المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

ما هو سبب النشاط الدبلوماسي السعودي في المنطقة؟

بدأت المملكة العربية السعودية باتخاذ خطوات دبلوماسية بنحو غير مسبوق تجاه علاقاتها مع دول المنطقة، بدءاً من المصالحة مع إيران الذي أفضى إلى بداية حل للازمة في اليمن ولبنان، فيما كانت الخطوة الأهم هو التقارب مع سوريا والعمل على إعادتها إلى الجامعة العربية.

ونشر شاهر الشاهر أستاذ مشارك بكلية الدراسات الدولية في جامعة سون يات سين في الصين، أستاذ في كلية العلوم السياسية – جامعة دمشق (سابقاً)، شرح فيه سبب الناشط الدبلوماسي الكبير الذي تقوم به السعودية، وفيما يلي نص المقال الذي نشره الشاهر في موقع صحيفة ” مودرن دبلوماسي”:

لو سقطت سوريا على النحو المنشود لها عام 2011، لكان النظام العربي الرسمي قد سقط، وكنا نشهد نظامًا من نوع آخر، علاوة على ذلك، كنا سننتقل من عصر الدولة العربية الحديثة إلى عصر “داعش”، التي أسسها باراك أوباما، كما اعترفت هيلاري كلينتون في مذكراتها.

وتشهد المنطقة العربية نشاطاً دبلوماسياً غير مسبوق لم نقم به منذ 2011، والسعي إلى احتضان دمشق من قبل العرب مرة أخرى حتى تتمكن من العودة إلى العمل العربي المشترك كما كان دائماً.

واليوم وبعد اقتناع الجميع بفشل كل المقاربات العربية في حل الأزمة في سوريا، لم يعد من الممكن العودة إلى مقاربات تلك السنوات. بدلاً من ذلك يجب أن نبحث عن مناهج جديدة تأخذ في الاعتبار ما حدث على أرض الواقع.

أما بالنسبة للظروف، فقد ثبت عدم قدرة أحد على فرضها على سوريا، التي استطاعت الاستمرار والوقوف بحزم في مواجهة هذه الصعوبات، وأحبطت كل المحاولات التي تستهدف بقائها ووجودها. أما بالنسبة للمشاورات العربية فهي دائماً موضع ترحيب من دمشق التي أعلنت منذ اليوم الأول لأزمتها انفتاحها على أي تجربة عربية في الديمقراطية وانتقال السلطة، وكيف تتعامل هذه الدول مع المعارضة السياسية فيها.

كما أن قطع العلاقات الدبلوماسية مع سوريا يعكس عدم القدرة على معرفة مغزى إقامة هذه العلاقات، وأنها قائمة بين الدول لا بين سلطاتها، فالسلطة شيء والدولة شيء آخر.

كل هذا دفع الجميع إلى التفكير ببعض المداولات، والابتعاد عن تضخم الأنا الذي دفع بعض الدول إلى عدم معرفة وزنها وتأثيرها على الساحة الدولية بعد أن اعتقدت بعض الدول أن دورها الوظيفي الذي رسم لها قد تجعلها رائدة في بيئتها الإقليمية، خاصة إذا كانت هذه البيئة ممزقة وضعيفة، لذلك قد لا يرغب البعض في الاعتراف بانتصار سوريا، فكيف يمكن لدولة دمرت أن تدعي النصر! هذا هو النهج السطحي لما حدث في سوريا.

لكن النهج الواقعي يخبرنا أن ما أريده لدمشق أكبر من ذلك بكثير. لقد استُهدفت سورية في تاريخها وحضارتها التي تفتخر بها حتى تعود كبقية الدول التي لا يتجاوز عمرها العمر الطبيعي للإنسان.

تقسيم العالم وانتصار حلفاء دمشق:

يشهد العالم تشكيل أنماط جديدة من العلاقات بين الدول، هدفها سعي بعض الدول للحصول على مكانة أفضل على الساحة الدولية، أو الاستعداد لمواجهة التحديات القادمة التي تستهدف وجود الدولة وكيانها، ومنطقتنا العربية ليست خارجة عن هذه القاعدة.

يبدو أن المنطقة العربية من المرجح أن تكون ساحة أخرى لتصيفة عشرات من الصراعات بين القوى الكبرى في سعيها إلى تشكيل نظام عالمي جديد تكون أولى سماته نهاية حقبة القطب الواحد وظهور أقطاب أخرى، ومنذ الحرب العالمية الثانية لم تعد الدول الكبرى تقاتل بعضها البعض (حروبًا مباشرة)، بل تقاتل مع دول صغيرة، وتسعى إلى المواجهة على أراضيها، وتحمل شعوب تلك الدول تكاليف تلك الحروب.

وجعل اندلاع الحرب في أوكرانيا الساحة الأولى لتلك المعارك، لكنها قد لا تكون الأخيرة. هناك مناطق أخرى في العالم من المحتمل أن تنفجر في أي لحظة. أول هذه المناطق هي منطقة بحر الصين الجنوبي، ومنطقة الشرق الأوسط، التي كانت تدفع على مدار تاريخها ثمن الصراعات الدولية التي أنتجها هيكل النظام الدولي القائم، سواء كان ثنائي القطب أو أحادي القطب فيما بعد.

ووقع الأوروبيون في الفخ وأصبحوا أول من دفع ثمن النضال من أجل الهيمنة الدولية، وبدأت الشعوب الأوروبية تفقد الازدهار الذي عاشته على مدى عقود، تمكنت خلاله بلدانها من نهب ثروات الشعوب واستعبادهم، لكن الصين التي تعتبر أكبر منافس للولايات المتحدة وتهديدًا حقيقيًا لها، ما زالت تنجح في تفادي نقل الصراع الدولي إليها أو إلى محيطها الإقليمي.

وبدأت دول الشرق الأوسط وخاصة الدول العربية تشعر بهذا الخطر وتسعى لتجنبه أو الاستعداد لمواجهته، أبرمت السعودية اتفاق مصالحة مع إيران، ليكون مفتاح حل العديد من القضايا الخلافية في المنطقة، لا سيما القضية السورية.

ثم بدأت الدول العربية بالسعي لتوحيد الجهود استعدادًا لما هو آت، خاصة في ظل الاضطرابات الداخلية التي تمر بها إسرائيل، وشعورها بالضعف بعد نجاح المبادرة الصينية، وإعادة العلاقات بين إيران ودول الخليج. وبدأت تلك الدول في إعادة الحساب وإبطاء اندفاعها نحو التطبيع مع الكيان الصهيوني، حيث اعتادوا اعتباره حليفًا يقف معهم ضد “التهديد الإيراني” المزعوم.

السعودية عاصمة القرار العربي

بدأت المملكة العربية السعودية في تغيير توجهاتها السياسية تجاه سوريا لعدة أسباب، منها: التغيير الكبير في قيادة المملكة، بعد وفاة الملك عبد الله بن عبد العزيز عام 2015، وتولى الملك سلمان العرش. وكان الملك عبد الله من أنصار التغيير السياسي في سوريا، لاعتبارات تتعلق بمقتل رفيق الحريري في لبنان، والتحالف السوري مع طهران، والعديد من القضايا الأخرى.

لكن مع وصول الملك سلمان، حدث تغيير في وزارة الخارجية السعودية، حيث تم إقالة سعود الفيصل، وزير الخارجية السابق، بعد أن ظل في منصبه لمدة أربعة عقود (1975-2015). وهذا يعني رغبة الملك سلمان في صياغة نهج جديد في توجهات السياسة الخارجية للمملكة، وكان للفيصل دور كبير في تصعيد الموقف السعودي من سوريا، وكان آخر وزير خارجية من الأسرة الحاكمة، حيث خلفه عادل الجبير الذي أقيل على صلة بقضية مقتل الصحفي جمال خاشقجي، ثم إبراهيم العساف، ثم فيصل بن فرحان الوزير الحالي.

ومع تولي الأمير محمد بن سلمان ولاية العهد، سعى إلى اتباع سياسة خارجية مختلفة تمامًا عن سابقتها، لذلك لم تعد الولايات المتحدة الحليف الوحيد للمملكة نظرًا لاعتبارات وطنية، كما تعهد الرئيس بايدن بعدم للتعامل معه خلال حملته الانتخابية لاتهامه بقتل الصحفي جمال خاشقجي السعودي الذي يحمل الجنسية الأمريكية.

وبدأت المملكة تتجه شرقا نحو روسيا والصين، بحثا عن حليف قادر على استبدال الولايات المتحدة في المستقبل لأن العلاقة مع أمريكا استراتيجية ومتجذرة، ولا يمكن أن تنتهي بسرعة.، وعندما وقعت الحرب في أوكرانيا ازدادت أهمية المملكة للعالم، في ظل العقوبات الأمريكية والغربية المفروضة على موسكو، وحاجة العالم وأوروبا إلى النفط السعودي. ونتيجة لذلك، جاءت زيارة الرئيس الصيني للمملكة، وعقد ثلاث قمم هناك (قمة صينية سعودية، قمة صينية خليجية ، قمة صينية – عربية) لتخليد أهمية المملكة كقائد لدول المنطقة العربية.

السعودية ورغبتها في القضاء على المشاكل

شعر الأمير محمد بن سلمان بأهمية إزالة المشاكل مع دول الجوار، وخاصة العربية منها، وذلك لعدة أسباب منها:

تعزيز سيطرته على المملكة والتأكد من انتقال السلطة إليه في المستقبل بهدوء وسلاسة، خاصة وأن هناك معارضة له داخل الأسرة الحاكمة لأنه سيكون الملك الأول من نسل الملك عبد العزيز المؤسس، ليس من ابنائه.

العلاقة غير المستقرة مع الولايات المتحدة، والرغبة في البدء في تحقيق المزيد من الاستقلال للقرار السياسي للمملكة.

الاستثمار في تداعيات الحرب الأوكرانية على أسعار النفط، وعلى مكانة المملكة المتنامية دولياً.

الاهتمام بالوضع الداخلي وتنفيذ رؤية المملكة 2030.

العمل على تحسين سمعة المملكة في العالم من خلال البدء بسياسة الانفتاح وتعزيز مكانة المرأة.

دور السعودية في إعادة سوريا إلى محيطها العربي

على الرغم من الدعوات السابقة لعودة سوريا إلى محيطها العربي وأهميتها، والتي قادتها سلطنة عمان والجزائر والإمارات، إلا أنها لم تحقق نتائج مهمة على المستوى العربي ربما بسبب معارضة المملكة في ذلك الوقت أو لرغبتها في لعب هذا الدور الذي يجعلها رائدة النظام الإقليمي العربي.

هذا النظام الذي تم تشكيله بعد إنشاء جامعة الدول العربية عام 1945، والذي كرّس مصر كقائد لها على مدى عقود.

كما لعبت سوريا دورًا رئيسيًا في الحفاظ عليها وجمع أعضائها، حتى تكاثر القول بأن “سوريا قلب العروبة النابض”، وقد ثبتت صحة هذا القول على الجميع بعد خروج سوريا من الجامعة العربية عام 2012، كما نحن لم نعد نشهد أي شكل من أشكال العمل العربي المشترك، وأصبحت صورة الجامعة قاتمة في عيون كثير من العرب.

وأرادوا إضعاف سوريا، بل وحتى تدميرها، بعد تدمير العراق وإخراجهما من موازين المنطقة كقوة فاعلة، وحتى كعنصر توازن في المنطقة.

واكتشفت المملكة أنها قد لا تبقى بمعزل عن الأحداث في المنطقة، خاصة وأن خطط التقسيم كانت تستهدفها أيضًا، لذا كان من الضروري رؤية جديدة ونهج استراتيجي لوقف هذا التراجع والضعف العربي. وكانت النتيجة الأولى لـ “الربيع العربي” تدمير ما يسمى بـ “دول الشمال العربي” (العراق وسوريا ومصر)، بحيث انتقلت مراكز القوة والثقل إلى دول الخليج العربي (دول الجنوب)، لاعتبارات تتعلق بالظروف الاقتصادية لهذه الدول، وتعقيد علاقاتها الدولية.

واليوم، أصبحت عودة سوريا إلى محيطها العربي حقيقة واقعة، في ظل التطور السريع في العلاقات الثنائية بين سوريا والدول العربية، أما بالنسبة لرفض عودة سوريا إلى الجامعة العربية، فإنها تكشف الآن عن ضعف في العلاقات الثنائية بين سوريا والدول العربية، كما يكشف عن ضعف ميثاق هذه الجامعة وضرورة إصلاحها لأنه كيف يمكن لدولة صغيرة أن تقف في طريق الإجماع العربي وتمنع سوريا من العودة إلى الجامعة العربية التي هي عضو مؤسس فيها، في حين أن تلك الدولة ربما كانت غير موجودة؟.

سوريا والعرب باتفاقات لا شروط

وبعد زيارة وزير الخارجية السوري فيصل المقداد إلى الرياض، بدأ من البيان الختامي المشترك وكأن المملكة تسعى إلى إيجاد طريق لحل سياسي في سوريا، من خلال سعيها لاستثمارها على الصعيدين الإقليمي والدولي.

كما بدا واضحا ان هذا البيان تمت صياغته بالتشاور والاتفاق بين البلدين ليكون بديلا عن المبادرة الأردنية التي سميت بالمبادرة التدريجية، لذا تريد سوريا إيجاد حل لمشكلتها وتسعى إلى إعادة شعبها، وتؤمن بأن الدور العربي يجب أن يكون دورًا مشجعًا وليس دورًا معرقلًا.

وثم عقدت القمة العربية في جدة، بمشاركة تسع دول عربية (6 + 3)، والتي جمعت دول مجلس التعاون الخليجي ومصر والعراق والأردن ، في محاولة من المملكة للتخلص من الدول المعارضة لحضور سوريا القمة العربية المقرر عقدها في الرياض الشهر المقبل في ظل معارضة خمس دول لعودة سوريا إلى الجامعة وهي مصر والمغرب والكويت وقطر واليمن.

ورغم فشل القمة في تحقيق هدفها، لم يصدر أي بيان مشترك، بل صدر بيان فقط من الخارجية السعودية، إلا أن ذلك لن يثني المملكة عن سعيها للترويج لعودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، خاصة وأن المملكة بحكم نفوذها الكبير تسعى لإيجاد حل لذلك معظم الرافضين للجهود السعودية هي دولة قطر، لكن هذا سيحل في نهاية المطاف خاصة في ظل الانفتاح العربي على دمشق، الأمر الذي سيجعل من يريد عزل سوريا يعزل نفسه على أرض الواقع.

ورغم عدم اتفاق الحضور على عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية، فقد تبنوا البيان المشترك الذي صاغه الاجتماع الثنائي السوري السعودي، والذي أكد على وحدة الأراضي السورية وتعزيز سلطة الحكومة السورية على كامل أراضيها.

ويبقى أن المملكة تلعب دورًا في إقناع تركيا بضرورة الانسحاب من الأراضي السورية، خاصة أنها ساهمت في إنقاذ الاقتصاد التركي من خلال إيداع وديعة كبيرة بقيمة 5 مليارات دولار في البنوك التركية بالإضافة إلى العمل مع المجتمع الدولي وإقناعه برفع الحصار عن سوريا، بعد حصولها على تفويض عربي بذلك، على اعتبار أنها ستكون على رأس القمة العربية المقبلة.

كل هذه المساعي لم تكن لتنجح لولا وجود سياسة خارجية سورية حازمة ومبدئية منفتحة على العالم العربي وتنسى جروح الماضي في تعاملها مع شؤونها الإقليمية والدولية.

اترك تعليقا