بقلم رافاييل ب.ب. دوسون - ترجمة المعهد العراقي للحوار
نهاية التاريخ والعودة إلى الجغرافيا السياسية
تقرأ اليوم نظرية فرانشيس فوكوياما التفاؤلية حول "نهاية التاريخ" كقصة تحذيرية، مع وصولنا إلى حدود النظام الديمقراطي النيوليبرالي ومواجهة عودة الجغرافيا السياسية في عالم متعدد الأقطاب يزداد عدم استقرار.
في كتابه الصادر عام 1992 بعنوان نهاية التاريخ والإنسان الأخير، طرح فرانسيس فوكوياما واحدة من أكثر الفرضيات تحدياً وديمومة في مجال العلاقات الدولية. كانت لغزاً يبدو ساذجاً ومتفائلاً في وجه التقليد الواقعي الصارم—المتأثر بثلاثة صراعات كبرى في القرن العشرين—ومع ذلك كان ملحوظاً بحدة، حيث بدا أن سقوط الاتحاد السوفيتي المفاجئ وصعود النظام الديمقراطي الليبرالي الغربي يبشران بـ "السلام الطويل" الطبيعي بعد أعنف لحظات البشرية.

حين جاء "نهاية الفوضى المتراكمة" بعد الحرب الباردة مع يقين جديد حول انتهاء الصراع البشري الدائم، زرع أيضاً توقعًا بعودة هذا الصراع.
بالنسبة لأنصار فرضية فوكوياما، كان هذا اللحظة الأحادية القطبية المفترضة رؤية تقدم خطي مستدامة عبر مثلث الديمقراطية والتجارة والتداخل الاقتصادي. أما آخرون، فرأوا فيها تذكيراً بأسرنا في التاريخ وبمقدمة لنهاية النظام العالمي الحالي. إلا أن عودة التاريخ لا تعني تكراراً صارماً له. فبينما تنكر النظريات التفاؤلية احتمال ظهور تهديدات جديدة وتؤمن بأن العلاقات الدولية تمهد للسلام، تشير النظريات المتشائمة إلى عودة فترة مشابهة لما كانت عليه أوروبا بين الحربين العالميتين.
ما يُسمى اليوم بـ "عودة السياسة القائمة على القوة" لا تشبه صعوداً ألمانياً نحو المواجهة النظامية، بل تمثل تحولاً عن الوضع الراهن الغربي بقيادة الولايات المتحدة. النظام الدولي الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية أصبح اليوم شبه غير معترف به، بسبب صعود قوى ناشئة، وتحول الثروة والنفوذ الاقتصادي من الغرب إلى الشرق، وعولمة متزايدة، وقوى عبر وطنية، وتقارب في الفوارق بين الدول.
فشل فرضية "نهاية التاريخ" ينبع من افتراضين رئيسيين:
1. ضرورة اعتماد نظام ديمقراطي عالمي.
2. القبول العالمي لليبرالية كأساس للتقويم الأخلاقي للإنسان.
فشل النظام الديمقراطي
لكي تصمد فرضية فوكوياما، كان يجب أن تنتشر الديمقراطية والليبرالية في كل الدول. لكن هذا التقارب لم يحدث. بعض الدول، مثل الصين، تبنت جوانب من الليبرالية الاقتصادية دون اعتماد الحكم الديمقراطي، مما يثبت أن الارتباط بين الليبرالية والديمقراطية ليس طبيعياً ولا حتمياً.
حتى في الأماكن التي انتشرت فيها الديمقراطية الليبرالية، لم تظهر دائمًا تفوقها. في العقود الأخيرة، تفوقت بعض الأنظمة الاستبدادية على الديمقراطيات في مجالات التنمية الاقتصادية، والتماسك الاجتماعي، وإدارة الأزمات، مما يشكك في فرضية أن الديمقراطية الليبرالية هي النموذج الأكثر فعالية أو رغبة. اتضح هذا الفارق خصوصًا خلال الأزمات الاجتماعية؛ على سبيل المثال، كشفت جائحة كوفيد-19 أن بعض الأنظمة السلطوية كانت أكثر قدرة على اتخاذ إجراءات حاسمة وفعالة في أوقات الطوارئ العالمية. ومع تصاعد الأزمات العابرة للحدود—كالاحتباس الحراري، والتنافس على الموارد، والأوبئة، والتهديدات السيبرانية، والهجرة—قد تكون المرونة والقدرة على التكيف أهم من نوع النظام السياسي.
فشل المثل الليبرالي
تفترض نظرية "نهاية التاريخ" وجود أرضية مشتركة لتحديد الخير والشر—أي نوع من التقويم الأخلاقي العالمي. أولاً، فيما يخص النظام الديمقراطي الليبرالي، تفترض النظرية أن "الديمقراطيات لا تحارب بعضها البعض"، ما يعني أن العلاقات بين الدول يجب أن تكون دائماً بين دولتين ديمقراطيتين. لكن الأدلة تظهر أن الديمقراطيات كثيراً ما تدخل في صراعات مع دول غير ديمقراطية. تدخلات الولايات المتحدة في العراق والكويت وأماكن أخرى توضح أن الديمقراطية لا تضمن السلام. وهذا يعني أنه ما لم تتحول كل الدول إلى ديمقراطية، تبقى شروط منع الحرب غير محققة.
ثانياً، فكرة "التقويم السياسي" — الاعتقاد بأن الليبرالية تمثل نهاية أخلاقية مقبولة عالمياً — تفترض وجود إجماع يتجاوز الخلافات السياسية الأساسية. لكنها تغفل أن الحكم السياسي يتشكل دوماً من سياقات ومقايضات وصراعات على السلطة تختلف من مجتمع لآخر. تصور سياسة خالية من الصراع أو السلطة أمر غير واقعي كتصور وحدة عالمية تحت دين أو قانون أخلاقي واحد.
فشل النظام الديمقراطي النيوليبرالي الغربي
تصدير الديمقراطية وتغيير الأنظمة في الدول الاستبدادية زاد من النزعات الوطنية وأشعل الاستياء من التدخل الغربي. مثلاً، رغم أنهما رُوج لهما كتعزيز للديمقراطية، أدت الغزوة الأمريكية للعراق 2003 وتدخل الناتو في ليبيا 2011 إلى تأجيج مشاعر معادية للغرب، وزعزعة استقرار المناطق، وتعزيز مبادئ تقرير المصير والسيادة الوطنية. رداً على ذلك، باتت روسيا والصين تدافعان بشكل متزايد عن عدم التدخل مع التأكيد على السيادة الوطنية. استيلاء روسيا على القرم 2014 وصعود الحركات الوطنية العالمية يبرزان هذا الرفض للتدخل الأجنبي.
في الوقت ذاته، تراجعت مكانة المنظمات عبر الوطنية التي كانت أعمدة للحفاظ على السلام، مع توسع عضويتها لكن تآكل قدرتها على التدخل وحل النزاعات مع صعود الجنوب العالمي، مما هز شرعيتها. هذه المؤسسات الآن غالباً ما تؤدي أدواراً رمزية في إدارة النزاعات، مع فقدان الالتزام بالقانون وانهيار المبادئ التي كانت تدافع عنها. في دول الشمال، أثارت السلطات المتزايدة لهذه المؤسسات على الحكومات الوطنية اضطرابات سياسية واجتماعية، كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، مما أعاد تعزيز القومية والسيادة كقيم سياسية واجتماعية مركزية. تزايد التطرف في الأنظمة السياسية وزيادة عدم الاستقرار السياسي زاد من تفكك النظام الدولي، مع تعقيد دور الأحزاب اليمينية واليسارية المتطرفة للاستقرار الداخلي والتعاون الدولي.
الأبعاد الاقتصادية والاستراتيجية
اقتصادياً، رغم استمرار نمو الثروة العالمية، فقد أضعفت العولمة المفرطة الاستقرار الاقتصادي للدول الليبرالية. مع انتقال رأس المال إلى آسيا والمحيط الهادئ وتفكك سلاسل الإمداد، تواجه الاقتصادات الغربية دورات متزايدة من البطالة وتفاقم التفاوت وتآكل الطبقة الوسطى، مما زاد السخط الداخلي وخيبة الأمل من العولمة وردود الفعل الشعبوية.
استراتيجياً، أعاد المثل الليبرالي لعالم بلا حدود مترابط مالياً وتقنياً وسياسياً تعريف المساحات والمسافات في الشؤون العالمية. حيث كانت المسافات تمنع الصراع، أصبحت العولمة "تُقرب العالم"، مما جعل الحدود والأفكار والشعوب أقرب وأكثر عرضة للخطر. هذا الترابط، رغم وعوده بالانفتاح، كشف عن تهديدات جديدة داخلية وخارجية. مع تأكيد السيادة والهوية الوطنية في مواجهة المثل النيوليبرالية التقدمية، أعادت النزاعات حول الحدود والاستقلال الظهور كنقاط اشتعال رئيسية في الصراع الدولي.
تدهور أُطر الأمن الدولي
تدهورت أُطر الأمن التقليدية. تحل التحالفات العملية والمراوغات الاستراتيجية محل التحالفات التقليدية مثل الناتو والأمم المتحدة، التي كانت العمود الفقري للأمن الجماعي. يعكس ذلك تزايد عدم الثقة في آليات التوازن التقليدية. في الوقت نفسه، عادت سباقات التسلح النووي إلى الواجهة، مع تقدم الصين وروسيا في استراتيجيات الانتشار الرأسي للأسلحة، غالباً بطرق غير شفافة، بينما تقوض التقنيات الجديدة (كالأسلحة الفائقة السرعة وأنظمة الدفاع الصاروخي) الشفافية والردع. أصبحت البنية الأمنية المستقرة السابقة علامة على تقلب وتجزئة.
تصاعد صدام الحضارات
زادت هذه الديناميات من التنبؤ الذي طرحه صامويل هنتنغتون بـ"صدام الحضارات". تعمقت الانقسامات الأيديولوجية والبنيوية بين الشمال والجنوب، والغرب والشرق، والمركز والهامش. زادت الهجرة، وتغير المناخ، والفجوة الاقتصادية المتزايدة بين الأغنياء والفقراء من خطوط الصدع الثقافية والجغرافية السياسية. بدلاً من توحيد البشرية تحت نظام كوزموبوليتاني عالمي، زادت العولمة من تفكك الحضارات.
انهيار أسس النظام الدولي الغربي
الأسس التي كانت تُعتقد أنها تضمن السلام والتقدم تنهار تحت وطأة تناقضاتها. هذه الأزمات المتشابكة لا تعني فقط تراجع النظام النيوليبرالي بعد الحرب الباردة، بل تمهد لظهور تصور جديد للجغرافيا السياسية: عند تقاطع "الجغرافيا" (تغير المناخ، ندرة الموارد، التدهور البيئي) و"السياسة" (التحولات الديموغرافية، تراجع الديمقراطية، تجدد النزاع)، تتشكل واقع عالمي أكثر صراعًا وتعددية قطبية وعدم استقرار.
فشل الأيديولوجية النيوليبرالية الغربية
تبدو الأيديولوجيات التي روج لها النظام الغربي متخلفة عن التحولات النظامية الجارية.
وشجعت "نهاية التاريخ" المؤقتة التي أتاحت بها الهيمنة الأمريكية تراجعاً عن سياسة القوة التقليدية وظهور أطر نظرية تركز على العناصر الاجتماعية والإيديولوجية في المجتمع الدولي، مما أدى إلى نظريات تعكس التركيز على "ماهية" العلاقات الدولية: هياكلها، هوياتها، ومعانيها.
لكن غياب الحرب أُخذ كدليل على وجود السلام، فتم اعتبار السلام أمراً مفروغاً منه. هذا أطول فترة سلام دون مواجهة مباشرة بين القوى الكبرى غذت الوهم بأن الموارد والمصالح العالمية يمكن إدارتها كقطع شطرنج. السلام بعد الحرب العالمية الثانية بُني على فرضية أملية أن قواعد النظام الدولي الجديدة ستحمي البشرية من ماضيها العنيف—وهذا وهم يتفكك الآن.
تحديات جديدة تتطلب إعادة تفكير جذرية
فشل نظرية العلاقات الدولية في توقع سقوط الاتحاد السوفيتي يعد من أكبر ثغراتها. كما أن سقوط الاتحاد السوفيتي استدعى إعادة تفكير في العلاقات الدولية، نواجه اليوم تحوّلاً جذرياً جديداً يستوجب تحولاً عاجلاً وجاداً في كيفية مقاربة هذا الحقل لتجنب فشل تحليلي آخر.
هذه اللحظة تدعو إلى اليقظة من وهم السلام الدائم والاعتراف بأن "عودة التاريخ" قد تتحول بسهولة إلى "نهاية التاريخ" إذا فشلنا في استعادة جوهر السياسة والتكيف مع عودة الجغرافيا السياسية متعددة الأقطاب. وهذا يتطلب إعادة تعلم شاملة لكيفية دراسة وممارسة العلاقات الدولية. الثنائيات البسيطة بين الخير والشر، العدل والظلم، أصبحت إطارًا جوفاء وعديم الإنتاجية، خاصة عندما تكون الدولة الأكثر نجاحاً اقتصادياً نظاماً اشتراكياً استبدادياً، وعندما تحظى الأنظمة الاستبدادية بدعم شعبي مرتفع، وعندما تصبح الفروق بين أنظمة الحكم أقل تأثيراً على نتائج العلاقات الدولية.
منطق عملي ومرن
تخيل عالماً يمكن فيه للصين بناء علاقات وتعاون بين دول متباينة أيديولوجياً مثل إيران والسعودية، وفي الوقت نفسه الشراكة مع خصومها. العلاقات الدولية الحديثة تتشكل بشكل متزايد بمنطق براغماتي وتبادلي، مدفوع بالمصالح الاستراتيجية التي تخفف التوترات العميقة وتعكس اتجاهاً متزايداً: أعداء سابقون يشكلون شراكات جديدة تتقدم فيها المصالح على الأيديولوجيا والاستراتيجية على القيم.
المشهد الجيوسياسي المتصاعد
مع تلاشي رؤية هنتنغتون للديمقراطية العالمية وعودة الحروب في أوروبا والشرق الأوسط، تصبح مناطق استراتيجية مثل تايوان، بحر الصين الجنوبي، مضيق هرمز، الدائرة القطبية الشمالية، ونقاط الاختناق البحرية مثل مضيق ملقا وبنما أكثر تأميناً وتعقيداً في أزمات أمنية. تكشف هذه التطورات مجتمعة عن عدم صلاحية فرضية "نهاية التاريخ" وتؤكد الحاجة الملحة لأطر نظرية جديدة. الانتقال—وهو قد يحدث عبر الحرب—لم يعد مسألة "هل" بل "متى". فشل فرضية فوكوياما يكشف أن السلام غالباً ما يكون ظرفياً ومؤقتاً—فترة هشة من التوقف في دورة العنف المستمرة التي تبدو العلاقات الدولية ملزمة بها.
خلاصة
تماماً كما تخلق ظروف السلام ظروف الحرب، ومثلما مهد وهم "نهاية التاريخ" لعودتها، يجب أن نتحرر من فخ التوقعات المتذبذبة بين السلام والحرب. تحذير تشرشل بأن من لا يتعلم من التاريخ محكوم عليه بتكراره يغفل حقيقة أعمق: قد تكون البشرية محكومًا عليها بتكرار التاريخ سواء تعلمته أم لا.
التعلم وحده غير كافٍ؛ يمكن للنظرية الاستباقية والفهم الديناميكي الحساس للسياق أن تتدخل بشكل فعال في القوى المعقدة التي تشكل توازن النظام الدولي. لا يمكن للعلاقات الدولية الهروب تمامًا من التاريخ، لكن يجب أن تتجاوز الكبرياء الانتصاري لنظام ما بعد الحرب العالمية الثانية، وأن تركز على التغيرات العالمية في الخمسين إلى الخامسة والسبعين عامًا القادمة—من اضطرابات وظهور وإعادة ترتيب. وإذا أرادت العلاقات الدولية أن تبقى ذات صلة بالسياسة وليس مجرد اهتمام نظري، فعليها أن تساعدنا على التعامل مع مستقبلات متعددة محتملة، لا مجرد افتراض مستقبل واحد.
رافاييل ب.ب. دوسون
باحث دراسات عليا في جامعة بانثيون-سوربون في باريس، حاصل على درجة الماجستير من جامعة خرونينغن، وبكالوريوس في العلوم السياسية من جامعة كونكورديا. يختص في الأمن الدولي ودراسات جنوب شرق آسيا، ويركز بحثه على ديناميات القوة، التنافس بين القوى الكبرى، والاستراتيجية النووية. عمل كمساعد باحث في شراكة الأمن العالمي (PGS) في واشنطن العاصمة، وقسم الدراسات العليا في المدرسة العسكرية الفرنسية (DEMS). حالياً هو طالب دكتوراه في العلوم السياسية، يدرس تحولات القوى العالمية في عالم يتجه نحو تعددية القطبية بشكل متزايد.
المعهد العراقي للحوار الراعي اللوجستي لمعرض بغداد الدولي للكتاب يفتتح جناحه الخاص في المعرض
المعهد العراقي للحوار يصدر "الحقيبة الدبلوماسية" للدكتور كرار البديري
Official agreement between Iraqi Institute for Dialogue and the Iraqi Media Network to sponsor The Seventh Annual International Conference of “Baghdad Dialogue” 2025
استكتاب خاص بمؤتمر حوار بغداد الدولي السابع لكتابة أوراق بحثية
دعوة استكتاب في العدد (79) من مجلة "حوار الفكر"
إشادات بحوار بغداد الدولي: تعزيز دور العراق المحوري ونقطة التقاء للرؤى
رئيس الوزراء: طريق التنمية سيجعل العراق قوة اقليمية سياسة واقتصادية
تعليقات الزوار