ترجمة: المعهد العراقي للحوار
الوهم الأوروبي الكبير وبزوغ فجر السياسة الخارجية الواقعية
إنّ السياسة الخارجية الليبرالية للاتحاد الأوروبي، ولا سيما سياسة الجوار الأوروبية، قد فشلت فشلاً ذريعاً. فاليوم تدور في جوارنا المباشر حرب دموية لم يشهدها العالم بهذا الحجم منذ الحرب العالمية الثانية. مبادرة «الشراكة الشرقية» باتت مشلولة، واثنا عشر عامًا مضت من دون أي توسّع جديد للاتحاد الأوروبي – وهي أطول فترة ركود في مسيرة التكامل الأوروبي منذ نشأته. كما تدهورت علاقات الاتحاد مع بيلاروسيا وتركيا وجورجيا وأذربيجان إلى مستوى الأزمة، في حين دخل الاتحاد أيضاً في حالة من الصدام مع القوتين العظميين في عصرنا: الولايات المتحدة والصين.
تعود جميع هذه الأزمات إلى ظاهرة واحدة مشتركة: شمولية العقيدة الليبرالية في السياسة الخارجية الأوروبية وتخلفها عن الواقع. فمنذ انتهاء الهيمنة الليبرالية-الديمقراطية الأمريكية على النظام العالمي، فقد التيار الليبرالي قدرته على الحفاظ على النظام الدولي. وإذا كان الاتحاد الأوروبي يريد استعادة موقع يليق به على مائدة القوى الكبرى، فعليه أن يتبنّى سياسة خارجية واقعية، براغماتية وذكية.
تراجع الليبرالية وبداية عصر جديد من التعددية الدولية
لقد انتهى عصر الأحادية القطبية – النظام العالمي الذي صاغته الهيمنة المؤقتة للولايات المتحدة – ليحلّ محله نظام دولي متعدد الأقطاب أو متشابك البنى. ولم يحدث هذا التحوّل بين ليلة وضحاها، غير أن عام 2008 كان نقطة التحوّل الرمزية.
فالأزمة المالية العالمية زعزعت الثقة بالنموذج الأمريكي للرأسمالية الليبرالية، وتحول مركز الثقل الاقتصادي العالمي شرقًا نحو الصين، التي تمثل نموذج الرأسمالية المنظَّمة والمقادة من الدولة. ومنذ ذلك الحين، شهد توزيع رأس المال والسلطة عالمياً تحوّلاً جذرياً – أشبه بإعادة استقطاب جديدة: فقد تجاوز الناتج المحلي الإجمالي للصين (وفق مقياس تعادل القوة الشرائية) نظيره الأمريكي، وأصبحت دول «البريكس» تمثل نحو ثلث تجارة السلع العالمية، مقتربة بسرعة من حجم مجموعة السبع.
وحين فشل نظام التجارة الحرة العالمي القائم على الليبرالية الاقتصادية في الحفاظ على التفوّق الأمريكي – بل ساهم في تمكين المنافسين – شرعت واشنطن في إعادة صياغة جذرية لعلاقاتها التجارية الدولية. وبعد قرن من قيادة الاقتصاد الليبرالي العالمي، أعادت الولايات المتحدة تبنّي الحمائية الاقتصادية كأداة استراتيجية. وعلى الرغم من أن التحوّل الحاسم جاء خلال رئاسة دونالد ترامب (2016 فصاعدًا)، فإن كلًّا من الإدارتين الجمهورية والديمقراطية واصلتا هذا النهج الكبير، واتفقتا على تعطيل تعيين القضاة في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية، مما أصاب النظام التجاري العالمي بالجمود.
تحوّل في العلاقات الدولية
إلى جانب هذا التحوّل في ميزان القوى الاقتصادية، طرأ تحول موازٍ في هيكل العلاقات الدولية. فإلى جانب الأممية القانونية والمؤسساتية ذات الجذور الأوروبية-الأمريكية، برزت قوى معيارية جديدة تمثلت في أطر تعاون إقليمية أو «مصغّرة» مثل: مجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاي للتعاون، ومجلس التعاون الخليجي، ورابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان)، ومنظمة الدول التركية.
وقد تسارع «إعادة عولمة» العلاقات الدولية بشكل لافت خلال جائحة «كوفيد-19»، إذ كشفت تجربة منظمة الصحة العالمية عن التوزيع غير المتكافئ لموارد المؤسسات الدولية، ما عزّز في مختلف أنحاء العالم الدعوات إلى استعادة السيادة، وتبنّي الحمائية، والسعي نحو نظام عالمي أكثر عدالة. كما أن فشل اتفاق باريس للمناخ ترك أثراً عميقاً في الأجيال الشابة، التي أدركت أن الأطر المتعددة الأطراف التقليدية لم تعد قادرة على حل المشكلات الكونية الكبرى.
أزمة القانون الدولي للحرب
انهار كذلك جزء أساسي من النظام الدولي التقليدي: قانون الحرب الدولي. فقد استعادت أذربيجان أراضيها بالقوة ثم أنهت عمل «مجموعة مينسك» التابعة لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا. أما روسيا، فشنّت عام 2022 حرباً دامية على أوكرانيا، ثم انسحبت من معاهدة «السماء المفتوحة» ومعاهدة «ستارت الجديدة». وفي ظل هذا التصعيد، انسحبت خمس دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي – بولندا، ودول البلطيق الثلاث، وفنلندا – من معاهدة أوتاوا لحظر الألغام المضادة للأفراد.
لقد انتهى «السلام الأمريكي» في أوروبا، وفشلت مؤسسات حلّ النزاعات الدولية في أداء دورها. لقد دخلنا مرحلة من اللايقين المتصاعد، حيث تُعاد صياغة قواعد الاشتباك باستمرار. والاعتراف بهذه الحقيقة والتعامل معها بواقعية هو أمر مؤلم، لكنه وجودي بالنسبة لأوروبا إن أرادت البقاء فاعلاً في النظام العالمي الجديد.
الوهم الأوروبي الكبير
في عام 2018 نشر جون ميرشايمر كتابه الشهير «الوهم الكبير»، الذي يُعدّ من أكثر الانتقادات اقتباساً ضدّ السياسة الخارجية الليبرالية.
يرى ميرشايمر أنّ نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي أتاحا للولايات المتحدة تفوقاً اقتصادياً وعسكرياً عالمياً، مما أوجد نظاماً أحاديّ القطب هيمنت عليه الليبرالية في العلاقات الدولية.
كان الهدف من السياسة الخارجية الليبرالية الأمريكية هو تحويل أكبر عدد ممكن من الدول إلى ديمقراطيات ليبرالية، وبذلك تُفتح اقتصاداتها وأنظمتها السياسية أمام رأس المال الأمريكي وتأثيره السياسي. وقد انخرط الشركاء الأوروبيون لأمريكا، خصوصاً بريطانيا والاتحاد الأوروبي، في هذا المشروع.
وبهذا التوجه توسّع الفضاء الأوروأطلسي بسرعة عبر سياسة «تصدير الديمقراطية»: فخلال خمسة عشر عامًا بعد توحيد ألمانيا عام 1990، توسّع حلف شمال الأطلسي (الناتو) عشر دول جديدة؛ وبعد توسع 1999 في أوروبا الوسطى، انضمت ثلاث جمهوريات سوفياتية سابقة عام 2004، وبعد شهر واحد فقط، انضمت عشر دول من الكتلة الشرقية السابقة إلى الاتحاد الأوروبي.
لقد مكّن التفوق الأمريكي العسكري والاقتصادي الليبرالي كلا من الناتو والاتحاد الأوروبي من التوسع شرقاً، مما عزّز الإيمان الأوروبي بسيادة النموذج الليبرالي عالمياً. لكن ميرشايمر يؤكد أن هذه العقيدة الليبرالية بُنيت على وهمٍ محكوم بالفشل.
فشل العقيدة الليبرالية في مواجهة منطق القوة
رغم أن نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان أهداف نبيلة أخلاقياً، فإنّ هذا النهج المثالي يتجاهل منطق توازن القوى. فعندما تحاول دولة ليبرالية فرض نموذجها في منطقة توجد فيها قوى أخرى ذات أنظمة مختلفة، يصبح المشروع غير قابل للاستمرار.
وفي مثل هذه الحالات، تلجأ القوى الليبرالية إلى ممارسات واقعية (Realist) وتستخدم القوة الصلبة تحت غطاءٍ من الخطاب الليبرالي، لكن إن غاب الإدراك الواقعي، فلن يتبقى سوى أدوات ناعمة: العزلة الخطابية والعقوبات الاقتصادية، ووعود المؤسسات الديمقراطية والحقوق الطبيعية.
ويرى ميرشايمر أن هذه السياسة أصبحت غير قابلة للاستمرار عالمياً بعد نهاية الأحادية القطبية، خصوصاً في الحالة الأوروبية. فمشروع «أوروبا الموحّدة والحرة» – الذي يقوم على افتراض أن القارة ستتحول ديمقراطياً بشكل طوعي وتندمج كلياً في الفضاء الأوروأطلسي – كان من منظور الجغرافيا السياسية غير واقعي، لأن وجود قوى عظمى أخرى وأنظمة منافسة في الفضاء الأوروبي يجعل الصدامات حتمية ويقود إلى فشل السياسة الليبرالية.
من قمة بوخارست إلى حرب جورجيا
عام 2008، وهو العام الذي مثّل بداية أفول الأحادية القطبية، أعلن حلف الناتو في قمة بوخارست أن أوكرانيا وجورجيا مرشحتان للانضمام. آنذاك حذّر العديد من المسؤولين الأوروبيين، خصوصاً الألمان والفرنسيين، من أنّ روسيا – الخارجة من أنقاض الاتحاد السوفياتي – ما زالت تعتبر هذين البلدين ضمن مجال نفوذها المباشر، وأنها ستردّ بقوة على أي وجود عسكري أمريكي أو أسلحة في تلك المناطق.
وقد عبّر فلاديمير بوتين بوضوح عن موقفه حين قال في نيسان 2008 إنّ ذلك يُعد «تهديداً مباشراً». وبعد أشهر قليلة، في آب من العام نفسه، دخل الجيش الروسي إلى جورجيا، ثم اعترفت موسكو باستقلال أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، مما جمّد النزاع إلى أجل غير مسمّى وأوقف مسار اندماج جورجيا في المنظومة الأوروأطلسية.
مشروع «الشراكة الشرقية»: محاولة أوروبية لتصدير الديمقراطية
في العام ذاته (2008)، أطلق الاتحاد الأوروبي مبادرة الشراكة الشرقية كنسخة أوروبية من مشروع تصدير الديمقراطية. وبما أنه يفتقر إلى أدوات القوة الصلبة، فقد اعتمد على الوسائل الناعمة: تحسين الأنظمة القانونية والمؤسساتية، تعزيز الحوكمة الرشيدة، ودعم «الاندماج الاقتصادي والتقارب مع سياسات الاتحاد الأوروبي»، أي إعداد هذه الجمهوريات السوفياتية السابقة – بيلاروسيا وأوكرانيا ومولدوفا وجورجيا وأرمينيا وأذربيجان – لعضوية الاتحاد مستقبلاً. لاحقًا توسّع البرنامج ليشمل دعم الديمقراطية وحقوق الإنسان وسيادة القانون والاستدامة ومكافحة الفساد ودعم المجتمع المدني.
لكن النتائج جاءت مخيبة. فبحلول عام 2021 علّقت بيلاروسيا مشاركتها في المبادرة، وألغت أذربيجان تنسيقها السياسي مع الاتحاد بسبب مواقفه من حرب قره باغ عام 2020. أما جورجيا، التي كانت تُعتبر نموذج النجاح في سياسة الجوار الأوروبية حتى عام 2022، فقد جُمّد مسار انضمامها في عام 2024 بقرار من المجلس الأوروبي نفسه.
وفي أوكرانيا، تحوّل الالتزام الشعبي بالديمقراطية والانضمام إلى أوروبا إلى حربٍ مفتوحة، إذ لم تقرن أوروبا وعودها بواقعية جيوسياسية أو ضمانات أمنية – فغالبًا ما يسبق الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي عضوية الناتو، ما جعل الأجندة الليبرالية الأوروبية ضحيةً لسياسات القوة الروسية.
ولا تزال نتائج الحرب الأوكرانية غير محسومة، لتبقى كسيفٍ معلّق فوق رأس مولدوفا التي تتطلع إلى الانضمام للأوروبيين. أما أرمينيا فتبقى محاصرة بين تحديات جغرافية واقتصادية وأمنية تجعل آفاقها الأوروبية أكثر ضبابية من أي وقت مضى.
فشل السياسة الخارجية الليبرالية
لقد سعت الولايات المتحدة، على مدى العقود الثلاثة الماضية، إلى فرض نظام عالمي ليبرالي تحت قيادتها، مستندةً إلى افتراض أن الديمقراطية واقتصاد السوق الحرّ سيقودان إلى عالم أكثر استقراراً وسلاماً. غير أن هذا المشروع لم يحقق وعوده؛ إذ أدّت الحروب التي خاضتها واشنطن باسم نشر الديمقراطية إلى زعزعة استقرار مناطق بأكملها، كما حدث في العراق وأفغانستان وليبيا. ومع الوقت، تراجعت الثقة في نوايا أمريكا، وبدأت القوى الصاعدة — مثل الصين وروسيا — في تحدي هيمنتها، معتبرةً أن النظام الليبرالي العالمي مجرد غطاء لاستمرار التفوق الغربي.
وفي الداخل الأمريكي، ساهمت الحروب المكلفة والأزمات الاقتصادية في تصاعد النزعات الشعبوية، واهتزاز الإيمان بقدرة الولايات المتحدة على قيادة العالم. وهكذا، تحوّل ما كان يُفترض أن يكون نظاماً دولياً ليبرالياً قائماً على التعاون والقانون الدولي، إلى نظامٍ تُسيطر عليه المصالح الأحادية والازدواجية في المعايير، ما أدى في النهاية إلى إضعاف مكانة أمريكا نفسها في العالم.
المعهد العراقي للحوار الراعي اللوجستي لمعرض بغداد الدولي للكتاب يفتتح جناحه الخاص في المعرض
المعهد العراقي للحوار يصدر "الحقيبة الدبلوماسية" للدكتور كرار البديري
Official agreement between Iraqi Institute for Dialogue and the Iraqi Media Network to sponsor The Seventh Annual International Conference of “Baghdad Dialogue” 2025
استكتاب خاص بمؤتمر حوار بغداد الدولي السابع لكتابة أوراق بحثية
دعوة استكتاب في العدد (79) من مجلة "حوار الفكر"
إشادات بحوار بغداد الدولي: تعزيز دور العراق المحوري ونقطة التقاء للرؤى
رئيس الوزراء: طريق التنمية سيجعل العراق قوة اقليمية سياسة واقتصادية
تعليقات الزوار