رسائل الهجوم الأوكرانى داخل الأراضى الروسية

عامان ونصف مضت على اندلاع الحرب الروسية على أوكرانيا، منذ الهجوم الروسى المباغت صبيحة الرابع والعشرين من فيراير عام 2022، حيث كان هجوماً شاملاً غطى معظم الحدود الشرقية الأوكرانية والمشتملة على شبه جزيرة القرم وبحر آزوف الاستراتيجى. وبين كر وفر لمدة عامين تقريباً، انتهى بضم روسيا للجمهوريات الشرقية الأربعة من أوكرانيا، باستفتاء روسى شبه عسكرى، قبل أن يتحسن الأداء العسكرى الأوكرانى مع دعم حلف الأطلنطى. إلا أن انشغال بعض دول الحلف، وخاصة الولايات المتحدة، بتصاعد أزمة الشرق الأوسط، بعد اندلاع الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة، وما ارتبط بها من تصعيد عسكري على جبهات إقليمية متعددة ضمت إيران والمليشيات الموالية لها في لبنان والعراق واليمن، كل ذلك كان له دور في التراجع العسكري الأوكرانى مجدداً.

لكن على عكس سير الأحداث فى الحرب الروسية-الأوكرانية، وعلى عكس ميزان القوى بين الطرفين المتصارعين، فقد فوجئ العالم بهجوم أوكرانى معاكس داخل الأراضى الروسية لأول مرة، ليس للقيام بضربة خاطفة لإحداث أكبر خسائر ممكنة ثم الانسحاب العاجل، بل لاحتلال مواقع عسكرية داخل إقليم كورسك الروسى الهام، ثم التمدد والتوسع داخل الإقليم بما وصل مرحلياً إلى قرابة 1000 كم مربع (50×18 كم تقريباً) خلال الأيام الخمسة الأولى من الهجوم، مع الاستيلاء على قرابة 30 قرية منذ السادس من أغسطس 2024.

 هنا، لابد من قراءة هذا التطور الإستراتيجى المفاجىء بشكل ثنائى (روسى-أوكرانى) ثم فى إطاره العام  الإقليمى والدولى، فى سياق الأحداث والمواقف المتسارعة، فى محاولة لاستشراف ما تُنبِيء به علوم المستقبل لاستبيان السيناريوهات الأكثر احتمالاً، علماً بأننا نرصد موقفاً تكتيكياً متحركاً قابلاً للتغير ليس على مدار اليوم فقط بل على مدار الساعة أحياناً.

الموقف الميدانى الروسى-الأوكرانى قبل هجوم كورسك

1 – الموقف الميدانى الروسى: بدأت روسيا بهجوم شامل على منتصف أوكرانيا الشرقى من خلال عدة محاور شملت كل إطار الشرق الأوكرانى وحتى العاصمة كييف من خلال الحدود البلاروسية القريبة (كما هو موضح بالخريطة ).

وقد سبق احتلال وضم شبه جزيرة القرم عام 2014. ولم تتمكن القوات الروسية من احتلال ميناء أوديسا الاستراتيجى، فى محاولة فاشلة لإضعاف أوكرانيا جيواستراتيجياً، بتحويلها إلى دولة حبيسة، وكانت قد احتلت مينائى سباستوبول فى القرم وماريربول على بحر آزوف. كما أن روسيا انسحبت من حول كييف وكذلك الحدود الشمالية الشرقية فى سومى وخاركيف مع الاحتفاظ بمعظم المقاطعات الشرقية الأربعة السابق الإشارة إليها. وكانت المرحلة الروسية الأخيرة-قبل هجوم كورسك-هى استكمال بناء نطاق أمن غرب الجمهوريات الأربعة وشرق معظم نهر الدنيبرو، ليفصلها عن باقى الأراضى الأوكرانية.

2 – الموقف الميدانى الأوكرانى: تلقت أوكرانيا ضربة افتتاحية روسية صاروخية عنيفة وشاملة تركزت على الدفاع الجوى الصاروخى والرادارى، وكذلك البنى التحتية الاستراتيجية وخاصة تلك التى تخدم المجهود العسكرى والتجميع القتالى فى مسرح الحرب. وزاد من تأثير الضرية أن التسليح ومسرح الحرب الأوكرانى كانا بمثابة كتاب مفتوح للقوات الروسية صاحبة المصادر التسليحية والتكتيكية.

 وتوقع الكثيرون أن تنتهى الحرب فى غضون أسابيع قليلة نظراً للتفوق العسكرى الروسى الكبير فى العتاد والعدة والكم والكيف، وهو ما لم يحدث نظراً للأداء القتالى الروسى الأقل من المتوقع بعد النجاح فى افتتاحية الحرب، ومع حلول فصل الشتاء والأمطار وحسن استخدام الأرض بواسطة القوات المدافعة الأوكرانية. كما ساعد على ارتفاع مستوى الأداء القتالى الأوكرانى بدء وصول بعض الأسلحة والزخائر الأمريكية ومن العديد من دول حلف الأطلنطى، والتدرج التصاعدى من الأسلحة الخفيفة إلى المتوسطة النوعية من مدفعية الميدان وبعض صواريخ الميدان والدفاع الجوى والعديد من مسيرات الدرونز المتقدمة.

إلا أن الأداء العسكرى الأوكرانى تأثر سلباً بانشغال الولايات المتحدة وحلفائها بأزمة الشرق الأوسط والحرب الإسرائيلية في غزة، التى تطورت إلى تصعيد عسكري بين إسرائيل من جانب وإيران ووكلائها فى المنطقة من جانب آخر، كروافد متعددة للحرب بالوكالة proxy war.

لكن الميزان العسكرى الأوكرانى بدأ فى التحسن مؤخراً بعد وصول أسلحة غربية متطورة كالدبابات الأمريكية والألمانية، ثم بدء وصول طائرات إف 16 (الصقر المقاتل) الأمريكية، إذ وصلت 6 طائرات من أصل 45 طائرة (حوالى 3 أسراب مخفضة) ينتظر أن تصل خلال هذا العام، حيث كان العائق الرئيسى هو استيعاب التقنية الألمانية والأمريكية المتقدمة والمعقدة فى قواعد التدريب فى رومانيا والدانمارك، بالإضافة إلى عائق اللغة من الأوكرانية إلى الإنجليزية، وقد أدى كل ذلك إلى تفكير القيادة الأوكرانية فى شن هجوم مضاد ومفاجيء داخل الأراضي الروسية، وهو ما تم ويتم داخل مقاطعة كورسك.

أهداف الهجوم المباغت

لا يزال الهدف من الهجوم غير واضح بشكل تام ومحدد، ولكنه يحتوى على جوهر وفرعيات. ينصرف الجوهر إلى لسان حال القيادة الأوكرانية بأنها لا تزال قادرة على العمل الهجومي التعرضى داخل عمق الأراضى الروسية بقوة قتالية كبيرة-نسبياً- Task force والبقاء بها لأطول فترة ممكنة مع إمكانية صد القوات الروسية التى ستقوم بهجمات مضادة وتكبيدها أكبر خسائر ممكنة، والاستيلاء على وتهديد الأهداف الاستراتيجية الروسية مثل محطة غاز سودجا (530 كم جنوب غرب موسكو) التى كانت تمد أوروبا بـ45% من الغاز عبر أوكرانيا، وكذلك محطة كورسك النووية القريبة (60 كم فقط غرب مدينة كورسك)، وذلك باعتبار أن أوكرانيا تملك الآن حجماً مناسباً من الأسلحة الهجومية الأمريكية والغربية المتطورة القادرة على إحداث الفارق ولو فى مكان أو أماكن روسية محددة ضعيفة الدفاعات ولفترات محددة.

أما الأهداف الفرعية، فتشمل توجيه رسالة إلى الولايات المتحدة وقيادة حلف الأطلنطى، مفادها أن أوكرانيا أصبحت أكثر قدرة وتأثيراً قتالياً واستراتيجياً بعد تلقى الأسلحة النوعية الهجومية من الحلف، إلى جانب رسالة أخرى إلى روسيا مفادها أن أوكرانيا قادرة على العمل بالمثل واختراق حدودها، وربما تكون أوكرانيا أكثر تفاؤلاً بالقول بأنها تسعى للتفاوض المستقبلى لتبادل الأراضى المحتلة مع روسيا، ولو من حيث المعنى لا الجوهر. وبلا شك، فإن الهجوم الأوكرانى أحدث تشتتاً وارتباكاً داخل الجبهة الروسية التى نعتته بأنه “عمل إرهابى أوكرانى” لتخفيف وطأته (كما هو موضح بالخريطة)

التوصيف التكتيكى للهجوم الأوكرانى

ربما يكون التوصيف الأوّلى للهجوم الأوكراني هو أنه هجوم مضاد (معاكس). ولكن توصيف الهجوم المضاد الكامل والعام يتم فى مواجهة هجوم معادٍ كبير بقوات صديقة كبيرة ويسبقه تمهيد نيرانى جوى ومدفعى وصاروخى، بهدف إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه أو تحويلها لصالح الجانب القائم بالهجوم المضاد.

ولكن فى موقف الهجوم الأوكرانى الحالى فى كورسك، يمكن تصنيفه بأنه هجوم مضاد محدود تم فى منطقة دفاعات روسية ضعيفة ضد (فوج حراسات) دون تمهيد نيرانى لتحقيق المفاجأة للقوات الروسية، حيث بدء الهجوم في الساعة الخامسة والنصف صباح  السادس من أغسطس 2024. كما يمكن اعتباره عملية خاصة مستقلة ذات أهداف محددة سبق ذكرها.

كما قد يصنف الهجوم على أنه عملية استطلاع بالقوة، لاكتشاف مدى قوة الاحتياطى (التكتيكى/العملياتى) الروسى واتجاهات عمله ضد الجبهة الأوكرانية الممتدة لقرابة 1200 كم حتى القرم، مما يكشف حجم الاحتياطي الروسى وكثافة قواته، خاصة عند محاولة التمدد إلى أهداف استراتيجية أوكرانية أخرى كما يتم فى محيط مدينة خاركيف الهامة.

كما يمكن تصنيفه بأنه إغارة قوية انطلقت من قاعدة أوكرانية بعيدة من مدينة سومى الاستراتيجية شرق كييف، والقريبة من كورسك، ضد أهداف روسية استراتيجية أو دعائية معنوية فى العمق، يستتبعها ارتداد إلى داخل العمق الدفاعى الأوكرانى (وهو مالم يتم) ولكن ربما يتم لاحقاً خلال بضعة أيام فى الإطار السابق ذكره.

حجم القوات الأوكرانية والروسية فى كورسك

نظراً لسيولة الموقف المبدئى فى كورسك، وعدم وجود مصادر معلومات دقيقة للحصر، فلا توجد بيانات وأرقام محددة ودقيقة عن حجم ونوع قوات الطرفين فى كورسك ومحيطها، ولكن يمكن وضع بعض المحددات الاستراتيجية التى يمكن أن يُسترشَد بها لتقدير الحجم العام لقوات كلا الطرفين اللذين يحاول كل منهما إخفائه عن الآخر.

فكلا الطرفين يقلل من تقدير حجم قوات خصمه بينما يزيد من حجم تقدير خسائرها، وهو ما يقوم به الطرف الآخر. إذ أن الجانب الأوكرانى ليس لديه احتياطي استراتيجى كبير يمكنه من دفع قوة كبيرة إلى كورسك ويكون قادراً على تطوير هجومها من جهة، وصد الهجوم المضاد الروسى عليها من جهة أخرى، خاصة مع اتساع جبهة الدفاع الأوكراني حول خاركيف القريبة من قاعدة انطلاق الهحوم الأوكرانى في كورسك.

أما روسيا فتحارب على مواجهة وعمق كبيرين أثر على احتياطيها الاستراتيجى، وكثافة دفاعات الأجناب التى انكشفت بسهولة أمام هجوم كورسك من قوات التأمين ذات الكفاءة القتالية المحدودة، وكذلك استمرارها فى توسيع جبهة خاركيف الهامة، ومحاولة استكمال نطاق الأمن الذى يفصل بين جمهوريات إقليم الدونباس وبين القوات الأوكرانية عبر نهر الدنيبرو.

دور واشنطن وحلف الأطلنطى الظاهر والمستتر

لم تكن أوكرانيا لتستطيع أن تقوم بمفردها بهذا الهجوم المباغت دون تخطيط وتنسيق مع حلف الأطلنطى وخاصة مع الولايات المتحدة وأجهزتها الاستخبارية، وربما كان ذلك هو منبع الفكرة من أساسها، بالإضافة إلى اختبار تجميع قتالى أوكرانى محدود ولكنه نوعى ويحتوى على أهم الأسلحة الغربية المتطورة من دبابات وصواريخ ميدان وأخرى مضادة للطائرات والدبابات ومسيرات متنوعة وأسلحة إلكترونية سيبرانية للتخفى والخداع عن وقت ومكان ومحور تقدم القوات الأوكرانية، وذلك فى مواجهة الأسلحة والترسانة الروسية.

إن هذا الهجوم وإن كان محدد المدة سلفاً، إلا أنه كان مفاجئاً بهدف تكبيد روسيا أكبر قدر من الخسائر، بما بتماشى مع التوجه الأمريكى الذى يهدف إلى “إضعاف روسيا”، وهو ما عبر عنه بوضوح وزير الدفاع الأمريكى لويد اوستن فى زيارة سابقة لكييف العاصمة.

وعلى ضوء ذلك، يمكن القول إن الهجوم الأوكرانى المضاد المحدود والمباغت فى كورسك داخل الأراضى الروسية قد تم بمفاجئة كاملة للجانب الروسى (والبلاروسى) العسكرى القتالى والاستخباراتى، ويزيد من تأثيره أنه حدث خارج سياق أعمال القتال الروسية حول خاركيف ومحاولة بناء نطاق أمن روسى عبر نهر الدنيبرو، مما أربك ردود فعل روسيا، التى ستُصر على إنهاء هذا الهجوم بأى ثمن حتى ولو استعانت بحلفائها من جمهوريات روسيا الاتحادية.

بالمقابل، سوف تعمل أوكرانيا-بالتنسيق المستتر والمعلن مع الولايات المتحدة وحلف الناتو-على تحقيق أفضل نتائج وأكبر خسائر عسكرية ممكنة ضد روسيا سواء لتحسين الوضع الميدانى الأوكرانى من جهة، أو لمواصلة استراتيجية إضعاف روسيا من جهة أخرى. ورغم صعوبة استمرار بقاء القوات الأوكرانية داخل روسيا، فسيظل لديها هاجس التفاوض من وضع ميدانى أفضل، رغم توقع سرعة التغير الحاد للموقف مستقبلاً.  

لواء أح د. محمد قشقوش – عضو الهيئة الاستشارية للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية