00:00:00
به توقيت بغداد
2024ديسمبر22
الأحد
39 °C
بغداد، صافي
الرئيسية أخبار نشاطات المكتبة الرقمية إتصل بنا

طريق التنمية: الدرب الوعر من الخليج إلى أوروبا

جذب الدرب الممتد من ميناء الفاو بالبصرة العراقية والمنتهي بميناء مرسين بتركيا، عدة قوى حسبته فرصة مربحة، تجعلها تنخرط في الشبكات الرابطة بين مركزين من مراكز الثروة العالمية، آسيا الناهضة وأوروبا، ويستعين بها بعضها لتفادى الإقصاء من شبكات أخرى تنشد نفس الغاية، أما بعض القوى الأخرى المشاركة، مثل دول الخليج، فإنها تستغل الفرص المتاحة لتنويع خياراتها، ولا ترهن نفسها بشبكة دون أخرى(1). وقد يكون رعاة هذه المشروع أطلقوا عليه تسمية طريق التنمية، ليعطوه سمة اقتصادية، ويزيحوا عنه المحاذير السياسية، حتى يقللوا من المقاومة المتوقعة من الرافضين للمشروع.

كما يجمع هذا المشروع بين عدة قوى، فإنه يقصي قوى أخرى، أو قد تراه ضارًّا بها أو منافسًا لها، وقد تسعى لإعاقته، وإفشاله، فمثلًا لا تشارك إيران فيه، وهي تتمتع بنفوذ كبير في العراق، وكذلك يوجد حزب العمال الكردستاني الذي قد يضرب المشروع للانتقام من تركيا، وكذلك قد تتوجس الكويت من المشروع، لأن ربطه بميناء الفاو، قد يقلِّل من جاذبية ميناء مبارك الكبير المجاور له، والذي تراهن عليه الكويت ليكون رافعة اقتصادية، فتتجه بدلًا من ذلك حركة الملاحة إلى ميناء الفاو العراقي.

علاوة على ذلك، توجد خطوط أخرى منافسة، مثل الخط الرابط بين الهند وحيفا والمار بالإمارات والسعودية، وطريق الحرير الصيني الجديد المار بميناء تشابهار الإيراني، والطريق الرابط بين الهند وميناء بندر عباس بإيران والمتجه إلى روسيا مرورًا بعدة دول من آسيا الوسطى. كل خط من هذه الخطوط ينازع الأخرى في جدواه، ويقلل من احتمالات عوائده المالية والسياسية، وقد يعجز بعضها عن الاكتمال، وقد يخفق بعضها بعد الاكتمال لشدة المنافسة.

المكاسب المرتجاة

تعود فكرة المشروع إلى ثمانينات القرن الماضي، وكان العراق هو الداعي إليها، لكنها لم تر النور، لملابسات كثيرة منها الحرب العراقية-الإيرانية ثم العقوبات الدولية على العراق، لكن القوى المتحفزة إليها في المقام الأول حاليًّا هي تركيا، وكانت تسمية المشروع الأولى "القناة الجافة"، والقصد أن هذا الطريق البري الرابط بين ميناء العراق وميناء مرسين التركي، شبيه بالقناة البحرية لكن دون أن تكون بها مياه، بل هي قناة ولكنها برية، تنقل البضائع والأشخاص.

من المؤشرات على رغبة تركيا في إنجاز المشروع، زيارة الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، للعراق، في أبريل/نيسان 2024، رفقة وفد كبير، ووقَّع البلدان على 24 مذكرة تفاهم، تنوعت بين الطاقة والتجارة وإدارة المياه، وتصب جميعها في توفير الظروف لإنجاح مشروع طريق التنمية.

تتنوع حسابات تركيا في الحرص على إنجاز هذا المشروع، فهي تتطلع إلى أن تكون عقدة مركزية لعدة شبكات تربط بين آسيا وأوروبا، مثل الربط بين عدد من دول آسيا الوسطى وأوروبا، أو الربط بين عدة دول منتجة للبترول والغاز وأوروبا، والسعي لتكون أيضًا عقدة في شبكة الطاقة بشرق المتوسط التي حاولت اليونان وبعض الدول إقصاءها منها. وتحسب تركيا أن تحولها إلى عقدة في هذه الشبكات، يمنحها عدة مزايا اقتصادية وجيوبوليتيكية، مثل الحصول الدائم على الطاقة بأسعار تفضيلية، بل التحكم في حصول دول أوروبية على حاجتهم منها؛ لأن تركيا تستطيع أن ترد على المواقف العدائية أو الإجراءات العقابية بإجراءات مضادة، مثل وقف ضخ الطاقة المارة عبر أراضيها، لذلك ستحذر الدول المرتبطة بتلك الشبكة من الإضرار بالمصالح التركية. وكذلك، تتيح هذه الشبكة لتركيا تصدير منتجاتها لأسواق الدول المرتبطة بها؛ لأنها ستكون مطلوبة لأسباب قد يكون بعضها سياسيًّا مثل رغبة هذه الدولة في توثيق علاقتها بتركيا، حتى تضمن التدفق المستمر للموارد الحيوية التي تحتاجها، أو حتى تنتفع من العقد التركية في تصدير منتجاتها.

ضمن هذا التوجه العام، قد تخطط تركيا لاستعمال هذا المشروع لشد العراق إليها لغايات عديدة، فمن جانب تحتاج دعم العراق في محاصرة حزب العمال الكردستاني الذي يتقافز بين المناطق التركية وكردستان العراقية، بل يستعمل المناطق العراقية ملاذات آمنة من ملاحقة القوات التركية، لكن لما يربط هذا المشروع مصالح البلدين ستحرص الحكومة العراقية على تضييق الخناق على حزب العمال الكردستاني، فتمنعه من الانكفاء إلى أراضيها، فيظل حبيس المناطق الجبلية بتركيا. وتود تركيا أيضًا أن تربط العراق بها حتى يغذي حاجتها من الطاقة بل قد يرتبط بشبكة الطاقة التي تنسجها، فتضرب تركيا عصفورين بحجر، وهو تأمين جزء من حاجاتها من الطاقة والإمساك بمقبض مضخة مهمة من مضخات الطاقة في المنطقة. هناك أيضًا هدفان جيوبوليتيكيان كبيران هما: كسر السوار الذي تحيط به إيران جنوب تركيا والممتد من إيران إلى المتوسط، وقد كانت تركيا تاريخيًّا تندفع إلى الجنوب نحو الممرات البحرية مثل ميناء البصرة؛ لأنه يربطها بدول الخليج العربية، ثم إلى دول آسيا. وأما الهدف الثاني؛ فإن التضييق الذي تعاني منه تركيا في شرق المتوسط من الدول الغربية، يدفعها إلى وضع بدائل بحرية للنفاذ إلى منطقة آسيا الناهضة، والبديل الأمثل هو الطريق الرابط بالبصرة؛ لأنه أقصر، ولا تفصل بين تركيا وبحر الخليج إلا دولة واحدة هي العراق(2).

يشارك العراق في مشروع طريق التنمية بحسابات أخرى، فهو يتطلع في المقام الأول إلى أن يستثمر في مشاريع تدر عليه مداخيل تخفف اعتماده على مداخيل الطاقة البالغ 93%، ثم يرمي كذلك من وراء هذا المشروع إلى تنويع شراكاته الإقليمية حتى لا يظل حبيس العلاقة مع إيران، وقد كان هذا منحى رئيس الوزراء، محمد شياع السوداني، وتعد تركيا القوة الإقليمية الأمثل لذلك، بما لها من ثقل اقتصادي، وموقع جغرافي يجعلها عقدة الربط بين أوروبا وآسيا الوسطى وروسيا، وملتقى عدد من الشبكات الاقتصادية، وبما لها من وشائج تاريخية وثقافية وأمنية مع العراق.

قد يبدو انخراط العراق في هذا المشروع متنافيًا مع ارتباطه الوثيق بإيران، لكن لم يبدر من حلفاء إيران العراقيين انتقادًا علنيًّا للمشروع، وقد يكون أحد الأسباب أن إيران منخرطة في مشروع مع الهند يمتد إلى روسيا، وهو مشروع ممر النقل الدولي شمال-جنوب، ولم تضم إليه العراق؛ بل اكتفت بمقتضيات مصالحها الوطنية، فلا تستطيع القوى الموالية لإيران أن تنتقد القيادة العراقية إذا أملت عليها مصالحها الوطنية الانضمام إلى مشروع طريق التنمية الذي لا يضم إيران.

تعددت أيضًا حسابات الإمارات الجيوبوليتيكية، فاشتراكها في هذ المشروع هو تحوط من إمكانية انسداد مسالك مضيق هرمز في حال اندلاع صدام مسلح حوله، وكذلك تحوط من انسداد المسلك البري الوحيد الذي يربطها بالسعودية، كما وقع لقطر في 2017، وتحتاج للوقاية من ذلك إلى هذا الممر البري لتظل على تواصل مع العالم الخارجي. تتطلع الإمارات أيضًا إلى تنويع شراكاتها الاقتصادية لتخفيف اعتمادها على مداخيل النفط، ورفع مداخيلها من المشاريع الاقتصادية المستدامة. تحرص أيضًا على الانضمام للمشاريع المتنافسة حتى تظل على تواصل مع مختلف القوى الإقليمية والدولية، ولا تحشر نفسها مع قوى دون أخرى، فهي طرف رئيسي في الخط الرابط بين الهند وميناء حيفا الإسرائيلي، وشريك في مشروع شرق المتوسط، ومع طريق الحرير الصيني الجديد. كذلك تحرص الإمارات في مثل هذه المشاريع أن ينصبَّ استثمارها على الموانئ، فلقد أبدت رغبتها في تهيئة ميناء الفاو، ليكون حلقة أخرى من شبكة الموانئ المترامية التي تشرف عليها الإمارات.

تشارك قطر في المشروع بعدة حسابات، تحتاط هي أيضًا لإمكانية انسداد مضيق هرمز، وانسداد الخط البري الوحيد المار بالسعودية، كما حدث في 2017، وتتطلع كذلك إلى تنويع مداخيلها من مشاريع اقتصادية لتخفف اعتمادها على مداخيل الطاقة، لكن هناك أيضًا حسابات أخرى: تحرص قطر على الترابط الوثيق مع حليفها الإقليمي، تركيا، حتى يتعاضدا اقتصاديًّا وأمنيًّا، وتؤمِّن خطًّا بريًّا دائمًا يوفر لها المدد والحاجات في أوقات الشدة، كما حدث في 2017، لما سارعت تركيا إلى مدِّ قطر بحاجاتها الحيوية عبر خط بري يمر بإيران، لكن خط البصرة سيكون أقصر ويوسع خيارات قطر. كذلك قد يكون هذا الطريق البري مهمًّا في الأوضاع الأمنية الشديدة إذا اضطرت تركيا إلى الدفع بقوات إلى المنطقة لنصرة الحليف القطري. كذلك، يتعزز الأمن القطري إذا تعافى العراق اقتصاديًّا وبات أكثر تماسكًا واستقلالًا في قراره؛ لأنه سيصير قوة إقليمية توازن بقية القوى الإقليمية، وسيتيح التدافع بين هذه القوى الإقليمية الكبيرة مجالًا أوسع لقطر كي تتفادى هيمنة قوة من هذه القوى على الإقليم وفرض وصاية على دوله. وقد شهدت هذه المنطقة هذا التوازن، خلال ثمانينات القرن الماضي، لما كانت القوى الأربعة، إيران والعراق وتركيا والسعودية، تراعي التوازن فيما بينها، فلا يخاطر بعضها بمد سيطرته لأنه يخل بالتوازن فتتحرك بقية القوى إلى تقييده مجددًا(3).

تراقب العربية السعودية المشروع بحذر. شاركت في المؤتمرات المنعقدة بخصوصه، لكنها لم تعلن انخراطها فيه. قد يكون مرد الحذر السعودي الموازنة بين مكاسب المشروع وفرص إنجازه من جهة والمشاريع الأخرى التي تشارك فيها السعودية، مثل مشروع الممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا(4).

قد تجد السعودية فائدة في مشروع طريق التنمية؛ لأنه يجنِّبها مخاطر المرور بمضيق هرمز إذا توترت العلاقات مع إيران، وينوع وصولها إلى أوروبا عبر تركيا، وقد يوفر لها مدخلًا إضافيًّا للعراق كي تجذبه إليها بعيدًا عن إيران، لكنها قد تحذر من العوائق التي تقف في وجه المشروع، وقد تتوجس من تسهيل ولوج تركيا إلى منطقة الخليج، وقد تخشى خسارة استثماراتها في المشروع من الأوضاع الأمنية المضطربة في العراق وجنوب تركيا، وقد تصب اهتمامها على مشروع الهند-الشرق الأوسط-أوروبا لأنه يحظى برعاية أميركية ترجح احتمالات إنجازه وارتفاع عوائده.

التكاليف المرئية وغير المرئية

يمتد المشروع من ميناء الفاو بالبصرة في العراق إلى الحدود التركية، على مسافة 1200 كم، ويتكون من الطرق البرية والسكك الحديدية، بتكلفة نحو 17 مليار دولار، ويُنجز على ثلاث مراحل، 2028، 2033، 2050، والمفترض أن تنتهي المرحلة الأولى مع 2028.

أبدت الإمارات كالعادة رغبة في تجهيز ميناء الفاو، ليكون حلقة جديدة في شبكة الموانئ الواقعة تحت إشرافها، علاوة على الاستثمار، كما تفعل قطر في مجال الطاقة العراقي، والبنى القاعدية. من جهته، تعاقد العراق مع شركة دايو للهندسة والبناء من كوريا الجنوبية للإسهام في إنجاز المرحلة الأولى من المشروع. تشارك أيضًا تركيا في أعمال البنى القاعدة، والإسهام في إنجاز المقطع المتصل بحدودها.

يتسم المشروع بمزايا تنافسية على بقية المشاريع المنافسة، مثلًا سيخفض فترة النقل بين آسيا وأوروبا إلى 15 يومًا مقارنة بنحو 33 يومًا عبر البحر الأحمر، وهي نفس مدة النقل تقريبًا عبر الممر الرابط بين الهند وحيفا نحو أوروبا، ويتجنب المخانق المحتملة مثل مضيق هرمز وباب المندب، والمناطق المضطربة كالبحر الأحمر الذي يشهد نزاعات عديدة، وتتنامى سعة قطارات الشحن من 3.5 ملايين حاوية بداية عمل المشروع إلى نحو 40 مليون طن من السلع في 2050. لكل ذلك، يتطلع العراق إلى أن يوظف المشروع 100 ألف عامل، ويدر 4 مليارات دولار من المداخيل سنويًّا(5).

تبدو تكلفة المشروع ومدة إنجازه متسقة مع المتوسط الذي تُنجز فيه مشاريع مماثلة، وهي نحو 3 مليارات دولار للطريق البري، و4 مليارات للسكك الحديدية، إضافة إلى ميزانية إضافية تقدر بنحو 10 مليارات دولار لمختلف الجوانب، مثل تجهيز الموانئ وبناء الجسور، وغيرها من المفاجآت التي لا تخطر على بال المخططين والمنفذين قبل الشروع في الإنجاز الفعلي. كذلك، تتسق المدة المخصصة لإتمام المشروع مع معدل المشاريع المماثلة، وهي بين 10 و20 سنة، بل إن مشروع طريق التنمية خصص نحو سبع سنوات إضافية، تحسبًا للعوارض غير المحتسبة لكنه ليس تمديدا خارجا عن المألوف؛ لأن الدراسات المتخصصة في مثل هذه المشروعات خلصت إلى أن الظروف المضطربة والخطرة قد تطيل المدة المقدرة للإنجاز بنحو 25% إلى 50%، وهما إضافة ربع المدة المقدرة مسبقا أو نصفها.

رغم ذلك، تبرز عدة محاذير، فقد يؤدي النزاع داخل الدول بين عدة أطراف فاعلة، تتزاحم للحصول على أكبر نصيب من الكعكة، إلى زيادة الفاتورة، بل قد يؤدي التدافع بين مختلف القوى إلى تعثر إنجاز المشروع، فترتفع تكلفته كلما زادت مدة إنجازه. فالعراق، المركز الرئيسي للمشروع، جاء في المرتبة 154 من 180 دولة في تصنيف مؤشر الفساد، ضمن فئة الدول الأكثر فسادًا مثل الصومال وجنوب السودان وفنزويلا. كذلك، قد يواجه المشروع تطورات مفاجئة خلال هذه السنوات الطويلة لإنجازه، فقد تقع اضطرابات أمنية تعيقه، وقد تحدث تغيرات داخل الدول الشريكة، مثل العراق، فتتبدل الأولويات، أو تتغير تكتلات المصالح، فتعيد النظر في المشاركة في المشروع. ومع كل زيادة في تكاليف المشروع، ستتناقص نسبة الأرباح من العائد المقدر بنحو 4 مليارات دولار، لأن الحصة المقتطعة لتغطية التكاليف ستكبر(6).

ليست هذه المحاذير تخرصات نظرية، بل كما سبقت الإشارة، خطَّط العراق من قبل لإنجاز هذه المشروع، لكن العوارض الكبرى قضت بتأجيله، وتوجد عدة قوى خارجية وداخلية قد تتحرك فرادى أو متكاتفة لإفشاله حتى تحافظ على نفوذها أو تعززه.

القوى الساخطة

لا يشمل هذا المشروع عدة دول مجاورة، وقد تعده منافسًا لمشاريعها الخاصة. فالكويت يعوِّل على ميناء مبارك الكبير ليكون استثمارًا إستراتيجيًّا يجعلها ضرورية في شبكات النقل البحري، ويدر دخلًا متناميًا، يبدأ من إدارة 1.8 مليون حاوية في المرحلة الأولى، ثم يرتفع خلال المراحل المتبقية. لكن هذه التقديرات قد يخصم منها ميناء الفاو المرتبط بمشروع طريق التنمية، فيأخذ من حصة ميناء مبارك الكبير، وقد يرفع هذ التنافس درجة التوتر بين الجارين، الكويت والعراق، وقد يتغذى من إحياء الخلافات حول الحدود البحرية بين البلدين، فتطفو إلى سطح العلاقات، كما حدث في 2023 لما أصدرت المحكمة الفيدرالية العراقية قرارًا بإلغاء اتفاقية الملاحة البحرية في خور عبد الله الواقع بين البلدين والمؤدي إلى ميناء أم قصر العراقي، وقد يصاب مشروع طريق التنمية لذلك بالتعثر، أو قد ترتفع تكلفة استعماله.

تتوجس إيران من هذا المشروع لأنها يتعارض مع خططها أن تكون عقدة الربط بين آسيا وأوروبا ولكن انطلاقًا من ميناء الإمام الخميني إلى خورامشهر داخل إيران ثم التمدد إلى البصرة، وبعدها بغداد ثم البوكمال على الحدود العرقية السورية ثم يتفرع إلى لسانين، يمتد أحدهما شمالًا إلى ميناء اللاذقية والثاني جنوبًا إلى حمص ثم ينعرج جنوبًا أكثر إلى دمشق(7).

كأن المشروع الإيراني يتجه أفقيًّا بينما مشروع طريق التنمية يتجه عموديًّا، وبين المشروعين تكون البصرة محل تنازع لأنها عقدة مركزية في المشروعين، فإذا ارتبطت بالمشروع الإيراني لم تعد هناك حاجة للارتباط بميناء الفاو، فالمسافة بين ميناء الإمام الخميني وميناء الفاو قصيرة جدًّا. مع ملاحظة أن المشروع الإيراني ليس اقتصاديًّا وحسب بل هو إستراتيجي يرمي إلى توثيق الروابط بمحور المقاومة الذي يضمن تحكم إيران في المنطقة الشاسعة بين إيران والمتوسط، وهي المنطقة التي حاول القادة الإيرانيون من الممالك الفارسية القديمة التحكم فيها لكنهم واجهوا مقاومات عديدة على مرِّ التاريخ، لكن ظل هذا الاندفاع مقتضى من مقتضيات الإستراتيجية الإيرانية لأن موجات الغزو التي وصلت إيران في تاريخها جاءت في الأغلب من هذه المناطق؛ لأنها احتضنت حضارات قوية من زمن الأشوريين، ثم لأن هذه المناطق سهلة للتنقل لخلوها تقريبًا من الحواجز الطبيعية، ثم لأن المناطق الإيرانية الغربية غنية بالخيرات ومرتبطة بطرق التجارة نحو آسيا الوسطى وجنوب آسيا، هذا بخلاف الجانب الشرقي من إيران الذي تحميه الحواجز الطبيعية كالصحراء والجبال، ولا توجد بالقرب منه مراكز حضارية قوية توسعية. هذه الحسابات قد تجعل إيران تستميت في إنجاح مشروعها، وإفشال المشاريع المخالفة له.

يضعف هذا المشروع أيضًا من موقع إيران في مشروع طريق الحرير الجديد، أو مشروع الحزام والطريق الصيني، الذي يجعل ميناء تشابهار الإيراني عقدة مهمة في شبكته، وقد تتضافر جهود البلدين كي يضمنا عوائد مجزية للاستثمارات الصينية في إيران الموجهة لمشروع طريق الحرير، والمقدرة بنحو 400 مليار دولار، موزعة على 25 سنة، في بنى الطاقة القاعدية كحقول الغاز والأنابيب والمصافي، وفي مشاريع النقل كالطرق السيَّارة والسكك الحديدية والموانئ، وفي تكنولوجيا الاتصالات لإقامة بنى قاعدية للترابط الرقمي ضمن مشروع طريق الحرير الرقمي. يشترك البلدان في هذه الاستثمارات لأنهما يحسبان أن عوائدها تغطي تكاليفها وتدر أرباحًا عليهما، ولن يتساهلا مع مشاريع منافسة تصيبهم بخسائر فادحة، وستكون إيران أكثر حرصًا على نجاح هذه الشركة؛ لأنها محتاجة للاستثمارات الصينية وللارتباط بالاقتصاد الدولي حتى تفك العزلة التي تضربها أميركا والدول الغربية عليها.

أبدت حكومة كردستان العراقية سخطها على المشروع لأنه يتفادى إقليمها، ويمر عبر نينوى، ورأت في ذلك إضعافًا سياسيًّا مقصودًا للإقليم حتى يظل تابعًا في بقائه للحكومة المركزية العراقية، ولا يمتلك القدرات لينزع مجددًا نحو الاستقلال، وقد تكون كذلك في رأيه التقديرات التركية التي تتوجس من تنامي قوة كردستان العراق التي قد تجعله ينزع مجددًا نحو الاستقلال، فيشكِّل سابقة قد تلهم أكراد تركيا للمضي على أثره.

يعتبر حزب العمال الكردستاني هذا المشروع خطرا لأنه يقرب بين القيادتين، العراقية والتركية، وسيكون التعاون بينهما بلا شك على حسابه، فتتساهل الحكومة العراقية مع ملاحقة القوات التركية للمسلحين من حزب العمال داخل أرضيها، بل قد تتعاون في التضييق عليهم لمنعهم من استعمال إقليمها قواعد انطلاق لضرب القوات التركية أو مراكز انسحاب للاحتماء من الحملات العسكرية التركية. وقد يستغل حزب العمال الكردي وجوده في الجانب الغربي من محافظة نينوى التي يمر بها المشروع ليكون تهديدًا داهمًا ومستمرًّا للمشروع.

توجد كذلك قوات سوريا الديمقراطية بالمناطق الكردية في سوريا، وهي في حالة عداء مع تركيا، وتحظى برعاية أميركية تمثل حاجزًا يحميها من الاكتساح التركي، لكن الأوضاع مضطربة، وإذا حدث تغير مثل انسحاب القوات الأميركية، فقد تقرر تركيا اجتياح هذه المناطق عسكريًّا لإقامة نظام حكم غير معاد في جنوب حدودها، فترد هذه القوات باستهداف طريق التنمية لاستنزاف القدرات التركية، بل قد يتعاون الفصيلان الكرديان، حزب العمال وقوات سوريا، على مهاجمة المشروع من جانبيه، الشرقي والغربي، فيوقفانه أو يرفعان تكلفة استعماله.

التعاون وسط التدافع

تبدو التحديات التي تواجه المشروع كبيرة وعديدة، فهو يواجه مشاريع منافسة ترعاها دول كبرى بالتوافق مع دول إقليمية كبيرة، فالولايات الممتدة ترعى المشروع الرابط بين الهند وحيفا بإسرائيل، والصين ترعى طريق الحرير المار بإيران، ويواجه أيضًا بيئة إقليمية شديدة الاضطراب، فالجماعات الكردية المسلحة تحيط بالمشروع من جانبيه، وقد تنتعش أيضًا جماعة القاعدة أو تنظيم الدولة، وتنشط بالعراق فصائل الحشد الشعبي المرتبطة بإيران، ويستند إنجاز المشروع إلى قيادات سياسية في العراق قد تبدل أولوياتها حسب تبدل قواعدها، فليس واضحًا إن كان هذا المشروع محل إجماع القوى السياسية العراقية أم مشروعًا يخص رئيس الوزراء العراقي الحالي، محمد السوداني، وقد يتعثر أو يتجمد برحيله وتغيير القوى السياسية الحاكمة أو التوافق السياسي الحاكم.

يتسم المشروع أيضًا بحالة لا تناظرية قد تزيد من التحديات التي تواجهه، فتكلفة الاضطرابات التي قد تهزه قد تكون طفيفة لكن تأثيراتها عليه ستكون هائلة، والأمثلة الافتراضية كثيرة، فلو قررت جماعات مسلحة قصف منشآت المشروع لن يكلفها ذلك كثيرًا، لكنها قد توقف المشروع الذي تكلف إنجاز مرحلة من مراحله مليارات الدولارات، أو قد يوقف هذا الهجوم استعمال هذا الطريق في حال وقع الهجوم بعد إنجاز المشروع والشروع في استعماله، فتتجنب الشركات والدول استعمال هذا الطريق، أو قد يرفع الهجوم تكلفة استعماله لأن شركات التأمين ترفع أسعارها مع ارتفاع المخاطر، فتقل بذلك الشركات والدول التي تسلكه.

في المقابل، لا تزال حظوظ المشروع قائمة وقد تترسخ مستقبلًا، فلقد ترعاه أميركا أيضًا ليسد الطريق أمام مشروع طريق الحرير الصيني، ولتقوية العراق وربطه بشبكة تبادلات بعيدًا عن إيران، وقد تكون المساهمة الأميركية بمنع الفصائل الكردية المسلحة من التعرض للمشروع.

يبقى المشروع جاذبًا للدول الخليجية الموجودة شمال مضيق هرمز لأنها ستظل تخشى من خطر انسداد هذا المضيق، وتتطلع إلى منافذ بديلة، وقد يقتضي منها أمنها القومي التخفف من اعتمادها على الموانئ الإيرانية، فتبحث عن بدائل أخرى، أفضلها حاليًّا هو طريق التنمية. أما الضرر المحتمل للكويت فقد تتوافق الأطراف على شراكة تدر منافع على الميناءين، العراقي والكويتي، فيكون المشروع عاملًا لامتصاص التوترات الكامنة بين الجارين، وقد يساعد في تعزيز الثقة بينهما، فيصير الكويت مساهمًا رئيسيًّا في إنجاح المشروع وتنمية العراق.

الحواس تقية باحث بمركز الجزيرة للدراسات.

تعليقات الزوار