ما هي عقيدة “الوطن الأزرق” التركية؟

بعد فترةٍ من التقارب -النسبي- التي أُطلق عليها “التطبيع السياسي” بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وحزب العدالة والتنمية من ناحية، والمعارضة التركية مُمثلة في أكبر أحزاب المعارضة “حزب الشعب الجمهوري” بزعامة أوزغور أوزيل من ناحية أخرى، والتي أسفرت عن عدد من الزيارات المُتبادلة بين الجانبين خلال الأشهر القليلة الماضية، عادت التوترات إلى الساحة السياسية التركية على خلفية التصريحات التي أدلى بها نائب حزب “الشعب الجمهوري” عن مدينة اسطنبول، نامق تان، خلال إحدى الجلسات البرلمانية التي انعقدت في نهاية شهر يوليو 2024.

إذ وجه تان انتقادات حادة للسياسية الخارجية التركية، واصفًا عقيدة “الوطن الأزرق” التي تتبناها تركيا بـ “الحكاية الخيالية” التي لحسن الحظ، حسب قوله، تخلت عنها تركيا مع تدهور الأوضاع الاقتصادية في البلاد، الأمر الذي دفع بتوجيه وابل من التهم والانتقادات -من جانب أردوغان وحزبه الحاكم وعدد من أبرز المسئولين والقيادات السابقة في البحرية التركية- إلى تان والمعارضة بشكل عام، مُدافعين في إطار ذلك عن أطروحة “الوطن الأزرق”.

ما هي عقيدة “الوطن الأزرق” التركية؟

خرجت عقيدة “الوطن الأزرق” كاستراتيجية دفاعية عن حقوق تركيا البحرية، من رحم المؤسسة البحرية التركية عام 2006، لتؤكد على حق تركيا في المطالبة بالمنطقة الاقتصادية الخالصة لها في المتوسط، وعلى ضرورة فرض سيطرتها العسكرية في البحرين المتوسط والأسود، وبحر إيجه، وكذلك مناطق النفوذ السابقة للدولة العثمانية، باعتبار عقيدة “الوطن الأزرق” نهجًا عسكريًا شاملاً يضمن الحفاظ على حقوق ومصالح تركيا، من خلال إقامة منشآت عسكرية ونشر قوات عسكرية برية وبحرية، لتعزيز وتنشيط النفوذ التركي في العديد من الدول والأقاليم حول العالم.

وقد جاءت هذه الأطروحة ردًا على نشر “خريطة إشبيلية” عام 2000 التي رسمت حدود دول الاتحاد الأوروبي شرق المتوسط، بناءً على طلب الاتحاد، وبالاستناد إلى وجهة نظر كل من اليونان وقبرص، لعزل تركيا في خليج أنطاليا. فوفقًا لخريطة إشبيلية يبدأ الجرف القاري لحدود اليونان من جزيرة  “ميس” ويمتد جنوبًا حتى منتصف البحر المتوسط، وهو الترسيم الذي رفضته تركيا لأن مساحة جزيرة “ميس” تبلغ 10 كيلومترات مربعة، ولا تبعد سوى كيلومترين فقط عن حدودها البرية، فيما تبعد عن حدود اليونان البرية حوالي 580 كيلومترًا.

وعلى الرغم من تراجع توظيف واستخدام أطروحة “الوطن الأزرق” من جانب القيادة والنخب السياسية في تركيا، نتيجة تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية في الداخل التركي، الذي يعتبره الكثيرون حصاد السياسة الخارجية التركية التوسعية في العديد من دول الصراعات والأزمات في المنطقة مثل سوريا وليبيا والصومال وغيرها، إلا أن الدفاع عنها يظل مسألة محورية بالنسبة لأردوغان وحزبه الحاكم، لا سيما في ضوء بعض التوترات التي تشهدها -مؤخرًا- العلاقات التركية – اليونانية حول مناطق النفوذ في البحر المتوسط، وذلك بعد فترة من التهدئة -النسبية- بين الجانبين.

فتزامنًا مع زيارة أردوغان يوم 20 يوليو 2024 لحضور احتفالات الذكرى الخمسين لعملية السلام العسكرية التركية في شمال قبرص (قبرص التركية)، وإقامة معرض الصناعات الدفاعية الذي كان بمثابة عرض للمقدرات العسكرية التركية -ما أثار التوترات لدى الجانب اليوناني- وصف وزير الدفاع اليوناني، نيكوس ديندياس، التواجد التركي في الجزيرة بـ”الاحتلال”، كما صرح رئيس الوزراء اليوناني، كيرياكوس ميتسوتاكيس، أن هدف اليونان الوحيد هو إقامة دولة قبرص موحدة، دون جيوش احتلال أو ضامنين. وفي المقابل، أكد أردوغان على استعداد بلاده لإقامة قاعدة عسكرية ومنشآت بحرية في شمال قبرص، في حال صحت أنباء إنشاء اليونان قاعدة بحرية لها في الجزء الجنوبي من الجزيرة.

دوافع التصعيد ضد المعارضة

رغم أن عقيدة “الوطن الأزرق” وضعت في الأساس لخدمة وتعزيز مصالح وحقوق تركيا في ضوء سياستها الخارجية تجاه مناطق نفوذها البحرية والبرية المُتصورة، إلا أنه لا يمكن إنكار حرص إدارة أردوغان وحزبه الحاكم على توظيف تلك الأطروحة -أيضًا- داخليًا في مواجهة المعارضة، وذلك ما يمكن استعراضه على النحو التالي:

1- التشكيك في أجندة المعارضة لإضعاف قاعدتها الشعبية: بعد أن لاقت تصريحات نامق تان، حماسًا كبيرًا في الصحافتين اليونانية والقبرصية، لم تكتف مؤسسة الرئاسة التركية بالتأكيد على أهمية عقيدة “الوطن الأزرق” بالنسبة لتركيا على مستوى سياستها الخارجية، بل تم استغلال تلك الأزمة للتشكيك في أجندة حزب “الشعب الجمهوري” المعارض، وتوجيه التهم إليه بـ”الخيانة لصالح أعداء تركيا”، ودعم أطروحة اليونان وقبرص اليونانية ضد السياسة الوطنية التركية ومصالح القبارصة الأتراك، وذلك باعتبار أن تصريحات النائب البرلماني المعارض فسرت على أنها دعوة لقبول “خريطة إشبيلية” التي فرضها الاتحاد الأوروبي على تركيا، وبالتالي التخلي عن حقوق تركيا البحرية التجارية والاقتصادية في شرق البحر المتوسط وبحر إيجه. ولعل أبرز ردود الفعل جاءت على لسان أردوغان الذي اتهم المعارضة بـ”الغمز” لأعداء تركيا، واستخدام السلطة التي منحها إياهم الشعب لتقديم الدعم اللوجستي لخصوم تركيا من خلال المنصة البرلمانية.

ولا يُجسد هذا التصعيد الحاد ضد المعارضة قناعة حقيقية من جانب أردوغان بتلك التهم، بقدر ما يُجسد التوظيف السياسي للأزمة على المستوى الداخلي لإضعاف قاعدة حزب “الشعب الجمهوري” الشعبية سواء في الداخل التركي أو في قبرص الشمالية. وما يُبرهن على ذلك أن تلك التُهم جاءت بعد إشادة أردوغان بحضور زعيم الحزب، أوزغور أوزيل، احتفالات الذكرى الخمسين، قائلاً: “أثمن صورة الوحدة التي جسدناها بوصفنا حكومة ومعارضة، لقد أظهرت أن قضية قبرص ليست قضيتنا فحسب، بل قضية 85 مليون شخص”.

هذا، فضلاً عن ذهاب 53.5% من أصوات الناخبين الأتراك الذين كان لهم حق التصويت في قبرص التركية إلى مرشح المعارضة والزعيم السابق لحزب “الشعب الجمهوري” كمال كيليجدار أوغلو، في الانتخابات الرئاسية الأخيرة 2023، مقابل 39.4% من الأصوات لأردوغان، ما يدل على وجود قطاع كبير من الأتراك في قبرص الشمالية الداعمين لتيار المعارضة التركي.

وتأتي مساعي أردوغان وحزب “العدالة والتنمية” للتشكيك في أجندة حزب “الشعب الجمهوري” أيضًا على خلفية تفوق الأخير في الانتخابات المحلية التي أجريت في 31 مارس 2024، مع استمرار تراجع شعبية الحزب الحاكم لصالح حزب “الشعب الجمهوري” خلال استطلاعات الرأي الأخيرة في شهر يوليو 2024، واتساع الفارق بين الحزبين عن شهر يونيو 2024، وفقًا لشركة “متروبول”. فحسب نتائج الاستطلاعات سيحصل حزب “الشعب الجمهوري” على 33.8 % من الأصوات، بينما سيحصل حزب “العدالة والتنمية” على 26.1 % إذا توجهت البلاد إلى انتخابات مُبكرة.

2- الدفاع عن سياسة تركيا التوسعية: جاءت تصريحات نامق تان بشأن عقيدة “الوطن الأزرق” في ضوء رفض المعارضة التركية للمرسوم الرئاسي الذي تقدم به أردوغان إلى البرلمان التركي، لطلب نشر قوات عسكرية تركية في الصومال تشمل مياهها الإقليمية، لمدة عامين، وذلك بالتزامن مع توقيع اتفاقية التنقيب عن الهيدروكربونات وإنتاجه بين البلدين، وصدور قرار بإرسال سفينة المسح الزلزالي “أوروتش رئيس” التركية في سبتمبر 2024، لبدء عمليات التنقيب عن النفط والغاز في 3 مناطق قبالة سواحل الصومال.

فعلى الرغم من تصديق البرلمان التركي على المرسوم في 26 يوليو 2024، إلا أن المعارضة التركية قد صوتت ضده، على خلفية الخلاف التقليدي بين الحكومة التركية والمعارضة بشأن اعتماد الخيار العسكري بديلاً دائمًا للسبل الدبلوماسية، وباعتبار هذه الخطوة تجاهلاً للخبرات التاريخية التي كبّدت تركيا الكثير من الخسائر الاقتصادية إثر تدخلها العسكري في العديد من مناطق الأزمات، لا سيما في ظل تنامي التنافس الإقليمي والدولي الحاد على النفوذ في منطقة البحر الأحمر وخليج عدن.

لكن على الجانب الآخر، ترى مؤسسة الرئاسة التركية في هذه الخطوة دعمًا لطموحاتها المُتزايدة في منطقة القرن الأفريقي، وفرصة لرسم خريطة تحالفاتها العسكرية، بما يضمن حماية مصالحها الاقتصادية من التهديدات الأمنية المُنتشرة في المنطقة، خاصة أن هذه الخطوة تأتي في إطار الاتفاقية الإطارية للتعاون الدفاعي والاقتصادي بين تركيا والصومال، التي تم توقيعها في 8 فبراير 2024، والتي بموجبها تتولى تركيا حماية ما يقرب من 3 آلاف كيلومتر من ساحل الصومال، المُمتد من كينيا إلى جيبوتي، بواسطة جنودها وسفنها الحربية، لمدة 10 سنوات، بهدف تعزيز التعاون والتنسيق بين الجانبين في مجالات الأمن البحري، والتدريب العسكري، والتعاون الاقتصادي، ما يمنح تركيا حق استغلال جزء كبير من ثروات الساحل الصومالي، ويُعزز من نفوذها في منطقة القرن الأفريقي.

3- تأكيد أطروحة “الوطن الأزرق” كجزء من الأمن القومي التركي في مواجهة الغرب: نظرًا لأهمية جزيرة قبرص الجيوستراتيجية كثالث أكبر جزر البحر المتوسط، وباعتبارها حلقة وصل بين الثلاث قارات: أوروبا، وآسيا، وأفريقيا، وتمتعها باحتياطيات هائلة من الغاز، يمكن القول إن قبرص الشمالية التي تقع ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة التي تُطالب بها تركيا في المتوسط، هي في قلب نظرية الأمن القومي التركي، وبالتالي تظل مسألة الدفاع عن سيادتها قضية محورية في تركيا، خاصة بالنسبة للتيار اليميني القومي المتطرف، المُتمثل في حزب الحركة القومية، الذي يسعى أردوغان دائمًا للحفاظ على دعمه وتأييده في مواجهة أحزاب المعارضة.

وبناءً على ما سبق، يمكن قراءة تشديد أردوغان وحزبه الحاكم على محورية أطروحة “الوطن الأزرق” في السياسة الخارجية التركية، وعلى حقوق القبارصة الأتراك، في ضوء مساعي تأكيد مؤسسة الرئاسة التركية -سواء بالنسبة للداخل التركي أو للغرب- عدم تنازلها عن جزء لا يتجزأ من أمنها القومي، لا سيما في ظل رهن موافقة الكونجرس الأمريكي على إتمام بيع مقاتلات “إف-16” لتركيا، بتهدئة التوترات في المتوسط وعدم استخدام تلك المقاتلات في أي نشاط عسكري ضد اليونان وقبرص الجنوبية.

هذا، في الوقت الذي تشتري فيه اليونان 20 طائرة مقاتلة أمريكية من الجيل الخامس من طراز “إف-35″، مع إمكانية الحصول على 20 طائرة إضافية، ما يعني إمكانية استحواذ اليونان على 40 مقاتلة أمريكية من طراز “إف-35″، التي يتم حظرها عن تركيا، الأمر الذي من شأنه أن يزيد الفجوة في قدرات القوات الجوية بين تركيا واليونان، ويُنذر بتعزيز قدرة الأخيرة على تهديد الوجود التركي في قبرص الشمالية، وكذلك المصالح التركية الاقتصادية في منطقة المتوسط.

ختامًا، يمكن القول إن أزمة تصريحات عقيدة “الوطن الأزرق” قد كشفت عن مدى هشاشة ما يتم تسميته بـ”التطبيع السياسي” بين أردوغان وحزبه الحاكم من جانب، والمعارضة من جانب أخرى، لا سيما في ظل استمرار خضوع التقارب بين الجانبين للعديد من التحديات والتوترات الناتجة عن التعارض والتنافس في العديد من الملفات الداخلية والخارجية.

آمنة فايد – باحثة مشاركة – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية