التوازن الجديد للقوى.. عصر بوتين.. بين المكاسب والأخطاء

هذا كتاب شديد الأهمية، ويبدو انه «الكتاب المناسب»، فى «الوقت المناسب». صدر عن كاتب جمع بين التحصيل السياسى والمعارف العسكرية من جانب، والعمل كمدير لمركز كارنيجى فى العاصمة الروسية، من جانب آخر، مرورا بالعمل «مترجما» فى العديد من التشكيلات العسكرية فى مختلف المواقع والبلدان، ومنها العربية.

إنه كتاب «التوازن الجديد للقوى» روسيا بحثا عن التوازن فى السياسة الخارجية»، لكاتبه دميترى ترينين، أحد أهم خبراء السياسة الدولية فى تاريخ روسيا المعاصر. هذا الكتاب دعوة لمناقشة واسعة حول أهم قضايا السياسة الخارجية لروسيا. وفى حوالى خمسمائة صفحة من القطع المتوسط، يستعرض ترينين سياسات موسكو الخارجية، إبان سنوات حكم الرئيسين السابقين ميخائيل جورباتشوف وبوريس يلتسين والرئيس الحالى فلاديمير بوتين. من خلال مصطلحات الأمس، التى قامت وتقوم عليها علاقات روسيا مع الدول الأخرى، وفى الصدارة منها «السيادة والمصلحة الوطنية والقانون الدولى وتوازن القوى». وفيه أيضا يقوم الكاتب بتحليل ما صادف الزعماء الثلاثة من نجاحات وإخفاقات. يستعرضها فى أسلوب بالغ التشويق والإثارة، فى محاولة لتلمس السبل اللازمة لبناء استراتيجية سياسة خارجية مستقلة ومتوازنة فى عالم سريع التغير.

هذا الكتاب يتناول توازن القوى فى الساحة العالمية، وهو الأمر الذى يخضع للتغيير المستمر، ومن ثم فإنه يحمل بين طياته بذور عدم الاستقرار. على أنه يتطرق أيضا إلى ضرورة تحقيق التكافؤ، بما يعنى تحقيق التوازن فى سياسات روسيا الخارجية، وضمان استقرار هذه السياسات. ويقول الكاتب فى هذا الصدد «إن التوصل إلى تحقيق سياسة خارجية ناجحة للدولة يتطلب تحقيق التوازن بين مجموعات المصالح، الخاصة منها والعامة، الفيدرالية والإقليمية، إلى جانب الأهداف السياسية للدولة وفرصها الاقتصادية، استراتيجية طويلة المدى، وعمليات متوسطة المدى، وتكتيكات يومية.. إلخ «. لكنه سرعان ما يخلص إلى «أن مثل هذا التوازن فى السياسة الخارجية الروسية لم يتحقق بعد».

قال ترينين، إن وضع روسيا فى الساحة الدولية يتسم بقدر من التناقض. فبعد نجاحها فى استعادة وضعيتها على الصعيدين الداخلى والخارجى كدولة مستقلة، عادت لتجنح نحو الخروج عن حدودها إلى ما وراء الفضاء السوفيتى السابق، وتُقْدِم على المشاركة فى الحرب فى سوريا، ولتعود إلى الشرق الأوسط، فى توقيت مواكب لتعميق وتوسيع علاقاتها مع الصين، وتنشيط تحركاتها فى إفريقيا وأمريكا اللاتينية، إلى جانب نشاطها فى المنطقة الواقعة من القطب الشمالى وحتى شرق البحر المتوسط. ولم يغفل الكاتب ما احتدم من مشاكل على صعيد دولة الاتحاد مع بيلاروس، وما دار ويدور من معارك وصراع فى جنوب شرق أوكرانيا، وفى جنوب القوقاز حول قره باغ، بين أرمينيا وأذربيجان، الأمر الذى أتاح لتركيا فرصة تعزيز وجودها فى المنطقة، على وقع تصاعد الخلافات مع بلدان الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة.

الأجزاء الرئيسية

الكتاب الذى بين أيدينا أورده الكاتب فى ثلاثة أجزاء. تناول فى الأول منه «أسس السياسة الخارجية» من منظور فكرة التوازن، والمفاهيم العامة المستخدمة فى السياسة الخارجية للدولة، وهى الهوية الوطنية فى المجتمع الدولى، والمصالح الوطنية، وأهداف ومبادئ السياسة، وأيديولوجيا الدولة ورسالتها إلى العالم. الخ. وتلك أمور بالغة الأهمية نظرا لموقعها الرئيسى على خريطة المحاولات الرامية إلى وضع المعايير اللازمة لتقييم السياسة الخارجية لروسيا، خلال عدد من حقبها التاريخية. بالإضافة إلى ذلك، وكما قال الكاتب «فإن اليقين فيما يتعلق بأسس السياسة، مسألة ضرورية من أجل وضع مبادئ توجيهية لتحديد الأهداف فى المستقبل، واستراتيجيات لتعزيز وحماية المصالح الوطنية».

أما الجزء الثانى، وهو الذى نتوقف عنده بكثير من التفاصيل، فيتعلق بالتراث او الإرث الذى انتهت إليه روسيا، نتيجة ما ارتكبه الزعيم السوفيتى جورباتشوف من أخطاء ترقى فى بعض جوانبها إلى حد الخطايا، وما شهدته روسيا إبان سنوات حكم الرئيس الروسى الأسبق بوريس يلتسين، من عثرات وتطورات وتنازلات أودت بالدولة إلى شفا الهاوية والانهيار، وهو ما وضعه الرئيس الجديد فلاديمير بوتين فى صدارة ما حاول الحيلولة دون تفاقمه، إلى جانب استعادة وقار الدولة ومكانتها وموقعها الذى تستحق، على خريطة السياسة العالمية.

وفيما يتعلق بالجزء الثالث، فقد أورده الكاتب تحت عنوان «الخريطة التفصيلية للسياسة الخارجية الروسية فى عشرينيات القرن الحادى والعشرين». ويحتوى على تأملات حول الكيفية التى يُنصح بها لبناء سياسة خارجية لروسيا فى المستقبل، بناءً على الخبرات المكتسبة على مدى العقود الماضية ودروسها. كما أنه يثير تساؤلاً حول ما إذا كان يجب أن يكون لروسيا مهمة خاصة فى العالم وأيديولوجية تتوافق مع هذه المهمة. ويركز الكاتب فى هذا الجزء على كل من الركائز الأساسية لدورة السياسة الخارجية ككل واتجاهاتها الرئيسية، الجغرافية فى آسيا، وأوروبا، والشرق الأدنى والشرق الأوسط، وأمريكا، إلخ، والوظيفية بالنسبة للأمن الخارجى، الاقتصاد الجغرافى، بيئة السياسة الخارجية والمناخ، إلخ. وتجدر الإشارة إلى أن الفكرة الرئيسية لما تناوله الكاتب فى هذا الصدد، هى أنه من أجل تنفيذ سياسة خارجية ناجحة فى المستقبل، هناك حاجة إلى التفكير العالمى، واستراتيجية قارية مدروسة جيدًا، وأخيراً، فهم واضح للمصالح الوطنية. وفى هذا الجزء يتوقف الكاتب بالكثير من التفاصيل عند استراتيجية روسيا الكبرى، وسياسات الأمن، والأخطار التى تهدد روسيا والبلدان التى يمكن إدراجها فى خانة حلفاء روسيا.

«التراث» من جورباتشوف إلى بوتين

«الدول متكافئة ومتساوية على الصعيد النظرى فقط. لكن تسوية العلاقات فيما بينها لا تجرى على أساس من الحق والقانون، وإنما استنادا إلى ما تملكه كل منها من قوى وقدرات».

ذلك ما خلص إليه دميترى ترينين فى هذا الكتاب. فتحت عنوان «دروس جورباتشوف»، استهل الكاتب حديثه فى الجزء الثانى من هذا الكتاب، الذى اختار له عنوان «التراث»، بما حققه أبناء الشعب الروسى من مكاسب، وما لحق بهم من خسائر نتيجة ما اتخذه زعماء الاتحاد السوفيتى وروسيا من قرارات، وما ارتكبوه من أخطاء فى تاريخهم المعاصر. ولعله من الغريب أن يخلص الكاتب فى هذا الصدد إلى استنتاج مفاده «أن جورباتشوف يتحمل وعلى الرغم من كل ما جرى فى المجتمع من تحولات وما لحق به من تشوهات، وزر ما اتخذه كل من الرؤساء بوريس يلتسين وفلاديمير بوتين ثم دميترى ميدفيديف، ثم بوتين ثانية من قرارات على صعيد السياسة الدولية». وقال الكاتب، إن مثل هذا الاستنتاج صحيح وعادل على الرغم من كل ما ينال السياسة الخارجية لجورباتشوف من انتقادات حادة على مدى عقود طويلة. ويوضح الكاتب فكرته بقوله، إن المقصود يتعلق بما تحقق من إنجازات على صعيد السياسة الخارجية، وليس بما وقع من أخطاء وما جرى ارتكابه من قصور. ومضى ليقول إن ما قام به جورباتشوف كان «عميق التأثير بعيد المدى». وذلك ما أوضحه بقوله، إن السياسة الخارجية إبان سنوات حكم جورباتشوف تحررت من قيود الأيديولوجية الماركسية اللينينية، أو بقول آخر تخلصت من «معطف الستالينية»، إلى جانب وقف «عسكرة الاقتصاد»، وفتح الحدود والأبواب على مصاريعها أمام تبادل الآراء، وحرية التعبير والكلمة والعقيدة، إلى جانب الإعلان عن انتهاء احتكار الدولة للتجارة الخارجية، وتقنين مبادرات القطاع الخاص. ورغما عن ذلك كله، فإن جورباتشوف يظل فى عيون شعبه أحد أهم المسئولين عما آلت إليه البلاد من انهيار ودمار وعثرات. كما يعتبره ممثلو الأجيال القديمة، مسئولا عما لحق بالصناعة والتعليم والصحة ونظم التأمينات والضمانات الاجتماعية من انهيار ودمار. فضلا عما يتحمله ورفاقه من مسئولية تراجع وضياع مواقع الدولة على خريطة السياسة العالمية، ولاسيما فيما يتعلق بقضايا نزع السلاح وتوحيد الألمانيتين، والخروج من آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وبكثير من التفاصيل راح الكاتب يستعرض ما اصطدمت به السياسة الخارجية السوفيتية من عراقيل، وما وقعت فيه من أخطاء على صعيد أزمات الصواريخ فى القارة الأوروبية، وما تعرضت له المنظومة الشيوعية فى بلدان شرق أوروبا، من أزمات، إلى جانب تورط الاتحاد السوفيتى فى غزو أفغانستان. كما استعرض أخطاء «البيريسترويكا» وما أسفرت عنه الإصلاحات الديمقراطية من انفجار المشكلة القومية فى بلد بمثل ضخامة الإمبراطورية السوفيتية، بما تخضع له من نظم حكم شمولية.

غير أن الكاتب وفى محاولة من جانبه لتبرير ما ارتكبه جورباتشوف من أخطاء، توقف كثيرا فى هذا الجزء من كتابه عند ما سبق وارتكبه أسلاف جورباتشوف من أخطاء، يتعلق الكثير منها بعلاقات القيادات السوفيتية السابقة بحلفائها فى بلدان شرق أوروبا، وما جرى فى هذه البلدان من صراعات وانفجار، على غرار ما شهدته المجر وتشيكوسلوفاكيا وبولندا وألمانيا الديمقراطية، من تحركات وانتفاضات وثورات دفع ثمنها عمليا الشعب السوفيتى. وذلك ما كلف الاقتصاد السوفيتى الكثير من الأعباء، التى زاد من حدتها ووطأتها تورط القوات السوفيتية فى أفغانستان، فى توقيت تصاعدت فيه موجات الحرب الباردة، وتحولت الولايات المتحدة إلى تصعيد وتيرة صناعاتها العسكرية، وهو ما كان فى مقدمات أسباب التفكير فى سياسات «البيريسترويكا والتفكير السياسى الجديد»، التى أعلنها جورباتشوف فى منتصف ثمانينيات القرن الماضى، وما تلا ذلك من التوصل إلى قرارات توقيع اتفاقيات الحد من التسلح مع الرئيس الأمريكى الأسبق رونالد ريجان، وإنهاء الحرب الباردة مع خلفه جورج بوش الأب، حتى الإعلان عن إسقاط «مذهب بريجنيف» (الذى كان يمنح الاتحاد السوفيتى حق التدخل فى الشئون الداخلية لبلدان شرق أوروبا)، وحل حلف وارسو وسحب القوات السوفيتية من بلدان شرق أوروبا.

ولم يكن ذلك كله ليتم دون ارتكاب الأخطاء التى بلغ بعضها حد «الخطايا»، نظرا لعدم التفكير فى العواقب، أو على أقل تقدير محاولة استخلاص المكاسب مقابل ما كان يقدم من تنازلات مثلما حدث مع «الألمانيتين»، و«حل حلف وارسو». وذلك ما كان فى صدارة أسباب ظهور عالم القطب الواحد، وانفراد قوة عالمية واحدة بالقرار الدولى بعيدا عن الشرعية، وخصما من رصيد الأمم المتحدة. ولعله كان صحيحا، ما توقف عنده الكاتب، بشأن أن جورباتشوف لم يكن يستطيع تحقيق ما كان يصبو شعبه إليه، بسبب انصرافه إلى تقديم التنازل تلو الآخر، فى محالة لخطب ود الأوساط والقادة الغربيين، ممن كانوا يغدقون عليه الثناء والمديح، لتغدو قراراته وتصرفاته أكثر مرونة وليونة، لم تكن لتتناسب مع ما كان يجب أن يكون أساسا للتوصل إلى المواقف المنشودة والمرجوة. وفى هذا الصدد خلص الكاتب إلى «أنه لا الشيوعية، ولا الاتحاد السوفييتى سقطا بين أيد غريبة، ولم يكونا ضحية لمؤامرة من جانب الخونة».

ولم تقتصر إدانة الكاتب لسياسات جورباتشوف، عند هذا الحد، حيث تجاوزته إلى تناول قصور السياسة الخارجية السوفيتية، ومنه ما تعلق بعلاقات الاتحاد السوفيتى مع من وصفهم بالديكتاتوريين الأجانب، الذين أشار منهم إلى «صدام حسين فى العراق، وحافظ الأسد فى سوريا، ونيكولاى تشاوشيسكو فى رومانيا، وكيم إيل سونج فى كوريا الشمالية، ومعمر القذافى فى ليبيا»، حسب ما ذكر دميترى ترينين فى الصفحة 143 من كتابه.

ولم يقتصر الكاتب فى انتقاداته لجورباتشوف عند تنازلاته على الصعيد الخارجى، بل وتحول إلى تفنيد كثير من أخطائه على الصعيد الداخلى لدى معالجة كثير من جوانب المشكلة القومية فى عدد من الجمهوريات، التى لجأ فيها إلى استخدام القوة العسكرية، ومنها جورجيا ولاتفيا وليتوانيا وأذربيجان. وذلك فى توقيت كان يحاول فيه الظهور فى رداء رجل السلام الذى أعلن رفضه لاستخدام القوة والتدخل فى الشئون الداخلية لبلدان شرق أوروبا.

تسعينيات يلتسين

تحت هذا العنوان استعرض الكاتب أخطاء الرئيس الروسى الأسبق بوريس يلتسين، إبان سنوات حكمه فى تسعينيات القرن الماضى. قال دميترى ترينين إنه يمكن تقسيم هذه السنوات إلى مرحلتين، الأولى تبدأ اعتبارا من تاريخ توقيعه لاتفاقيات «بيلوفجسكويه بوشا» فى ديسمبر 1991 وحتى نهاية عام 1995، والثانية اعتبارا من هذا التاريخ وحتى 1999. وقال إن المرحلة الأولى ترتبط باسم وزير خارجيته اندريه كوزيريف (الهارب منذ 1997 إلى الولايات المتحدة)، فيما ترتبط الثانية باسم يفجينى بريماكوف الذى قام بتعيينه وزيرا للخارجية فى يناير 1996 ثم رئيسا للحكومة فى 1998. وفى كل من الأسمين الكثير من مؤشرات الحقبتين التاريخيتين.

وقال الكاتب، إنه وعلى النقيض من جورباتشوف ورفاقه ممن فشلوا فى تحويل الاتحاد السوفيتى إلى النموذج الاشتراكى الديمقراطى، نجح بوريس يلتسين ليس فقط فى تدمير النظام الشيوعى، بل والاتحاد السوفيتى أيضا. واستعرض الكاتب ما قام به يلتسين إبان سنوات صراعه مع جورباتشوف من أجل استقلال روسيا وانفصالها عن الاتحاد السوفييتى. ووصف ذلك بأنه كان صراعا سياسيا وأيديولوجيا، من أجل الخروج من عباءة الإمبراطورية السوفيتية.

وتوقف الكاتب طويلا عند تنازلات يلتسين أمام الغرب، وبدايته التى استهلها بقرار تقليص تعداد القوات المسلحة والتعجيل بسحب القوات السوفيتية من ألمانيا. كما استبدل التعاون مع الولايات المتحدة، بالخضوع والتبعية لسياساتها الخارجية. وقال إن المصالح القومية والوطنية اختفت عمليا من قاموس سياسات يلتسين. وتحول يلتسين ورفاقه إلى الاعتماد كلية على من حققوا الانتصار ضد الاتحاد السوفيتى فى الحرب الباردة. ورغما عن ذلك، فقد أدرج الكاتب كل هذه التنازلات ضمن نجاحات نظام يلتسين بوصفها السبيل إلى التهدئة وتطبيع علاقات روسيا مع الغرب. وهو النهج الذى عاد واعترف بأن يفجينى بريماكوف نجح فى تصحيحه سواء من موقعه فى منصب وزير الخارجية أو رئاسة الحكومة الروسية. ومع ذلك فقد أشار الكاتب، إلى عدد من تلك التنازلات ضمن مشاهد إخفاقات يلتسين، ولاسيما لدى استعراض مسيرة التعاون مع حلف الناتو فى منطقة البلقان، إلى جانب سياساته مع عدد من بلدان الاتحاد السوفيتى السابق، ولاسيما أوكرانيا، التى اعترف لها بسيادتها على شبه جزيرة القرم.

كما أدرج الكاتب أيضا ضمن أخطاء تسعينيات يلتسين، تفريط روسيا فى مواقعها وعلاقاتها مع أصدقائها فى إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، فى ظل عدم إدراك النخب السياسية للارتباط الوثيق بين المصالح القومية والوطنية، والسياسة الخارجية.

عصر بوتين

يرى الكاتب فى مقدمة هذا الجزء من الكتاب، أن فترة حكم فلاديمير بوتين التى امتدت لما يزيد عن عشرين عاما، حقبة غير كافية لاستخلاص النتائج النهائية لحكمه، بما فى ذلك فى مجال السياسة الخارجية. وقال إن الأوضاع متحركة والمستقبل لا يمكن التنبؤ به من حيث المبدأ، كما أن التعديلات الدستورية التى جرى إقرارها فى عام 2020، تجعل الأمور غير محددة، على أقل تقدير حتى عام 2036ـ أى حتى نهاية مدتى الولايتين الرئاستين المقبلتين بعد عام 2024 الموعد المحدد لنهاية الولاية الرئاسية الحالية لبوتين.

أما عن حقبة حكم بوتين، فقد استهل الكاتب حديثه عنها بما حدده بوتين لنفسه من هدفين رئيسيين أولهما، الحفاظ على وحدة البلاد وإنقاذها من براثن الحركات الانفصالية التى بدأت فى تسعينيات القرن الماضى، والثانى، ويتعلق باستعادة مواقع ومكانة روسيا كدولة عظمى على خريطة السياسة العالمية. وذلك ما تحقق بنسبة كبيرة خلال السنوات الأولى لحكم الرئيس بوتين. فقد استطاع بوتين القضاء على الإرهاب فى شمال القوقاز، ووقف الحركات الانفصالية فى الشيشان وما جوارها، إلى جانب استعادة موقع القيادة الفيدرالية على رأس الدولة، إلى جانب الحد من هيمنة وسيطرة طبقة الأوليجاركيا، التى كانت اختطفت الدولة وثرواتها بل وقيادتها إبان سنوات حكم الرئيس السابق بوريس يلتسين. وتوقف الكاتب طويلا عند تحول الرئيس بوتين إلى تحسين علاقاته مع الغرب، مشيرا إلى جنوحه نحو توطيد العلاقات الشخصية مع العديد من زعماء الدول الأوروبية، بداية بجورج بوش الابن، ونهاية برؤساء وزعماء الدول الغربية، ومنهم المستشار الألمانى السابق جيرهارد شرويدر، والرئيس الفرنسى السابق جاك شيراك، ورئيس الوزراء البريطانى الأسبق تونى بلير، ورئيس الوزراء الإيطالى الأسبق سيلفيو بيرلسكونى.، ورئيس المفوضية الأوروبية الأسبق رومانو برودى.

ومثلما فعل سلفه يلتسين، أفصح بوتين عن رغبة فى انضمام بلاده إلى الاتحاد الأوروبى، بل وأيضا إلى حلف الناتو. وقام ولأول مرة فى التاريخ، بدعوة الأمين العام للحلف السير جورج روبرتسون، إلى موسكو معلنا استعداد بلاده للانضمام إلى هذا الحلف. وعلى الرغم من عدم تحقق هذا «الحلم»، فإن الجانبين توصلا إلى تشكيل اللجنة المشتركة التى جمعت فيما بينهما، ووضعت أساس شراكة استراتيجية استند إليها تعاونهما فى الفترات اللاحقة، لكن بعيدا عن مشاركة روسيا فى آليات اتخاذ القرار.

لكن ما أن اتخذ الناتو قراره، حول ضم بلدان البلطيق وسلوفاكيا إلى الحلف فى عام 2004، حتى سرت البرودة فى أوصال «الكيان الوليد»، الذى سرعان ما لفظ أنفاسه الأخيرة، بعد اندلاع الثورات الملونة فى العديد من بلدان الفضاء السوفيتى السابق، وفى مقدمتها جورجيا وأوكرانيا وقيرغيزستان. وتحولت العلاقات إلى المزيد من التدهور، بعد مقتل ألكسندر ليتفينينكو ضابط المخابرات الروسى الهارب إلى لندن، وهو ما اتهمت به السلطات البريطانية أجهزة المخابرات الروسية بتدبيره.

وتجنح العلاقات نحو المزيد من التدهور مع انضمام بقية بلدان المعسكر الاشتراكى فى شرق أوروبا إلى الناتو، واندلاع الحرب بين جورجيا وروسيا فى عام 2008. وعلى الرغم من بارقة الأمل فى التحسن التدريجى بعد انتهاء ولاية بوتين الثانية، وتولى خلفه دميترى ميدفيديف فى مطلع ذلك العام، إلا أن الأمور سرعان ما عادت إلى سابق عهدها من التوتر، بعد عودة بوتين إلى سدة الحكم فى الكرملين فى عام 2012. ولم يجد الزعيمان بوتين ونظيره الأمريكى باراك أوباما، تلك «الحميمية» التى ظهرت فى علاقة أوباما مع ميدفيديف، فى توقيت سرعان ما اعقبه اندلاع الازمة الأوكرانية وضم القرم فى عام 2017، وما تلا ذلك من احتدام التوتر مع المعسكر الغربى وبداية حملة العقوبات ضد روسيا. وذلك ما يدرجه الكاتب ضمن ما وصفه بإخفاقات بوتين.

ومن أخطاء بوتين، اختار الكاتب ما وصفها بـ «غياب الاستراتيجية طويلة الأمد وتزايد العمليات السرية والمناورات العملية، ولاسيما ما يتعلق منها بالعمليات الخاصة التى تجنح بالسياسة الخارجية صوب المخاطر». وقال ترينين، إن الخطأ الرئيسى للسياسة الخارجية الروسية، واعتبارا من منتصف التسعينيات، يتلخص فى التركيز على مشكلة توسع الناتو شرقا وما تبع ذلك من مواجهات، ومنها فى جورجيا وأوكرانيا. وعن الإخفاقات قال الكاتب، إن منها ما يتعلق بفشل بوتين فى خلق صفوة حاكمة تتسم مواقفها بحس وطنى حقيقى، فى الوقت التى سقطت فيه حفنة من هؤلاء ليس فقط فى شرك «أهواء الفساد المالى»، بل والعيش فى معزل عن الوطن، وإن كان ذلك على حساب هذا الوطن. كما أشار أيضا إلى تحول بوتين من أهواء التقارب مع الغرب والانضمام إلى الاتحاد الأوروبى، إلى التوجه شرقا صوب التحالفات الأوروآسيوية.

وأضاف، أن بلدان البلطيق وما وراء القوقاز وآسيا الوسطى وقزخستان ومولدوفا، ناهيك عن جورجيا وأوكرانيا، صارت بالنسبة لروسيا أقرب إلى البلدان الأجنبية، وهو ما يدرجه الكاتب فى عداد الإخفاقات السياسية لروسيا خلال السنوات العشرين الماضية. كما أن ضياع الاتصالات السياسية مع قيادات الاتحاد الأوروبى سرعان ما أسفر عن ضياع الثقة بين النخب السياسية فى كل من روسيا وأوروبا، مما خلق المشاكل أمام روسيا، لانتهاج سياسة خارجية متوازنة. ولم يغفل الكاتب الإشارة إلى ظهور تركيا كقوة سياسية مؤثرة فى منطقة جنوب القوقاز، كنتيجة حتمية لدعم أذربيجان فى عملية تحرير أراضيها فى حربها مع ارمينيا.

وخلص دميترى ترينين فى نهاية كتابه، الى القول إن روسيا ولكى تحقق النجاح فى صراعاتها مع الخارج، تبدو مدعوة إلى أن تكون سليمة معافاة قوية، وليس فقط فى مجال التسلح. وذلك يتطلب تغيير الجزء الأعظم من النخب السياسية، وانتهاج سياسات اقتصادية واجتماعية مغايرة.

 د. سامى عمارة