيون أن مرشحهم ليونيل جوسبان سيتجاوز الدور الأول بداهة فانخفضت أنشطتهم التعبوية وناموا على حرير الفوز ليخسر جوسبان بفارق ضئيل من الأصوات 16,8% مقابل 16,86%. أما في استفتاء الدستور الأوروبي فقد راهنت مؤسسات الاستطلاع يومها على انتقال دينامية فوز شيراك بالرئاسيات بنسبة 82 بالمئة إلى الاتفاقية. بالمقابل كان رفض المستفتين شبه مؤكد لدى بعض المستطلعين، وقد اختلفت مؤسسات استطلاع الرأي حول النتيجة ولعل اختلافها يبطل استخدامها كدليل أو كحجة على احتمال فوز السيدة لوبن التي تجمع الاستطلاعات على خسارتها في الدورة الثانية نهاية الأسبوع الجاري.

بمقابل الأمثلة المذكورة تفيد حصيلة استطلاعات الرأي في الدورة الثانية للانتخابات الرئاسية منذ عقود أنها كانت مصيبة في توقع الفائز بنسبة تصل إلى اكثر من 95 بالمئة فقد توقعت فوز جاك شيراك في انتخابات العام 1995 وفي فوزه ثانية في انتخابات العام 2002. وتوقعت فوز نيقولا ساركوزي عام 2007 وفرانسوا هولاند عام 2012 وماكرون عام 2017. ما يعني أن تراكم توقعاتها الدقيقة تصح كحجة على صواب تأكيدها هذه المرة أيضا بفوز ماكرون.

لكن الاستطلاعات لا تختصر الاقتراع ولا تحل محله، وبالتالي يمكن أن تلحق الضرر بالمرجح للفوز فيها إذا ما نام على حرير الانتصار، كما هي الحال بالنسبة لليونيل جوسبان في الدورة الأولى لرئاسيات عام 2002. فهل يصاب ماكرون بغرور الفوز المحقق في الاستطلاعات ويخسر في صناديق الاقتراع؟ لا دليل حتى الآن على هذه الوجهة، بل تجتمع أدلة مضادة تماماً، إذ ما انفك أنصاره والقوى السياسية الرافضة لوصول اليمين المتطرف إلى قصر الإليزيه، ما انفكوا يحذرون ناخبيهم من مخاطر الامتناع عن التصويت بما يعزز فرص لوبن.

بعيداً عن استطلاعات الرأي فقد رسمت المناظرة التلفزيونية بين الطرفين ملامح كل منهما بالقياس إلى موقع الرئاسة، فبدا بوضوح أن ماكرون هو الرئيس المناظر وان السيدة لوبن المرشحة المحتجة على حكمه، تواجهه بمطالب الناقمين والمتذمرين من سياسته. ولعل هذا الشعور يستقر في وعي قسم وافر من المقترعين المترددين الذين لم يحددوا خيارهم بعد.

يبقى أن أثر الخوف من اليمين المتطرف في الثقافة السياسية الفرنسية قد يعيدنا إلى سيناريو العام 2002 بين جاك شيراك ولوبن الأب حيث اقترع اليسار لصالح شيراك وبرر اليساريون “اقترافهم” هذا بالقول: فعلنا ذلك مع منديل على الأنف. كان شيراك في حينه مرشحاً لخلافة نفسه تماماً كالسيد ماكرون أو جوبيتير، لقبه الشائع هنا( كوكب المشتري بالعربية) والذي سيحصد  معظم أصوات اليساريين الذي سيقترعون سلباً حتى لا تصل السيدة لوبن إلى قصر الإليزيه. والخوف سيدفع أيضاً قسماً وافراً من الفرنسيين ذوي الأصول العربية والإسلامية إلى الاقتراع ضد اليمين المتطرف الذي بنى استراتيجيته على العداء للعرب والمسلمين بخاصة والأجانب عموماً، علماً أن السيدة لوبن قد نجحت إلى حد كبير في تعديل صورة حزبها البشعة في أوساط الرأي العام، إلا أن تحالف السيد أريك زمور معها في الدورة الثانية أعادها إلى المربع الأول، فهو يريد تغيير أسماء المسلمين وكتم أصواتهم أثناء الصلاة ومنع الحجاب و”الفولار” في الأماكن العامة ونزع الجنسية عمن يرى أنه لا يستحقها وتصعيد التوتر مع بلدان المسلمين الأصلية. ولو قيض لمفكر درج على نظرية المؤامرة التأمل في هذه اللعبة السياسية الفرنسية لخلص إلى استنتاج مفاده أن يداً خفية وضعت الرئيس الذي تضرر الناس من سياساته بمواجهة يمين متطرف بجناحين، واحد قميء والثاني أقل شناعة، ودفعت الناس مكرهين لكي يختاروا ضرراً خوفاً من ضرر أكبر منه. الراجح أن فرنسا لن تتنفس الصعداء يوم الاثنين القادم. الرئيس الفائز قد لا يتمكن من الحصول على أكثرية برلمانية لتطبيق برنامجه في الحكم وسيكون مضطراً للتعايش مع حكومة يريدها خصومه، في حين لن يقف اليمين المتطرف بجناحيه مكتوف اليدين وقد ينزل إلى الشارع حيث اليسار المتشدد وهذا يعني أن الانتخابات النيابية القادمة خلال أسابيع أبعد من أن تتم “بالتي هي أحسن”.

المصدر : النهار اللبنانية

اترك تعليقا