المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

الحرب الباردة القديمة بصيغة جديدة في جنوب شرق آسيا

يكاد لا يوجد بلد في العالم عانى من ويلات الحرب الباردة بالقدر الذي عانى منها جنوب شرق آسيا. فقد قسّم صراع القوى العظمى بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي المنطقة إلى معسكرين: واحد منهما مؤيد للشيوعية والآخر مناهض لها، مما تسبب في اندلاع خمس حروب في كمبوديا، ولاوس، وفيتنام على مدى أربعة عقود. واليوم، تؤجج المنافسة بين الولايات المتحدة والصين ما يسمى بـ”الحرب الباردة الجديدة” التي لها خصائص هيكلية مألوفة.

والواقع أن مواجهة القوى العظمى بين الصين وأمريكا هي استمرار لصراع أيديولوجي غير مكتمل، وتضع، هذه المرة، نظام التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة والقائم على الغرب في مواجهة ضد شبكة عالمية من الدول “العميلة” ومحورها الصين، ويتمتع العديد منها بدرجات مختلفة من الحكم الاستبدادي. لقد خسر الاتحاد السوفيتي الحرب الباردة، لكن الصين، الآن، أصبحت منافسا يصعب على الغرب هزيمته في الجولة الثانية من الحرب. وستكون منطقة جنوب شرق آسيا مرة أخرى مسرحًا رئيسيًا للمنافسة.
ولمدة عقدين تقريبا بعد نهاية الحرب الباردة، بدت أمريكا وكأنها تتمتع بلحظة “أحادية القطب” مكنتها من إعادة تشكيل النظام العالمي، وانتشرت الأسواق الحرة والديمقراطية في جميع أنحاء العالم. ولكن الديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق ضعُفت لاحقًا من الداخل، لا سيما في أعقاب الأزمة المالية العالمية لعام 2008، فأصبحت بذلك النماذج البديلة للاستبداد والتنمية الاقتصادية الموجهة من الدولة تطرح تحديا متزايدا.
إن الوعد الغربي المتفاخَر به بتحقيق الحرية والازدهار كان يفقد مصداقيته بصورة متزايدة من خلال التركيز المتسارع للثروة والسلطة، وتعميق الانقسامات الاجتماعية، والاستقطاب السياسي العنيد. وازدادت شكوك الناخبين وخيبة أملهم بشأن ما يمكن أن تقدمه الديمقراطية والرأسمالية – وهو اغتراب يتفاقم بفعل العولمة الجامحة، والتغير التكنولوجي السريع.
ولم يكن جنوب شرق آسيا محصنًا من هذه الاتجاهات. فنظرا لكون الكثير من الناس في تايلاند، والفلبين، وأماكن أخرى يشعرون باستياء من تراجع دخولهم ومستويات معيشتهم، انجذبوا إلى البدائل الشعبوية أو الاستبدادية.
لقد تجاوز القادة الشعبويون في جميع أنحاء العالم الديمقراطي مراكز القوة القائمة مثل وسائل الإعلام والطبقة السياسية التقليدية، ليتواصلوا مباشرة مع الناخبين. وتجذر الملاحظة أن العديد من الشعبويين في آسيا يُعفون من قيود سيادة القانون بمجرد فوزهم في الانتخابات.
لنأخذ على سبيل المثال الصين، التي تزدهر جاذبيتها على حساب أوجه القصور في الديمقراطية الغربية ورأسمالية السوق الحرة. فنموذج الصين لا يزال لينِيًّا، ولكن رغم أن الحزب الشيوعي الصيني يمارس سيطرة سياسية مركزية تشبه النظام الاستبدادي إلا أن التنمية الاقتصادية للبلاد وإدارتها متسقة مع السوق (على الرغم من أنها ليست مدفوعة به). وهكذا تتحدى الصين النموذج الغربي للديمقراطية الليبرالية ورأسمالية السوق، وتحبطه بطرق لم يسبق لها نظير.
واتخذت المعركة الأيديولوجية التي خاضها الاتحاد السوفييتي سابقًا مع الغرب شكلاً جديدًا مع صعود الصين، التي تشعر أنها مؤهلة، بل ومتجهة لاستعادة ماضيها المجيد. لكن التناقضات المتأصلة بين الشمولية السياسية والرأسمالية المتوافقة مع السوق تجعل الصين قوية وضعيفة في نفس الوقت. إذ لم تتمكن أي دولة حديثة أخرى من ضرب عصفورين بحجر واحد، من خلال فرض سيطرة مركزية وقمع الحقوق والحريات الفردية، وفي نفس الوقت إدارة اقتصاد سوق ناجح يُحَسِّن من مستويات معيشة شعبها.
وقد يقول المرء إن الدولة الصينية تقود الاقتصاد الرأسمالي بنفس الطريقة التي اعتمدتها اليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان لتضطلع بدور الريادة في الرأسمالية التي تقودها الدولة من ستينيات إلى ثمانينيات القرن العشرين. ويكمن الاختلاف الرئيسي في أن هذه الدول كانت حليفة وشريكة قوية للولايات، وطورت ديمقراطيات قوية تعتمد أسلوبا غربيا. والصين ليست حليفًا للولايات المتحدة ولا حتى دولة ديمقراطية، وربما لن تكون كذلك أبدًا.
لقد واجه الاتحاد السوفيتي الولايات المتحدة في صراعات بالوكالة، مثل الحروب الهندية- الصينية، لكنه في النهاية، خسر الحرب الباردة لأنه لم يستطع مواكبة التنمية الاقتصادية الرأسمالية الأكثر ديناميكية في الغرب. ولم تحصل بعد مواجهة عسكرية مباشِرة بين الصين والولايات المتحدة، على الرغم من أن الصين تكدس الأسلحة بطريقة غير مسبوقة، مفضلة بذلك الحفاظ على هدوئها والاستعداد لخوض غمار المنافسة في مجال التجارة والابتكار التكنولوجي.
بيد أنه كما فعلت الولايات المتحدة قبل ثلاثة عقود، تحاول الصين إعادة تشكيل النظام العالمي بما يتماشى مع تفضيلاتها. إن المواجهة الناتجة بين الشرق الجديد والغرب القديم يمكن تسويتها بصورة أفضل من خلال عملية إيجاد حل وسط وتحقيق التوافق التي تمنح الصين دورًا دوليًا أكبر ومكانة تليق بثقلها العالمي. وإذا قوبلت بالرفض، فمن المرجح أن تصبح الصين مستاءة، ومتعالية، وعدوانية. ولكن معايير هذا التكيف متقلبة، لذا فإن الحرب الباردة الجديدة ستواصل تطورها.
ولن يكون تأثير صراع القوى العظمى الجديد أوضح وأكثر تأثيرًا في أي مكان كما هو الحال في جنوب شرق آسيا، الذي يزداد انقساما بشأن ما تمثله الصين وطريقة الرد عليها.

ويبدو أن الصين هي التي تسيطر في المنطقة في الوقت الراهن. ولكن جائحة كوفيد-19 قد تكشف قريبًا عن عيوب أساسية في نظام الصين، لأنه، بعد أن التزمت بالقضاء على فيروس كورونا، لا يمكنها إعادة فتح اقتصادها بالكامل.


وفي الوقت نفسه، يمكن أن تمكن حالات الإصابة المرتفعة التي تشهدها حاليا الولايات المتحدة والديمقراطيات الأخرى هذه الدول من التعامل مع كوفيد-19 بفعالية أكبر.

وإذا أمكنها الاستفادة من هذا الاحتمال، فسيؤدي ذلك إلى إعادة التوازن إلى صراع الحرب الباردة الجديد الذي يشهده جنوب شرق آسيا وأماكن أخرى.
————————————————————-

مقال لـ #ثيتينان_بونغسودهيراك كاتب وسياسي تايلندي وهو أستاذ ومدير معهد الأمن والدراسات الدولية في كلية العلوم السياسية بجامعة شولالونغكورن في بانكوك

اترك تعليقا