المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

صربيا في قلب الصراع الدولي بين الشرق والغرب

تشهد منطقة غرب البلقان حالة من التجاذب بين الروس من جهة والأمريكان والاوروبيين من جهة أخرى، وتعد صربيا مركز هذا التجاذب، الذي بدأ بالتصاعد بالتوازي مع تصاعد الأزمة الأوكرانية بين روسيا والناتو.

المتحدثة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، في معرض ردها على تصريح أدلى به الأدميرال الأمريكي في حلف الناتو روبرت بورك في حديث لمجلة “كورير” الصربية خلال زيارته إلى بلغراد: “أود أن أذكّر بورك وجميع زملائه في حلف الناتو بحقيقتين مهمتين. أولاهما أن قدرات صربيا الدفاعية على مدى المائتي عام الماضية تقريبا، اعتمدت إلى حد كبير على مدى سرعة رد فعل روسيا على التهديدات الخارجية لهذا البلد السلافي الجنوبي”. مشيرة إلى ان “كل من هاجم صربيا هم، وبصدفة عجيبة، من أعضاء حلف الناتو”.

وجاء رد زاخاروفا على تصريح الجنرال الأمريكي الذي أكد دعم بلاده وحلف الناتو للسياسة الدفاعية لصربيا. وهو ما يعني ان موسكو وواشنطن تواليان صربيا أهمية في الصراع القائم بينهما في منطقة غرب البلقان.

الصراع بين الروس والناتو ظهر جليا منذ زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في العام 2019، وحينها قال ان موسكو تنظر إلى توسع حلف الناتو على أنه من بقايا حقبة الحرب الباردة، وأنه استراتيجية عسكرية وسياسية غير مستنيرة ومدمرة تقود إلى رسم خطوط تقسيم جديدة داخل القارة الأوروبية وتقوِض الثقة وتزيد من منسوب التوتر في أوروبا.

زيارة بوتين قبل أكثر من عامين للعاصمة الصربية بلغراد كشفت عن الأهمية التي تمثلها صربيا في الصراع الذي بدأ يعود الى الواجهة بين الشرق والغرب، خصوصا غرب البلقان، ما جعل الروس يقلبون أوراقهم القديمة بهدف استعادة نفوذهم في المنطقة كقوة عالمية فاعلة.

ضم روسيا لشبه جزيرة القرم، وأعلانها جزءاً من روسيا عام 2014، يمكن اعتباره بداية للخطوات الروسية التالية لاستعادة حضورها الفاعل في منطقة البلقان التي كانت ضمن حلف وارسو بزعامة الاتحاد السوفيتي المنحل في العام ١٩٩٢، حيث تعد صربيا الحليف التاريخي لروسيا، نظرا لخصوصية العلاقة “السلافية الأرثوذوكسية” ومن هنا فإن أنظار موسكو وواشنطن ستظل مسلطة على بلغراد، كلما تصاعد التوتر بينهما، ومعهما اوروبا الحاضرة في الصراع عبر حلف الناتو. وبالمقابل تحاول بلغراد الاستفادة من الصراع الدولي القائم حاليا، وان كانت أقرب إلى موسكو من واشنطن لاعتبارات تاريخية وأثنية، تمثلت في عدم الانضمام للناتو ومعارضة العقوبات التي فرضت على روسيا، وهو ما صرح به وزير الداخلية الصربي ألكسندر فولين في أكتوبر/تشربن أول الماضي؛ حين قال: “لن تدعم صربيا أبداً العقوبات ضد روسيا أو الهستيريا المعادية لروسيا، ولن نصبح عضواً في الناتو”. مضيفا: “لقد أظهر التاريخ أن كل فوبيا تجاه روسيا هي فوبيا تجاه صربيا أيضاً”.

ترتبط عودة الصراع الدولي إلى منطقة البلقان بعودة روسيا الى الواجهة كقوة عالمية فاعلة، كون هذه المنطقة هي البوابة الغربية لروسيا، وصربيا هي قفل هذه البوابة، والتي لن تتساهل موسكو مع أي محاولة للاقتراب منها.

وبمقابل الاهتمام الروسي بصربيا، تبدي فرنسا وألمانيا اهتماما كبيرا بصربيا، حيث زارها الرئيس الفرنسي ايمانويل مايكرون في العام ٢٠١٩، في محاولة لتذليل العقبات أمام انضمام صربيا للناتو، فيما تبذل ألمانيا جهود كبيرة للحوار بين صربيا والبوسنة، والذي يعد بوابة الانضمام الصربي للناتو.ويأتي هذا الاهتمام الاوروبي في محاولة لتقليص النفوذ الروسي الصيني في صربيا، حيث تعتبرها الصين حلقة مهمة في المشروع الاقتصادي العملاق “طريق الحرير”، وبدأت بالحضور في مشاريع صناعية ومشاريع البنية التحتية الصربية بشكل مكثف منذ العام ٢٠٠٧، وهو ما يثير قلق الاتحاد الاوروبي.

ومع هذا الصراع المحتدم بين القوى الدول الفاعلة، تحاول بلغراد الاستفادة منه بقدر الامكان، خصوصا في المجال الاقتصادي، لكن تصاعد حمى الصراع والتجاذبات غرب البلقان، سيقتضي ان تميل الكفة لصالح أحد المتصارعين، وان كانت الروابط الاثنية والقومية الصربية أقرب للروس، الا ان المنافع الاقتصادية تقتضي ايضا عدم قطع الصلة بالغرب، رغم ما توفره الصين من مزايا في هذا الجانب. لكن ستستطيع بلغراد مسك العصا من الوسط..؟ هذا ما ستجيب عنه السنوات القليلة القادمة.

لـ أنس القباطي

اترك تعليقا