تايون : شوكة في الخاصرة الصينية

في الوقت الذي تتجه فيه أنظار العالم نحو أوكرانيا، ويحبس الجميع أنفاسهم خشية اندلاع صراع عسكري بين الولايات المتحدة وروسيا، يخرج السفير الصيني لدى الولايات المتحدة تشين تشانج، وفي لهجة تصعيد غير مسبوقة، مهددًا بأن بلاده «قد تضطر للدخول في صراع عسكري مع الولايات المتحدة في المستقبل بسبب تايوان».

يبدو اسم «تايوان» مألوفًا على الأسماع، باعتبارها إحدى «النمور الآسيوية» الأربعة التي نجحت في تحقيق معجزات اقتصادية أواخر القرن الماضي، ويعلم البعض أن موقعها مجاور تمامًا لـ«جمهورية الصين الشعبية»، لكن القليلين فقط يعلمون أن وراء تلك الجزيرة الصغيرة، والتي تبدو نقطة مهملةً إذا ما قورنت بمساحة الصين الشاسعة، قصة طويلة، وحكاية صراع مع الصين جعل من تايوان صداعًا مستمرًا في أدمغة حكام بكين لا يدرون له علاجًا.

تايوان.. الجار الصغير «جدًا» للصين
تقع جزيرة تايوان شرقي آسيا، بين مضيق تايوان وبحر شرق الصين، وبحر الفلبين، وبحر جنوب الصين، تجاورها جمهورية الصين الشعبية من جهة الغرب، واليابان من الجهة الشمالية الشرقية، والفلبين من الجنوب، وتشكل الجزيرة (المعروفة أيضًا باسم جزيرة فورموزا) نحو 99% من أراضي دولة تايوان إلى جانب بعض الجزر الأخرى الصغيرة، وتعرف تايوان أيضًا بـ«جمهورية الصين»، وهي تختلف عن جمهورية الصين الشعبية، القوة العظمى التي يعرفها الجميع اختصارًا باسم الصين.

تبلغ مساحة تايوان نحو 36 ألف كيلومترًا مربعًا، ويتجاوز عدد سكانها حوالي 23.5 مليون نسمة – وفقًا لإحصاء عام 2018 – ما يجعلها من أكثر مناطق العالم من ناحية الكثافة السكانية (651 شخص/كيلومتر مربع)، وأكثر من 90% من هؤلاء السكان يدينون بالديانة البوذية، أو الفلسفة الطاوية، واللغة الرسمية في البلاد هي اللغة الصينية بلهجة «الماندرين»، بالإضافة إلى لغة «الهاكا»، وبعض اللغات الأخرى المحلية.

وتتوفر البلاد على موارد طبيعية مثل الفحم، والغاز الطبيعي، والحجر الجيري، والرخام، وتعد تايوان واحدة مما يعرف باسم «النمور الآسيوية» الأربعة، وهو مصطلح يشير إلى أربع دول أسيوية (تايوان، سنغافورة، هونج كونج، كوريا الجنوبية) نجحت في تحقيق طفرات اقتصادية ضخمة خلال الفترة بين ستينات وتسعينات القرن الماضي؛ ما دفع بها إلى مصاف الدول المتقدمة، وقد بلغ الناتج المحلي الإجمالي لتايوان عام 2016 نحو 529.58 مليار دولار، كما أن المعدل الحالي للنمو السنوي للناتج المحلي يزيد عن 3%.

ويعتمد الاقتصاد التايواني على إنتاج العديد من السلع، من بينها الإلكترونيات، وتكنولوجيا الإعلام والاتصال، والأرز، والخضروات، والفواكه، والشاي، والزهور، والدواجن، والأسماك، والأسلحة، والسيارات، ومدينة «تايبيه» هي عاصمة البلاد، وبلغ عدد سكانها 2.5 مليون نسمة، أما أكبر مدن البلاد فهي مدينة «تايبيه الجديدة» شمال البلاد، والتي يزيد عدد سكانها عن 3.5 مليون نسمة.

ووفقًا للأرقام السابقة فتايوان ليست سوى جزيرة متناهية الصغر، إذا ما قورنت بمساحة جمهورية الصين الشعبية (تعرف ببر الصين الرئيسي، أو الصين القارية) التي تبلغ مساحتها 9.5 مليون كيلومتر مربع، ويبلغ تعداد سكانها 1.379 مليار نسمة، لكن نظرة على الماضي القريب، وعلى تجاذبات السياسة في المنطقة، ستعطينا فكرة عن الأهمية السياسية والإستراتيجية التي تمثلها تايوان بالنسبة لبكين، التي ظلت تعتبر قضية الإقليم مصدرًا للتوترات التي تؤرق مضاجعها منذ عقود.

من احتلال اليابانيين إلى ملاذ القوميين الهاربين
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر كانت اليابان قد دشنت ثورتها الصناعية، وقطعت شوطًا في نهضتها الاقتصادية، وبدأت عصرًا من التطلعات الإمبريالية، كانت الصين ومقاطعاتها أبرز أهداف تلك المطامع بسبب مساحتها الشاسعة (22% من مجمل مساحة القارة الأسيوية) ومواردها الهائلة. وبسبب الرغبة الصينية في السيطرة على الجزيرة الكورية اندلعت الحرب الصينية-اليابانية الأولى 1894-1895.

تعرضت الصين (التي كانت تحكمها أسرة تشينغ) للهزيمة في تلك الحرب، ودخلت القوات اليابانية إلى الأراضي الصينية؛ ما اضطر الأخيرة إلى توقيع معاهدة «شيمونسيكي» التي تنازلت بموجبها الصين عن السيادة على كوريا، كما منحت اليابان حق السيادة على عدة مناطق من بينها جزيرة تايوان، لتظل الجزيرة تحت الاحتلال الياباني حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945.

في عام 1911 تمكنت مجموعة من الثوار الصينيين من القيام بانتفاضة ناجحة أطاحت حكم سلالة تشينج التي حكمت البلاد لقرون؛ لينتهي الحكم الإمبراطوري للصين، ويصبح «صن يا صت» أول رئيس لجمهورية الصين الوليدة، حكم «صن يا صت» والحزب القومي (الكومينتانج) البلاد حتى توفي عام 1925؛ ليخلفه في زعامة الكومينتانج والبلاد «شيانغ كاي شيك»، الذي قاد حملة ضارية ضد الشيوعيين الذين كان نفوذهم داخل البلاد في ازدياد ملحوظ.

وما بين عامي 1937 و1945 اندلعت الحرب الصينية-اليابانية الثانية، وهي جزء من معارك الحرب العالمية الثانية ضمن النطاق الأسيوي، وكانت الهزيمة من نصيب اليابان في تلك الحرب، وفي عام 1945 انتقلت السيادة على جزيرة تايوان إلى جمهورية الصين بزعامة شيانج كاي شيك، وهي الخطوة التي لاقت اعتراضًا من بعض سكان الجزيرة الذين كانوا يطالبون بالاستقلال.

ولم تدم تلك الحال طويلًا؛ إذ سرعان ما وقعت الصين تحت نير الحرب الأهلية بين «الجيش الأحمر» (الشيوعيين الصينيين بزعامة ماو تسي تونج المدعومين من الاتحاد السوفيتي)، الذين ثاروا على حكم القوميين (الكومينتانج)، الذين تلقوا بدورهم الدعم من الكتلة الغربية، وتمكن الجيش الأحمر الشيوعي في النهاية من حسم الحرب لصالحه، وسيطر على كامل بر الصين الرئيسي.

ولم يعد أمام شيانج كاي شيك سوى الفرار بحكومته إلى تايوان؛ ليعلن من هناك عاصمة مؤقتة لـ«جمهورية الصين»، التي اعتبرت امتدادًا لحكم الكومينتانج منذ 1911، في الوقت الذي أسس فيه الحكام الجدد «جمهورية الصين الشعبية» في الصين القارية، برئاسة ماو تسي تونج، واعتبروها وريثًا شرعيًا لـ«جمهورية الصين»، التي ادعوا انتهاء عهدها إلى غير رجعة.

الصراع على الشرعية.. من يستحق أن يكون الصين؟
بعد تقهقره إلى تايوان استمر شيانج كاي شيك في التأكيد أن حكومته هي (جمهورية الصين)، وأنها السلطة الشرعية الوحيدة في الصين، فيما تصاعدت تهديدات «الجيش الأحمر» بغزو تايوان، وحينها أعلنت الولايات المتحدة بقيادة الرئيس هاري ترومان أن واشنطن لن تصطف في أي نزاع حول مضيق تايوان، ولن تدخل في حال هاجمت «جمهورية الصين الشعبية» الجزيرة.

لكن اندلاع الحرب في شبه الجزيرة الكورية، واصطفاف الشيوعيين الصينيين مع كوريا الشمالية ضد جارتها الجنوبية والحليف الوثيق للولايات المتحدة، دفع بإدارة ترومان إلى تغيير موقفها، فأرسلت قوات من الأسطول الأمريكي لمنع الجيش الأحمر من مهاجمة تايوان.

الجيش الأحمر خلال الحرب الأهلية الصينية

أخذت حدة الصراع بين الجانبين تخمد شيئًا فشيئًا، وأُجهضت محاولات عدة لغزو الجزيرة من جانب «جمهورية الصين الشعبية»، وقد ظلت تايوان تحظى بدعم الولايات المتحدة والكتلة الغربية إبان الحرب الباردة، فكانت هي صاحب مقعد الصين في الأمم المتحدة، وأحد الأعضاء الخمسة الدائمين في مجلس الأمن.

لكن هذا الوضع قد تغير عام 1971 مع رغبة الولايات المتحدة في التقارب مع «جمهورية الصين الشعبية»، فجرى الاعتراف بالأخيرة عضوًا في الأمم المتحدة، وحلت محل تايوان في كل المؤسسات والهيئات الأممية، وفشلت كل محاولات تايوان في العودة إلى الأمم المتحدة، وظلت طلباتها حبيسة الأدراج، كما ألغت الولايات المتحدة الاعتراف بتايوان.

وشقت تايوان طريقها الخاص في السياسة الداخلية، بدأته أولًا على نفس المنوال الاستبدادي لـ«الصين الشعبية»؛ إذ خضعت تايوان بين عامي 1947-1987 لسياسات قمعية قاسية عرفت باسم «الفزع الأبيض»، فظلت الجزيرة تحت الأحكام العرفية لعقود قامت فيها الحكومة بسجن نحو 140 ألف شخص، وأقدمت على إعدام آلاف الأشخاص ممن كانت تشك بولائهم للشيوعية، أو تتهمهم بالعمالة لـ«جمهورية الصين الشعبية».

لكن الغمة زالت عن البلاد بعد رحيل شيانج كاي شيك؛ ليخلفه ابنه شيانج شينج كيو، الذي دشن مرحلة من الإصلاح السياسي في الجزيرة؛ فرفع الحظر عن الأحزاب، وخفف القيود على الصحافة، وسمح بالمظاهرات في الشوارع، فتأسس عام 1986 أول حزب تايواني معارض، وهو «الحزب الديمقراطي التقدمي»، وحين توفي شيانج شينج كيو عام 1988 خلفه لي تينغ هيو، الذي واصل مسيرة الإصلاحات، فأجريت في العام 1996 أول انتخابات رئاسية بالاقتراع المباشر، فاز بها لي تينج هيو بأغلبية بسيطة.

وفي عام 2000 نجح الحزب الديمقراطي التقدمي في الوصول إلى سدة الحكم، بعدما فاز شين شوي بيان بالرئاسة؛ ليطيح بالقوميين (الكومينتانج) من السلطة لأول مرة منذ نصف قرن، لكن الكومينتانج عادوا للفوز في الانتخابات مرة أخرى عام 2008، وقد أسفرت انتخابات عام 2016 عن فوز أول امرأة بمنصب الرئيس في البلاد، بعد نجاح تساي إنج وين زعيمة «الحزب الديمقراطي التقدمي» في الفوز بأغلبية أصوات الناخبين، لتعود بحزبها إلى السلطة مجددًا.

التطور السياسي لتايوان كان قد سبقه تطور ونمو اقتصادي كبير خلال النصف الثاني من القرن العشرين؛ ما دفع الاقتصاديين إلى وصفه بـ«المعجزة التايوانية»؛ إذ كان الاقتصاد التايواني خلال عقد الخمسينات يعتمد بشكل كبير على الزراعة والمساعدات المقدمة من الولايات المتحدة الأمريكية؛ ليتحول لاحقًا إلى اقتصاد قائم على التصنيع.

نجحت تايوان في الاستبدال بصناعاتها التقليدية صناعات تكنولوجية متطورة، وحققت طفرات في مجالات مختلفة مثل التعليم والرعاية الصحية، وصارت عضوًا في منظمة التجارة العالمية، كما صار لها اتفاقيات تجارة حرة مع 75 بلدًا حول العالم.

لا سلم.. لا حرب.. لا اعتراف
وتضغط «جمهورية الصين الشعبية» على المجتمع الدولي لمنع أيٍ من أعضائه من الاعتراف بتايوان، ونتيجة لذلك لا تحظى تايوان باعتراف أغلب دول العالم كدولة مستقلة اتقاءً للغضب الصيني، لكن بدلًا عن ذلك يجري تنسيق العلاقات الثنائية بين تايوان وغيرها من الدول عبر مكاتب دبلوماسية غير رسمية تسمى «مكاتب التمثيل الثقافي والاقتصادي»، وتشارك تايوان في بعض المحافل الدولية التي لا تعترف بها باسم «تايبيه الصينية» ولا يسمح باستخدام علمها الخاص أو عزف نشيدها الوطني.

وعلى المستوى العسكري يحتل الجيش التايواني المرتبة 24 في قائمة أقوى جيوش العالم وفقًا لتصنيف «جلوبال فاير باور»؛ إذ يبلغ عدد جنوده العاملين 257.5 ألف شخص، فضلًا مليون و675 ألفًا في الاحتياط، ويتجاوز عدد طائرات الجيش 800 طائرة، فيما يمتلك نحو ألفي دبابة، وأكثر من 80 قطعة بحرية، ومهام القوات المسلحة التايوانية دفاعية في الأغلب؛ بسبب التهديدات المستمرة بغزو البلاد من طرف «جمهورية الصين الشعبية».

وبرغم العداء المستحكم على المستوى الدعائي والسياسي بين البلدين، شهد الوضع الاقتصادي بين الصين وتايوان انفراجات كبرى؛ فقد بدأ تسيير رحلات جوية بين البلدين عام 2008، كما أسهم تدفق السياح من الصين في تعزيز الاقتصاد التايواني، وسمحت الاتفاقات التجارية لشركات التكنولوجيا التايوانية بتوسيع استثمارات بمليارات الدولارات في الصين، والآن تعد الصين الشريك التجاري الأكبر لتايوان؛ إذ تستقبل نحو 30% من إجمالي صادراتها.

ورغم أن الولايات المتحدة تعترف بمبدأ «الصين الواحدة» (وهو اعتراف دبلوماسي بالموقف الصيني القائل بأنه لا يوجد هناك إلا صين واحدة في العالم، وأن تايوان جزء من الصين؛ ومن ثمّ فإن الولايات المتحدة الأمريكية تربطها علاقات دبلوماسية رسمية مع الصين فقط، وليس مع جزيرة تايوان، التي تعتبر إقليمًا منشقًا عن الصين)، فإن الولايات المتحدة ظلت تحتفظ بعلاقات معلنة، لكن غير رسمية مع تايوان، وتتعهد بالدفاع عن الجزر التايوانية ضد أي غزو صيني محتمل.

ومثّل انتخاب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عام 2016 محفزًا لأزمة الصين-تايوان مجددًا؛ إذ تلقى ترامب فور إعلان فوزه مكالمة هاتفية من الرئيسة التايوانية للتهنئة؛ الأمر الذي أثار انتقادات الصين؛ مما دفع ترامب إلى الخروج وإبداء الامتعاض من مبدأ «الصين الواحدة»، مبديًا رغبة أكبر في توسيع العلاقات مع تايوان، وفي مارس (آذار) 2018 أقرت واشنطن «قانون السفر إلى تايوان»، والذي يسمح للمسؤولين بالسفر إلى الجزيرة رغم مبدأ «الصين الواحدة».

ويمكن اعتبار قضية تايوان «مرآة» للعلاقة بين واشنطن وبكين، وبرغم وجود العديد من نقاط الخلاف المشتعلة بين البلدين، مثل قضية الإيجور، والحرب التجارية، ونزاع بحر الصين الجنوبي، يمكن اعتبار قضية تايوان «أكبر مصدر للصراع بين أمريكا والصين»، بحسب تصريحات المسؤولين الصينيين.

وخلال الأسابيع القليلة الماضية صعدت الصين ضد تايوان، بعد اختراق طائراتها العسكرية للأجواء الدفاعية للجزيرة الصغيرة، وكان آخرها اختراق الحدود بـ39 طائرة دفعة واحدة خلال الأسبوع الأخير من يناير (كانون الثاني) 2022.

#المعهد_العراقي_للحوار
#دبلوماسية_مراكز_التفكير

المصدر ؛ ساسة