00:00:00
توقيت بغداد
2025ديسمبر15
الاثنين
10 °C
بغداد، 10°
الرئيسية أخبار نشاطات الندوات إتصل بنا

المصدر: SpecialEurasia – مقالة للباحثة سيلفيا بولتوك - الخبيرة في الشؤون الدولية

عامل باغرام: التموضع الأمريكي ومستقبل اندماج إيران الإقليمي

تشهد البيئة الاستراتيجية لإيران مرحلة جديدة من الضغوط المتشابكة، حيث تتقاطع إعادة الانتشار العسكري الأمريكي المحتمل في أفغانستان مع مشاريع ممرات جيوسياسية في القوقاز، إلى جانب تحولات في تحالفات جنوب ووسط آسيا. هذه التطورات لا تمثل مجرد متغيرات خارجية عابرة، بل ترسم ملامح "تطويق جيوسياسي" يعيد صياغة مسارات اندماج إيران الإقليمي ويهدد بتقييد قدرتها على التمدد شمالاً عبر القوقاز وآسيا الوسطى.

الامتداد الإيراني نحو الشمال

من الناحية التاريخية والجغرافية، لطالما شكّل التوجه الإيراني نحو الشمال امتداداً طبيعياً لفضائها الجيوسياسي. فالقوقاز وآسيا الوسطى، اللذان كانا جزءاً من الإمبراطورية الفارسية القديمة، يُنظر إليهما في طهران باعتبارهما فضاءً حيوياً وفرصة استراتيجية.

وقد مثّلت أرمينيا منفذاً مهماً لإيران نحو أسواق الاتحاد الاقتصادي الأوراسي، فيما تحولت جمهوريات آسيا الوسطى، بعد عقود من البرود الدبلوماسي في التسعينيات، إلى شركاء رئيسيين في استراتيجية "التوجه شرقاً" التي يوليها المرشد الأعلى أهمية بالغة.

كما أن العلاقات مع أفغانستان اتخذت طابعاً عملياً رغم عدم الاعتراف بحكومة طالبان، حيث سعت طهران إلى إقامة مناطق اقتصادية حدودية لدفع التجارة الثنائية. ومع ذلك، يظل هذا الانفتاح محفوفاً بالتحديات، سواء بسبب ضغط الهجرة أو الخلافات المائية على نهر هلمند أو التوترات مع قيادة طالبان.

"عامل باغرام" والضغط الأمريكي

في هذا السياق، يبرز ما يمكن تسميته "عامل باغرام". فالقاعدة الأمريكية الواقعة شمال كابل، والتي انسحبت منها القوات الأمريكية عام 2021، تعود اليوم إلى دائرة التوقعات مع حديث متزايد عن نية واشنطن إعادة تفعيلها.

مثل هذه الخطوة لن تمثل مجرد تعزيز للحضور الأمريكي في أفغانستان، بل ستشكّل نقطة ارتكاز قادرة على مراقبة وتحجيم النفوذ الإيراني في الشرق، وتهديد مسارات الاندماج مع آسيا الوسطى، كما ستزيد من هشاشة مشاريع الصين، ولا سيما مبادرة "الحزام والطريق". فالقرب من شينجيانغ وممر واخان يجعل من باغرام أداة ضغط محتملة على بكين وطهران معاً.

الممر الترامبي وتغيير معادلات القوقاز

بالتوازي، يبرز مشروع "الممر الترامبي" الذي يربط أذربيجان بمنطقة نخجوان عبر الأراضي الأرمنية. إن نجاح هذا المشروع من شأنه أن يقطع شرياناً استراتيجياً لإيران نحو القوقاز، ويحرمها من منفذ حيوي يربطها بالفضاء الأوراسي، إضافة إلى احتمالية استغلاله لتمركز أمريكي طويل الأمد على الحدود الإيرانية. هذا الممر ليس مجرد مشروع اقتصادي، بل ورقة جيوسياسية تضيف طبقة جديدة من التعقيد على حسابات طهران الإقليمية.

إعادة التموضع الأمريكي في جنوب آسيا

ولا يمكن فهم هذه التطورات بمعزل عن إعادة التموضع الأمريكي في جنوب آسيا. فقد شهدت العلاقات بين واشنطن وإسلام آباد دفعة قوية في الأشهر الماضية، توّجت باستقبال رسمي لقائد الجيش الباكستاني في البيت الأبيض، وهو تطور غير مسبوق منذ سنوات.

كذلك من المتوقع أن يلتقي رئيس الوزراء الباكستاني بالرئيس ترامب على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة. هذه المؤشرات تؤكد أن الولايات المتحدة تعيد تفعيل ورقتها الباكستانية في سياق استراتيجيتها لمواجهة الصين، مع وضع إيران كعامل ثانوي في المعادلة، فيما تتراجع حرارة العلاقة مع الهند التي تواجه بدورها توترات متزايدة مع واشنطن.

الضغوط الغربية والداخل الإيراني

إلى جانب هذه التطورات الإقليمية، تواجه إيران ضغوطاً متصاعدة من الغرب، سواء عبر آلية "سناب باك" لإعادة فرض العقوبات أو من خلال الضربات الإسرائيلية التي استهدفت منشآت نووية وأحياء مدنية خلال الحرب الأخيرة، ما أفضى إلى مئات الضحايا المدنيين وأثار غضباً واسعاً داخل المجتمع الإيراني. هذه الأحداث ساهمت في تعميق الشكوك الشعبية إزاء جدوى المفاوضات مع الغرب، لا سيما مع اتهامات بتسريب الوكالة الدولية للطاقة الذرية معلومات حساسة إلى أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية، ومع مواقف أوروبية داعمة للعملية الإسرائيلية كإشادة المستشار الألماني ميرتس بها.

في الداخل، أخذت الضغوط بُعداً إضافياً مع تجدد الحديث عن رسالة أكثر من سبعين نائباً في البرلمان إلى المجلس الأعلى للأمن القومي، يدعون فيها إلى مراجعة العقيدة النووية والعسكرية الإيرانية، في ضوء نتائج الحرب الأخيرة وضغوط العقوبات. هذا التوجه يكشف عن ميل متزايد داخل النخبة الإيرانية نحو تبني سياسة أمنية مشددة وأقل مرونة، وهو ما قد يعمّق المخاطر الإقليمية.

إيران أمام مفترق طرق

بناءً على هذه المعطيات، يبدو أن إيران أمام مفترق طرق استراتيجي: فإما أن تتمسك بخيار الدبلوماسية رغم فقدان الثقة المتزايد بالغرب، أو أن تميل إلى سياسة أكثر عسكرة، تركز على تعزيز القدرات الأمنية وتغيير قواعد اللعبة النووية والإقليمية.

كلا الخيارين يحملان تبعات كبيرة، فالتشدد الأمني قد يمنح طهران قدرة أكبر على الصمود، لكنه يهدد أيضاً الاستقرار الإقليمي ويزيد احتمالات المواجهة، فيما الاستمرار في الانفتاح قد يبدو ضعيف المردود في ظل محيط عدائي ومتغير.

في المحصلة، يوضح "عامل باغرام" أن مستقبل اندماج إيران الإقليمي لم يعد رهناً بقدراتها الذاتية فقط، بل بات مرهوناً بمدى قدرتها على التعامل مع ضغوط متشابكة: إعادة التموضع الأمريكي في أفغانستان، مشاريع الممرات في القوقاز، توازنات العلاقات بين واشنطن وإسلام آباد ونيودلهي، إضافة إلى أثر العقوبات والضربات الإسرائيلية.

هذه التحديات ترسم صورة لتطويق جيوسياسي محكم قد يدفع طهران نحو خيارات أكثر صلابة وأقل انفتاحاً، ما يضع المنطقة أمام مرحلة جديدة من التوتر وعدم الاستقرار.

تعليقات الزوار