المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

هل يتقلّص دور الدولار الأمريكي في التجارة العالمية؟

قبل الحرب الروسية الأوكرانية كانت الولايات المتحدة تسعى للحفاظ على نموذج “سيادة العملة الموحدة” والذي يقوم على هيمنة الدولار الأمريكي على التجارة العالمية. وبالرغم من أن الدولار لعب بالفعل دورًا كبيرًا في التجارة الدولية، إلا أن هذا الدور لم يكن حصريًا في التعاملات بين الدول.

بل كانت تتم أكثر من نصف التجارة العالمية بعملات أخرى مثل “اليورو” و”اليوان” اللذين كان لهما دور تنافسي متصاعد في التجارة العالمية أمام الدولار الأمريكي، وعززت الحرب الروسية الأوكرانية بجانب العقوبات المشددة التي فُرضت على روسيا من هذا التوجه الذي يقوم على التخلي عن الدولار في صالح عملات أخرى، وبدأ هذا التوجه بإعلان روسيا في قمة “البريكس” المنعقدة العام الماضي بنية الاتحاد تطوير عملة احتياطي دولية جديدة لتكون بديلًا عن الدولار الأمريكي، وما جاء مؤخرًا بإعلان الصين والبرازيل عن تخليهما عن الدولار الأمريكي في التبادل التجاري فيما بينهما.

الإعلان عن بديل للدولار الأمريكي

في القمة الرابعة عشرة التي أُقيمت في يونيو 2022 لدول “البريكس” أعلنت روسيا عن رغبة الاتحاد في تطوير عملة احتياطي دولية جديدة لتكون بديلًا للدولار الأمريكي، ويتكون اتحاد دول “البريكس” من روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، وأظهرت عدة دول رغبتها في استخدام عملات أخرى بخلاف الدولار الأمريكي، إذ أعلنت البرازيل والأرجنتين عن سعيهما لاستخدام عملة مشتركة فيما بينهما، وذلك لتعزيز التجارة الإقليمية، وتقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي، وتمهيدًا لتوسعة العمل به بين دول أخرى في أمريكا اللاتينية، في تحرك يوضح عدم اقتصار أنشطة الاتحاد على تعزيز فرص الاستثمار وتجاوزه لأبعد من الهدف الذي تشكل الاتحاد بسببه وهو التخلي عن الدولار الأمريكي.

كما اتخذت روسيا وإيران نفس التوجه، إذ تعمل الدولتان على تطوير عملة مشفرة مدعومة بالذهب، وبالتالي مستقرة نسبيًا ليتم استخدامها في التسويات بين الشركات الروسية والإيرانية، وستحل محل الدولار الأمريكي في مدفوعات التجارة الخارجية، مما سيعمل على زيادة حجم التجارة بين البلدين إلى 10 مليارات دولار أمريكي أو أكثر سنويًا.

وفي ظل سعي الهند والصين لتسوية مدفوعات التجارة بالعملات المحلية، تجري الهند مناقشات مع الإمارات العربية التي تعد الهند ثاني أكبر شريك تجاري لها حول تعزيز التجارة غير النفطية بين البلدين باستخدام الروبل، وتقوم الهند بتسوية معظم مشترياتها من النفط من روسيا بعملات غير الدولار، كما صرحت المملكة العربية السعودية -التي تعد أكبر مصدر للنفط في العالم وأكبر اقتصاد عربي- في القمة الخليجية التي حضرتها الصين عن انفتاحها على فكرة التجارة بعملات أخرى بخلاف الدولار الأمريكي.

ومؤخرًا، أعلنت الصين والبرازيل عن إبرامهما صفقة تسمح بإجراء معاملاتهما التجارية والمالية مباشرة باستخدام عملتيهما بدلًا من الدولار الأمريكي، وتعد الصين أكبر شريك تجاري للبرازيل، حيث وصلت التجارة الثنائية إلى 150.5 مليار دولار في عام 2022، وعقدت الصين صفقات عملات مماثلة مع روسيا وباكستان وعدة دول أخرى، ولم يكن هذا التحرك الصيني هو الأول من نوعه، ففي السنوات الأخيرة سعت الصين إلى تقييم عقود النفط الخام الآجلة باليوان الصيني، وكانت تستعد لدفع ثمن الخام المستورد بعملتها الخاصة بدلًا من الدولار الأمريكي.

حصة العملة الأمريكية في التجارة الدولية والاحتياطي الأجنبي

على الرغم من تحركات بعض الدول المتضررة من ارتفاع قيمة الدولار الأمريكي أمام عملاتها المحلية إلا أن الدولار الأمريكي يظل بمثابة العملة الاحتياطية المهيمنة للبنوك المركزية في جميع أنحاء العالم. أما عن حصة الدولار في صادرات الدول فبحسب البنك الدولي فإنه بلغت مساهمة الدولار في الصادرات العالمية حوالي 40%، وهو ما ساهم في زيادة الضغوط وبشكل خاص على الدول النامية والناشئة بسبب زيادة اعتمادها على الواردات وارتفاع نصيبها من الواردات المدفوعة بالدولار الأمريكي مقارنة بالاقتصادات المتقدمة، وهو ما أدى إلى ضعف عملاتها أمام الدولار وارتفاع معدلات التضخم.

وبالرغم من أن الدولار الأمريكي ما زال يهيمن على احتياطيات النقد الأجنبي لدى البنوك المركزية العالمية، لكن هذه الريادة تتراجع. فبحسب البنك الدولي فقد تراجع إجمالي الاحتياطيات الأجنبية التي تحتفظ بها اقتصادات الأسواق الصاعدة والبلدان النامية بأكثر من 6% في الأشهر السبعة الأولى من هذا العام، ويمكن متابعة احتياطيات النقد الأجنبي العالمية من خلال الشكل التالي:

يوضح الشكل السابق مساهمة الدولار الأمريكي بحوالي 60% من مدخرات البنوك المركزية العالمية في عام 2022، وشكل اليورو حوالي 20%، والين الياباني نحو 5% فقط، وخلال العام الماضي سعت البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم للاستثمار في الذهب بأكثر مما استثمرته منذ عام 1987 في محاولة منها للتحوط من تعرض عملاتها المحلية للانهيار مقابل العملة الأمريكية لتعد تلك هي المرة الأولى منذ عقود التي يشهد فيها الدولار الأمريكي منافسة جادة.

كما أن ما يقرب من نصف جميع القروض عبر الحدود وسندات الدين الدولية مقومة بالدولار الأمريكي، وارتبط هذا الوضع العالمي للدولار في المقام الأول بقوة الاقتصاد الأمريكي والتأثير الهائل لأسواقها المالية، مع التغيرات في قيمته، وبالتالي كانت لها آثار على الاقتصاد العالمي.

دوافع الدول للتخلي عن الدولار الأمريكي

ساهمت العقوبات المفروضة على روسيا والتي تعد أكبر مصدر للطاقة في العالم لإيجاد نظام دفع دولي خارج نظام سويفت الذي يهيمن عليه الدولار، وأدت العلاقات المحتدة بين الولايات المتحدة والصين إلى سعي روسيا والصين وحلفائهما لاتخاذ سياسات داعمة لاقتصاداتها، ومنها الهروب من سيطرة الدولار الأمريكي، واستخدام أنظمة مختلفة للتعاملات فيما بينهما، وأيدت روسيا بشدة استخدام اليوان الصيني للتسويات بين روسيا ودول آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وتسبب صعود الدولار الأمريكي عام 2022 إلى صنع الفارق المتزايد في أسعار الفائدة بين معدل الأموال الفيدرالية، الذي حدده الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي والبنوك المركزية الكبرى الأخرى على مستوى العالم لمواجهة التضخم المتصاعد، وأدى هذا الفرق في أسعار الفائدة إلى زيادة العوائد على الديون الأمريكية التي اجتذبت الاستثمار، وبالتالي عززت الدولار.

وعلى الرغم من أنه من المرجح أن ينخفض الدولار أكثر في عام 2023، فمن المتوقع أن يظل تقلب سعر الصرف مرتفعًا، ويرجع ذلك بشكل خاص إلى عدم اليقين بشأن الاقتصاد الكلي مع استمرار مخاطر الركود العالمي، فضلًا عن استمرار التضخم في الولايات المتحدة بسبب النقص الكبير في سوق العمل، مما قد يؤدي إلى ارتفاع أسعار الفائدة لفترة أطول، ومن شأن كلا التطويرين تجديد طلب المستثمرين على الأصول الأمريكية، وبالتالي تعزيز قوة الدولار.

ونتيجة لذلك، ستواجه الشركات والمستهلكون خارج الولايات المتحدة عودة الضغوط المالية المرتبطة بسعر الصرف، وبسبب السياسة النقدية التشديدية التي تبنتها الولايات المتحدة الامريكية وتقلب الاقتصاد الأمريكي وعدم التيقن من استقرار الأوضاع الاقتصادية من جانب، ومعاناة الدول بسبب انخفاض عملاتها أمام الدولار إلى محاولات الدول لإيجاد بديل لدفع فواتيرها بعملة بخلاف الدولار، وبجانب ذلك تتمثل دوافع الدول في التخلي عن الدولار الأمريكي كوسيط في المعاملات التجارية في خفض التكاليف وتشجيع المزيد من التجارة الثنائية وتسهيل الاستثمار.

وبالرغم من تراجع الاحتياطي النقدي العالمي من الدولار الأمريكي ومحاولات عدد من الدول للتخلي عن العملة الأمريكية، إلا أنه لا يزال الدولار الأمريكي “القاسم المشترك” المسيطر على المعاملات العالمية، وبشكل خاص في تجارة سلعة هامة كالنفط. كما تُعد الولايات المتحدة مركزًا لبورصات السلع والعقود الآجلة التي يعتمد عليها المستخدمون في جميع أنحاء العالم، وبالتالي للدولار الأمريكي دور متطور في التجارة العالمية وتدفقات رأس المال العالمية.

كما أن الولايات المتحدة لن تسمح بسهولة أن يتم إنهاء هيمنة الدولار الأمريكي على الاقتصاد العالمي، فضلًا عن ذلك فإن خطوة الحد من الاستخدام الدولي للدولار تتطلب تغييرات مؤسسية عميقة في الاقتصاد العالمي، وبالإضافة إلى ذلك فإن الاقتصادات الكبرى في العالم تستفيد من الطلب الأمريكي على سلعها في تعزيز نموها المحلي، ومع ذلك فإن تلك التحركات إذا اقترنت بتقديم الصين وروسيا مزيدًا من المرونة في التعاملات التجارية وأنظمتهما المالية قد تعد دافعًا لانتهاج دول أخرى المسار نفسه بأن يتخلى مزيد من البلدان عن التعامل بالدولار، وتجري معاملاتها التجارية والمالية بعملاتها الخاصة، مما قد يؤدي إلى فقدان الدولار الأمريكي مكانته المتميزة كعملة أساسية في العالم، وهو أمر صعب التحقيق في المستقبل القريب.

أسماء فهمي ـ كاتبة مصرية

اترك تعليقا