بقلم علي وجيه عباس
ربطةُ عنقٍ حمراء في المتحف الشيعيّ .. عن الجلبيّ الخالد في ذكراه التاسعة
ما تفكّرتُ بشخصيّةٍ في حياتي، وتتبّعتُ كلّ ما يخصّها، وما يُروى عنها، قدر ملاحقتي لشخصيّة أحمد الجلبيّ، السياسيّ العراقيّ، بمعنى أدق: كان هو يُلاحقني كلما حاولتُ فهم نفسي، بداخل إطارها الجمعيّ، وهويّتها الشيعيّة عموماً، وميْلها المدنيّ، ولا يُمكنُ فهم الجلبيّ إلاّ بفهم تموضع الشيعة أجمع، كجماعةٍ بشريّة، وثقافة، في التأريخ العربيّ والإسلاميّ.
في صورةِ طفولته، التي تضمّه وتضمّ زملاءه في المدرسة، العينان الذكيّتان تشعّان رغم الرزليوشن البسيط، والصورة الجماعية، غير الملوّنة، وكلّما كبر، وغيّر تسريحة شعره، كانت عيناه هما الشيء الوحيد الذي لا ينطفئ، ولا يُخفى ذكاؤهما، رغم أنني لم أكن محظوظاً باللقاء به، لكن ذكاء عينيه كان كفيلاً أن أعرف أن هذا الرجل لا يُشبِهُ سواه.
لو لم يكن للجلبي فضلٌ إلاّ كسر الغياب السياسيّ الشيعيّ الذي استمرّ لـ ١٤ قرنا، لكان حسبه، عالي الجناب، ابن الذي يمتلكُ نصفَ الكرخ، وسُمّيت على اسمه، المستأنس بمعرفة الله من خلال الرياضيات والعرفان، مُريدُ وعاشقُ محيي الدين بن عربي، اللاعب على ألف حبلٍ سياسيّاً، والذي يقرأ العالم أرقاماً وروحاً، ونقطة ارتطام الشرق بكلّ بخوره وبلاغته وكلامته، بالغرب وحداثته، هذا الرجل، الذي أخذ على عاتقه هدفاً واحداً: إسقاط صدّام حسين، مهما كلّف الأمر، بكثير من الارتقاء والهبوط، الخسارة والربح، حقّق هدفَهُ، وجلسَ وبين يديه صدّام، ذليلاً، على قريولته في سجنه.
كان باستطاعة الجلبيّ أن يكونَ صدّامياً، ليحفظَ أملاك أبيه، ودماء أقاربه، ووجوده، دون التلفّت خوفاً من المخابرات العراقية، أو التفاوض مع مَن يستحقّ ولا يستحق، لكن هيهات، فمَن تدعو له مرجعياتُ التشيّع المختلفة بـ"سهام الليل"، ومَن يعقدُ قِرانَهُ موسى الصدر، ومَن يندكّ بالدعاء الشيعيّ، لا يسلّم هامته لصدّام ومشتقاته، وأن بئراً عميقاً من الرفض، كان في صدره، كأيّ علويّ ثائر قتله بسر ابن أرطاة أو زياد بن أبيه، وإن تعلّم معارفَ الدنيا، فما يزالُ اسم "عليّ" هو ما يربطُهُ.
طيلة عقود، والتشيّعُ هويّة ثابتة لدى الجلبيّ، ما هادنَ عليها، وما قال لأهلِهِ "أفٍّ"، وما ملّ من تنظيم التظاهرات، والحديث مع أعضاء الكونغرس، ثم العودة لكردستان، وصناعة طيف عراقيّ معارض أكبرُهم بعدَهُ لا يساوي خيطاً من بذلته الأنيقة، ما تركَ وقتاً، ولا جهداً، ولا مالاً إلاّ وأنفقه من أجل صناعة المعارضة، وإسقاط صدّام، وحفظ التشيّع السياسيّ، ذاك الذي ما نبتَ إلاّ على يديه الكريمتين، ورغم أنهم أضاعوه، وأيّ فتىً أضاعوا، لكن ما علا صوتٌ شيعيّ عراقي بعد ٢٠٠٣، إلاّ ببركات يديْ أبي هاشم، مُذلّ صدّام، الأنيق، الذي جمع المعسكرات المتنافرة من أجل أن يسقطَ تمثالُ الديكتاتور وحكمه.
لم يكن طائفياً، أو رجعياً، كان عراقياً خالصاً، أحبّ الكرد وأحبّوه، وكان شقيق السنّة غير البعثيين، وكان شيعياً مثل تربة، أخضرَ مثل قبّة "سيّد حمد الله"، مؤنِساً مثل عطر الأضرحة، حديثاً مثل كومبيوتر صُنعَ توّاً، محبّاً للفنّ كما لو كان ولدَ في بيت جواد سليم، لا عبد الهادي الجلبي. كان يريدُ أن يكون ثمّة عراقٌ ممكنٌ عندَ العراقيين، ورغم كلّ التعثّرات: وهبنا هذا العراق الممكن!
لم يكن "ثعلباً"، كان ذئباً، بكلّ ما بالذئاب من كرامةٍ وعلوّ وشراسة، وما عَلَتْ هامةٌ شيعيّة في العراق وقالت "أنا هنا" إلاّ بما فعله، واجتهدَ فيه، وما أنفقَ فيه سنوات شبابه، ورجولته، وكهولته، حتى وفاتهِ، رحمه الله وتقبّله مع آل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله).
وأنتَ أيّها الشيعيّ، حين تدخلُ متحفكَ الرمزيّ، ستجدُ كثيراً من العمائم والدماء والشعر والحزن واللطم والثورات، بينها ستجدُ ربطة عنقٍ أنيقة، كان يرتديها أحمدُ، قبّلها كما تُقبّلُ عمامةَ الطوسيّ، واهجسْ أثرها، كما تودّ أن تفهم أثرَ العشيرة، وضمّها إلى صدرك، فهي ما صنعتْ كرامتك، ووجودك، لو فهمتَ الـ ١٤ قرناً، منذ السقيفة الى مجلس الحكم.
يا أحمد..
يا مَن يجاورُ موسى بن جعفر (عليه السلام)، أحمدُ الله وأشكره أنني ما التقيتُكَ، لكن وحقّ "عليّ"، ذاك الذي زرعتَ اسمه سداسيّاً في تصميم لوغو "المؤتمر الوطني العراقيّ" إنّ كل لحظة كرامة سياسيّة شيعية كنتَ أنتَ رأس حربتها، يا عالي الجناب، أيها الباشا الأنيق، لقد صنعتَ لنا صوتاً بعد أن مُلئتْ بنا صفحاتُ "مقاتل الطالبيين"، فالسلامُ عليكَ يوم ولدتَ في بيت عبد الهادي، ويوم عشتَ سيفاً أنيقاً ضدّ أقذر ديكتاتوريات الأرض، ويوم رحلتَ وجاورتَ إماماً معصوماً، ويكفي أنّ ذكرَكَ يُذلّ كلّ بعثيّ، وكلّ مَن قال "البساط الذي ندوسُ عليه لا نرفعه على رؤوسنا".
السلامُ عليكَ يا أحمد الجلبي، كلّما سمعتُ "أشهدُ أن علياً وليّ الله" في كلّ أزقّة العراق، ببركة ما فعلتَ. السلامُ عليكَ أبا هاشم.
الصورة: تُنشر لأول مرة.
تعليقات الزوار