المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

روسيا تلعب بالنار في البلقان

يشهد هذا العام الذكرى الثلاثين على بداية حروب يوغوسلافيا, الصراع الأكثر دموية في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. على الرغم من أن دول البلقان إتجهت نحو الحكم الديمقراطي والاندماج مع الناتو والاتحاد الأوروبي مباشرة عقب الحروب, فإن الإهمال المستمر من جانب الغرب ساهم في تراجع كبير في السنوات الأخيرة. الآن ينتهز الرئيس الروسي فلاديمير بوتين فرصته ويستخدم دول يوغوسلافيا السابقة كميدان للمعركة القادمة كي يُضعف الناتو والاتحاد الأوروبي.

إن جهود بوتين لدفع دول البلقان نحو حافة الهاوية هي جزء من مهمته لإعادة ترسيخ روسيا كوسيط قوى عالمي. ومثل استراتيجية الكرملين في القوقاز, هدف روسيا في البلقان هو زيادة التوترات بحيث تتمكن من ترسيخ مكانتها في دور الوسيط الإقليمي والضامن الأمني الوحيد. إنها تهدف في نفس الوقت إلى إظهار أن لا الناتو, ولا الاتحاد الأوروبي, ولا أعضائهما شركاء موثوقين لأي من دول البلقان. وبينما تواصل موسكو أيضًا التعزيز العسكري بالقرب من الحدود الأوكرانية, تخدم حملة النفوذ في البلقان كمسرح آخر لتحدي الغرب.

بالنسبة إلى الكثيرين في الغرب, استراتيجية بوتين مُحيّرة. يرى هؤلاء المحللون البلقان منطقة راكدة على الصعيد الجيوسياسي؛ إنهم لا يفهمون ما ستكسبه روسيا من التدخل في المنطقة. وكما صاغها مدير مركز كارنيجي موسكو, “البلقان ليست ميدان معركة رئيسي في مواجهة روسيا والغرب.”  

لا ينبغي تجاهل البلقان بهذه السهولة. ترى روسيا المنطقة نقطة ضعف أوروبا: إن نفوذها المتنامي هناك يهدد بالسماح لها بوضع معدات عسكرية استراتيجية بالقرب من قاعدة أمريكية كبرى ويبشر بمنحها إمكانية وصول إلى البحر الأدرياتيكي. إن هدف بوتين الأكبر هو ترجيح كفة ميزان القوة في أوروبا لصالح موسكو, والبلقان جزء من تلك الاستراتيجية. لقد شنت موسكو عمليات معلوماتية لإشعال التوترات العرقية وتشجيع الاحتجاجات, ووطدت صفقات السلاح, وغرست نفسها في البنية التحتية الحيوية للطاقة, واستغلت الروابط الدينية والثقافية القائمة منذ زمن بين الكنيسة الأرثوذكسية الروسية والكنيسة الأرثوذكسية الصربية لصالحها في المنطقة.

ما ساعد جهود روسيا هو رد الفعل الضعيف من الاتحاد الأوروبي. بالرغم من السنوات العديدة والأموال الطائلة التي جرى إنفاقها لإعداد البلقان من أجل الاندماج مع الاتحاد الأوروبي, تعطل هذا الجهد. لم يتوسع الاتحاد الأوروبي منذ استيعابه لكرواتيا في 2013, وبالرغم من وعود العضوية لـ”دول غرب البلقان الست” – ألبانيا, والبوسنة, وكوسوفو, ومونتينيجرو, ومقدونيا الشمالية, وصربيا – تجمدت المحادثات من الناحية العملية. بسبب مجموعة كبيرة من التحديات المتنوعة مثل البريكست, وجائحة كوفيد-19, وصعود جماعات اليمين المتطرف, وأزمة المهاجرين في أوروبا, يبدو التوسع مُعلقًا إلى أجل غير مسمى. هذا الإخفاق جعل البلقان هدفًا واضحًا لبوتين.

خلال أزمة البلقان الأخيرة في التسعينيات, كانت روسيا أضعف من أن تتدخل عسكريًا. كان وجودها مقصورًا على بعثة حفظ سلام بعد حرب كوسوفو في 1999, والتي قررت الانسحاب منها في 2003. لكن لا شك في إنه حينها, اعتبرت الحكومة الروسية توسع الناتو في أوروبا الشرقية تهديدًا كبيرًا للأمن القومي. الآن, في ظل الاقتصاد والجيش الأقوى نسبيًا لروسيا, يرى الكرملين فرصة لدحر تقدم الناتو عن طريق استهداف دول يوغوسلافيا السابقة. كان غرب أوروبا غافلًا عندما اندلعت الحرب آخر مرة في البلقان – والمخاطر مرتفعة بأن يتجاهل المنطقة هذه المرة أيضًا.  

قنبلة البلقان الموقوتة

فضح الفساد المستشري في دول البلقان فجوات استغلتها موسكو لتعزيز أهدافها. بينما تحولت دول يوغوسلافيا السابقة من الاشتراكية إلى اقتصادات السوق الحرة بعد التسعينيات, تأصلت السرقة والخصخصة غير القانونية. يستغل بوتين الفساد لإحداث وقيعة اقتصادية, وعرقية, ودينية في مجتمعات البلقان عن طريق استمالة قادة المنطقة.

تُعد صربيا لاعبًا رئيسيًا في مسعى الكرملين للبلقان. تحتفظ الحكومة والكنيسة بولاء لموسكو تدعمه قرون من الروابط الدينية والثقافية المشتركة – وكذلك أيضًا انعزال صربيا وروسيا عن القوى الغربية المعاصرة. يملك الرئيس الصربي ألكساندر فوتشيتش مصالح استراتيجية مباشرة في تدخل روسيا, طالما أن الفوضى في المنطقة ستسمح له بتصوير نفسه كقوة داعمة للاستقرار قبل حملة إعادة انتخابه في 2022. ومن أجل ضمان أن تسير الانتخابات لصالحهما, تعهدت صربيا وروسيا على العمل معًا لمكافحة الاحتجاجات الجماعية و”الثورات الملونة” الآتية من الغرب.

ترد روسيا الولاء الصربي بدعم سخي للجيش الصربي. منذ 2018, تضاعفت ميزانية الدفاع الصربية, وتتقدم صربيا دول البلقان في الإنفاق الدفاعي. وبالرغم من التهديدات بفرض عقوبات أمريكية على صربيا, أرسلت موسكو منظومة صواريخ إس-400 إلى صربيا في 2019 من أجل تدريب عسكري. صعّد الكرملين الموقف أكثر هذا العام عندما سمح لصربيا بالحصول على منظومات الدفاع الجوي بانتسير إس1إم. تستضيف صربيا أيضًا “مركزًا إنسانيًا” بإدارة روسية, والذي يخدم كمؤسسة لجمع المعلومات الاستخباراتية ويقع بالقرب من معسكر بوند ستيل – قاعدة الناتو الرئيسية في كوسوفو.

هددت موسكو علنًا دول البلقان التي حاولت توطيد علاقاتها الأمنية مع الغرب. لقد حاولت عرقلة استفتاء في 2018 على عضوية الناتو في مقدونيا الشمالية, وأعلن سفيرها أن الدولة “هدفًا مشروعًا” إذا زادت التوترات بين الناتو وروسيا (أصبحت الدولة عضوًا في 2020). وفي مونتينيجرو, دعمت موسكو انقلابًا عسكريًا صريحًا في 2016 قبل محاولتها الناجحة للإنضمام إلى الناتو.

تفهم روسيا جيدًا أن الدين في البلقان كان دائمًا أساسيًا في إثارة الصراعات. في مونتينيجرو, يروّج الكرملين السياسات الموالية لروسيا من خلال الكنيسة الأرثوذكسية الصربية. عن طريق العمل عبر الكنيسة, حشدت روسيا احتجاجات ضخمة العام الماضي واستبدلت الحكومة غير المتعاونة بقيادة موالية لروسيا.

إن القنابل الموقوتة الأشد فتكًا في البلقان هي كوسوفو والبوسنة والهرسك. على الرغم من أن أكثر من 90% من سكان كوسوفو من العرق الألباني, يرى الصرب الدولة موطنًا لأسلافهم والتي تحتوي على أماكن مقدسة بالنسبة إلى الكنيسة الأرثوذكسية الصربية. وتمامًا مثلما اندلعت حرب أهلية نتيجة للتوترات بين الجماعات الدينية والعرقية في بدايات التسعينيات, يستخدم الكرملين الآن الكنيسة الأرثوذكسية لزعزعة استقرار الدولة والمنطقة الأوسع.

أوضحت موسكو أيضًا أن اعتراف الأمم المتحدة الدبلوماسي باستقلال كوسوفو عن صربيا سيكون مستحيلًا بدون موافقة روسيا. يستشهد بوتين كثيرًا بكوسوفو لتبرير ضم روسيا للقرم, مجادلًا بأن اعتراف الدول الغربية بانفصال الدولة عن صربيا خلق سابقة والتي تضيف الشرعية على إعلان الأراضي الأخرى الاستقلال من جانب واحد.

في البوسنة والهرسك, تتعرض اتفاقية دايتون للسلام التي أنهت الحرب في 1995 لأزمة. تظل الدولة مدفوعة بالانقسامات بين المجتمعات البوسنية, والصربية, والكرواتية, واستغلت روسيا هذه الانقسامات لصالحها. في مارس, هددت روسيا بالرد إذا إنضمت البوسنة إلى الناتو. في الوقت نفسه, العضو الصربي في رئاسة البوسنة الثلاثية, ميلوراد دوديك, هدد بأن جمهورية صرب البوسنة, وهي واحدة من الكيانين اللذين يشكلان الدولة, ستنفصل عن البوسنة. بالإضافة إلى جمهورية صوب البوسنة, كان الكرملين يدعم القوميين من الكروات البوسنة للضغط من أجل إقامة كيان آخر داخل البوسنة والهرسك. دق الممثل السامي الدولي في البوسنة, كريستيان شميدت, جرس الإنذار في نوفمبر عندما قال إن “احتمالات وقوع المزيد من الانقسام والصراع حقيقية جدًا.”

وقف بوتين

لقد حان الوقت لكي تستقيظ القوى الغربية للتهديد الذي يفرضه تدخل روسيا في البلقان على مصالحها. هنا, الوقاية خير من العلاج. وهم يملكون خيارات عديدة تحت تصرفهم.

يجب أن يركز الناتو من جديد على المنطقة ويعطي الأولوية لخفض تصعيد التوترات. يجب أن يرسل “فريق الدعم لمواجهة التهديدات الهجينة” إلى البلقان, مثلما فعل في مونتينيجرو في 2019, من أجل مكافحة حملات التضليل الروسية وغيرها من العمليات المعلوماتية. ينبغي على أعضاء الناتو أيضًا تشكيل “ائتلاف من الراغبين” لمواجهة التدخل الروسي في البوسنة, ونشر بعثات حفظ سلام في المناطق الاستراتيجية لمنع المواقع المعرضة للخطر من الخروج عن السيطرة. وقّع الرئيس الأمريكي جو بايدن على أمر تنفيذي لفرض عقوبات على من يهددون استقرار غرب البلقان في شهر يونيو؛ ينبغي أن ينضم الاتحاد الأوروبي إلى تلك الجهود.

لا يمكن التوقع من كل أعضاء الناتو أن يدعموا البلقان, حيث أن المجر وبعض دول الناتو الأوروبية الأخرى يخدمون كوكلاء لروسيا في المنظمة. على الجانب الآخر, يبدو أن المملكة المتحدة تفهم خطورة الأزمة. لقد وعدت بالحفاظ على “الاستقرار في غرب البلقان” وحذرت روسيا من ارتكاب “خطأ استراتيجي” في المنطقة. يجب أن تعمل لندن لكي تحول هذه الكلمات إلى أفعال عن طريق قيادة ائتلاف الراغبين لمكافحة التدخل الروسي في المنطقة.

الأهم من كل ذلك, يجب أن يسرّع الناتو إنضمام البوسنة وكوسوفو إلى الناتو. إن فعل هذا سيرفع التكلفة على الكرملين بسبب عملياته في البلقان. عارضت روسيا بشدة توسع الناتو والآن, في ظل استمرار أزمة أوكرانيا, طالبت بضمان مُلزم قانونًا بأن الناتو سيوقف النشاط العسكري في أوروبا الشرقية. إن دمج البوسنة وكوسوفو سيرسل رسالة بأن دول البلقان لن تُترك لتدافع عن نفسها ضد موسكو وأن بوتين لن يحدد مستقبل الناتو.

وكما كان الحال في بدايات حروب يوغوسلافيا أو في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى, قد يكون من الصعب إقناع العالم بأهمية البلقان. في التسعينيات, فشلت الدول الأوروبية في الرد بسرعة كافية على الأزمة, واضطرت الولايات المتحدة إلى التدخل. إلا أن هذه المرة, انكفت الولايات المتحدة على نفسها ومن المستبعد أن تتدخل. لذلك من المرجح أن يقع العبء على عاتق الاتحاد الأوروبي. لا يوجد شيء غير استقرار أوروبا, والأهمية المتواصلة للاتحاد الأوروبي وتحالف الناتو, على المحك.

ترجمة :  أية سيد

المصدر رؤية – فورين افيرز

اترك تعليقا