00:00:00
توقيت بغداد
2025ديسمبر15
الاثنين
12 °C
بغداد، 12°
الرئيسية أخبار نشاطات الندوات إتصل بنا

بقلم مقتدى عثمان علي

الشعبوية الرقمية: كيف تساهم الخوارزميات في تشكيل الخطاب الدعائي وصعود القادة السياسيين؟

في عصر تتداخل فيه التكنولوجيا مع السياسة، برزت استراتيجية جديدة كقوة سياسية حاسمة لها دور كبير في المشهد السياسي وتقلباته ونعني به "الشعبوية الرقمية " لتعيد صياغة العلاقة بين القادة والجماهير،  حيث تستفيد من ديناميكيات الانترنيت ومنصات التواصل الاجتماعي وتحليل البيانات لتعزز التواصل المباشر بين ثنائية الشعب والساسة مما يجعلها اكثر تعقيدا من ذي قبل ببزوغ قادة سياسيين يظهرون بشكل غير مسبوق كأنهم يمثلون نبض المجتمع، هذا المقال يقدم تحليلا للشعبوية الرقمية مستعرضاً تعريفها، وآليات عملها، وتأثيراتها، شكلها في المجتمع العربي والعالمي، وتحدياتها المستقبلية وتأثيرها على الديمقراطية ... 

ماهية الشعبوية الرقمية ...   

قبل التحول الرقمي ظهرت الشعبوية كتيار سياسي يتبنى خطاباً انقسامياً يقوم على ثنائية (الشعب النقي) في مواجهة (النخبة الفاسدة)، وقد تجسدت هذه الشعبوية في أشكالها التقليدية من خلال الأحزاب أو الزعامات التي خاطبت القواعد الشعبية بلغة بسيطة وعاطفية، تستثمر الأزمات الاجتماعية والاقتصادية لتعزيز شعبيتها وتقديم نفسها كصوت مباشر لـ"الإرادة العامة". لكن بعد التحول الرقمي، وبروز الشبكات الاجتماعية بوصفها (الفضاء العام الجديد)، او الفضاء الرقمي الجديد، أعادت الشعبوية تعريف أدواتها وخطابها، مما أدى إلى ولادة نمط جديد من الشعبوية هي الشعبوية الرقمية.

الشعبوية الرقمية ليست مجرد استمرار للشعبوية الكلاسيكية في فضاء جديد، بل هي تطور نوعي في الأسلوب والأدوات والبنية التفاعلية. فقد أتاحت المنصات الرقمية مثل إكس، فيسبوك، تيك توك ويوتيوب فرصة غير مسبوقة للزعماء السياسيين لتجاوز الوسائط التقليدية (الأحزاب، التجمعات، الإعلام الرسمي) والتوجه مباشرة إلى الجمهور، في تواصل يبدو شخصياً، لحظياً، وغير خاضع للرقابة المؤسساتية.

ويقوم هذا النمط الجديد على توظيف أدوات رقمية مثل الميمات، الهاشتاغات، والبث المباشر الترندات، لنقل رسائل سياسية سريعة التأثير وسهلة الفهم، وقد أظهرت دراسات حديثة  أن هذا الخطاب، حين يكون عاطفياً، مستفزاً، أو قائماً على التخويف، يحظى بتفاعل وانتشار أعلى بكثير من الخطاب المتزن أو الوجودي اثناء التجمعات مما يمنح الشعبويين تفوقاً تنافسياً في المجال الرقمي وانتفاعهم في مواكبة هذا الاستغلال الرقمي . 

من الناحية الأكاديمية، يمكن فهم الشعبوية الرقمية بكونها إيديولوجيا رقيقة (thin ideology) بحسب تصنيف Cas Mudde، لكنها تتضخم وتُعاد صياغتها داخل بيئة رقمية تسمح بتسريع إنتاج وتوزيع الخطاب، لتصيغ نظرية الإطار الشعبوي القائم على ثلاث ركائز:

• التماهي مع الشعب ككتلة موحدة

• العداء للنخب والمؤسسات

• واستثمار الأزمات لكسب الزخم الشعبي 

في هذا السياق، تُظهر المنصات الرقمية قدرة هائلة على خلق، غرف صدى (Echo Chambers) وفق التعبير الاكاديمي الأمريكي حيث يتجمع المؤيدون ضمن دوائر مغلقة تؤكد قناعاتهم وتُبعدهم عن الرأي الآخر، مما يعزز الاستقطاب السياسي والاجتماعي وهكذا، تتحول الشعبوية الرقمية إلى حالة من الشحن العاطفي الجماعي لتقود إلى مزيد من الانقسام تحت غطاء الديمقراطية الرقمية وحرية التعبير.

دور الخوارزمية الشعبوية في صناعة الزعيم الرقمي

الخوارزمية الشعبوية، هي شكل جديد من اشكال الشعبوية الرقمية التي ظهرت حديثاً، تتميز باستغلال منصات التواصل الاجتماعي لأثارة العواطف الجماهيرية عبر الخوارزميات لتحقيق اهداف سياسية مدفوعة، هذا المفهوم الحديث انتفعت منه الكثير من الطبقات السياسية عبر تكوين جيش الكتروني يدافع ويهاجم ليشكل اجندة يحتكرها الساسة، هذه الوسائل جعلت من الخوارزميات أداة ووسيلة استقطابية تميل الى تعزيز المحتوى السياسي بلغة عاطفية قريبة من بيئة الاجندة الضعيفة وهو ما مكنها في المساهمة صناعة زعيم او قائد يمثل إرادة الاجندة وبالتالي ممكن خلق انقسامات مجتمعية بين فئة مجندة تخدم توجهات سياسي وأيديولوجية معينة وفئة تمتلك هوية وخطاب معتدل مما يجعل الخوارزمية سبب من أسباب ضعف العملية الديمقراطية ...

توظيف التكنولوجيا كسلاح سياسي .. 

منصات التواصل الاجتماعي مثل أكس وفيسبوك ليست مجرد أدوات تواصل، بل هي بيئات سياسية رقمية تعمل كحاضنة للشعبوية مما اكتسبت هذه المنصات سمات مهمة ابرزها ..

• اللامركزية السياسية مما أتاح للقادة الشعبويين الخروج من منطق السلطة والحضور الى نشر رسائلهم بلغة مشحونة بالتمييز والتحيز لكسب اكبر قدر ممكن من التفاعل الرقمي واللايكات مما يحول الجمهور المتابع الى تكتل رقمي (digital conglomerate  ) يساهم في توجيه الخطاب الشعبوي متجاوزين المؤسسات الإعلامية المسؤولة عن التقييم ورقابة السرد والفعل السياسي،  ومن السخرية اصبح القادة يتنافسون ليس بالانجاز وخدمة المواطن بل بجذب انتباه الجمهور من خلال رسائل مثيرة .

• الانتشار الفوري والاستجابة السريعة للمحتوى الذي يقدمه الشعبويين، حيث يمكن لتغريدة واحدة ان تصل الى تجمعات كثيرة وتفاعل سريع مقارنة بالخطابات التي تلقى وسط الجمهور، هذه السرعة والتعايش عززت وجودهم المختلف والمواكب عن السياسيين التقليدين.

• التلاعب بالعاطفة الجماهيرية هو جوهر الشعبوية الحديثة، حيث يدرك الزعيم بأن الجماهير تتأثر بالخطاب العاطفي اكثر من العقلي فإن التحدث عن تزوير الانتخابات وشراء الذمم او ادعاءات حول مؤامرة على النظام السياسي يحقق الملايين من المشاهدات وتصبح القضية مشكلة رأي عام لضعف الثقة في مؤسسات الدولة، لكن عند طرح مشروع تنموي يخدم الأجيال ويعزز مكانة الفرد يحظى بالرفض والإهمال . 

هل الخوارزميات تؤيد الشعبوية ؟ كيف؟  من خلال تفضيلها للنهج العاطفي الذي يقدمه الزعيم ليكون دورة تغذية راجعة feedback، الزعيم ينشر > الخوارزميات تعززه > الجمهور يتفاعل = هذه الدورة تساند وترسخ شرعية الزعيم مع إطالة زعامته .

الواقعية الشعبوية بين الفكر والتطبيق ..

دونالد ترامب وطريقة ادارته للشعبوية خلال ولايتين: الولاية الأولى (2016) كانت حملته الإعلامية جديدة من نوعها (الحرب النفسية الرقمية ) عبر فريق مقسم الى ..

• استغلال المحتوى المثير عبر نشر تغريدات تستهدف العامل النفسي للناخب وأطلق عليها < مصنع التغريدات >

• نشر الهاشتاكات واستغلال خوارزميات التويتر لعدم وجود مراقبة آنذاك وصعود المشاركة والتفاعل الى الملايين من الأمريكيين < بداية ولوج الترند >

• الجمهور المستهدف (المنقسمين) غالبية الشعب الأمريكي كان رافض الهجرة الغير شرعية وهذه الفئة هم جمهور ترامب المحافظين لذلك استغل هذا الانقسام في ولايات متأرجحة (بنسلفانيا، ميشيغان) من خلال عروض إعلانية وهاشتاك <الهجرة الغير شرعية تسرق وظائفكم > و<كلينتون ترحب بالمهاجريين > . 

ترامب (2024) لم تختلف المنهجية التسويقية الانتخابية لكن تطورت بفعل المتغيرات اللحظية والفريق المحدث بمساعدة ابنه بارون ترامب عبر توظيف كافة أدوات الذكاء الاصطناعي في حملة انتخابية وشكل جديدة للشعبوية ..

• Trump AI روبرت دردشة يحتوي على خطابات ترامب العدوانية وتغريدات قصيرة تحريضية تصل الى كافة الشعب مثل، أمريكا للامريكيين، أمريكا أولا، الغرباء يسرقون وظائفكم وانا الوحيد الذي يوقفهم . 

• تكتيك تحريض الخوازميات عبر انشاء حسابات وهمية والتركيز على مشاكل مصيرية مثل التضخم، حرب أوكرانيا، الهجرة، والتعليق عليها بأن ترامب سيصلح كل هذا و بايدن يدمر أمريكا. هذا جعل الخوارزميات تفسر المنشورات بالاتجاه الشعبي فترفع المنشور الى ترند . 

• ترامب ومنصة التك توك، قبل ان ندخل في صلب الموضوع لماذا ترامب ركز على التيك توك ؟ الجواب يكمن في دهاء الاستخدام كيف ؟ 

حول الخطاب السياسي الى محتوى ترفيهي يتجنب رقابة المنصة من خلال، الميمز وتركيب صورة ترامب على مجسم سوبرمان مع هاشتاك المنقذ، تصوير المراكز التجارية وخلوها من المواطنين بحجة التضخم مع عنوان < هذه أمريكا بايدن ! > التيك توك منصة يافعة وهذا السبب جعل من ترامب توظيفها في حملته الانتخابية . 

مما يعطينا هذا المثال الحي ان الخوازميات أصبحت ساحة لمعركة ديمقراطية صامتة تتحول فيها الخطابات الشعبوية الى فيروسات رقمية تتكاثر عبر تفاعل المستخدمين، اضف الى ذلك هناك نماذج حية أخرى كما في أوربا صعود قادة اليمين المتطرف عبر اليوتيوب مثل جورجيا ميلوني في إيطاليا، استخدام مقاطع قصيرة لتضخيم الخطاب ضد الهجرة والهوية، ولا تخلو المعادلة من نماذج عربية حولت الخوارزميات اكثر من أدوات تواصل، الجناح الالكتروني السعودي، منصة المصري اليوم، فريق السعادة الاماراتي، مع توعية رقمية شاملة لاعداد منصات تواكب المعارك القادمة الرقمية .. 

الشعبوية الرقمية تمثل ثورة سياسية-تكنولوجية تعيد تشكيل القيادة والتفاعل السياسي. من خلال مفاهيم جديدة مثل التعبئة الرقمية والديمقراطية الخوارزمية، أصبح القادة الشعبويون قادرين على بناء قواعد جماهيرية بكفاءة غير مسبوقة، لكنهم يشكلون تهديداً للديمقراطية من خلال تعزيز الاستقطاب وتآكل الثقة في المؤسسات وبين الافراد 

 مواجهة هذه التحديات تتطلب نهجاً مبتكراً يجمع بين إعادة تصميم الخوارزميات، تعزيز الشفافية، وزيادة التوعية للافراد في عالم تسيطر عليه التكنولوجيا. 

وفي عالم متغير باستمرار يبقى السؤال: هل يمكننا تسخير المنصات الرقمية لدعم ديمقراطية تعددية، أم ستظل أداة للشعبوية والتلاعب الجماهيري؟

 

تعليقات الزوار