ألكس فتَنكا من معهد الشرق الأوسط بواشنطن
هل تتعايش واشنطن وطهران في العراق أم يقترب الصدام؟
تضغط واشنطن من جديد بشدّة على بغداد للحدّ من مساحة تحرّك حلفاء إيران، عبر ربط العقوبات الجديدة وتصنيفات الإرهاب بخطاب دبلوماسي أكثر حزماً يطالب بنزع سلاح الجماعات المسلحة غير الخاضعة لسلطة الدولة العراقية.
وتقول الولايات المتحدة إنّ استقرار العراق بعد الحرب، والاستثمار الأمريكي، والتعاون في مجال الطاقة، وإمكانية الوصول إلى الدولار، كلها تعتمد على استعداد بغداد لكبح الجماعات الأكثر نفوذاً والمدعومة من إيران. لكنّ هذه الحملة تصطدم بمصالح أمريكية تربط واشنطن بالاقتصاد العراقي. فقد وسّعت شركات الطاقة الأمريكية الكبرى حضورها في قطاع الاستخراج ووقّعت اتفاقيات للغاز التقليدي والمسال، تهدف إلى معالجة أزمة الكهرباء المزمنة في العراق وتقليل اعتماده على واردات الطاقة من إيران.
ولا تزال عائدات النفط العراقي تمر عبر النظام الاحتياطي الفدرالي الأمريكي، وهو أداة ضغط بقدر ما هو قناة مالية لا ترغب واشنطن في استخدامها بطريقة قد تزعزع استقرار حكومة في بغداد تحتاجها للتعاون في مكافحة الإرهاب وإدارة ملفات المنطقة.
والنتيجة سياسة تجمع بين التهديدات والحوافز، وتحاول في الوقت نفسه تجنّب إرباك أسواق الطاقة العالمية أو الإضرار بالشركات الأمريكية العاملة في العراق. هذا التوازن سيزداد صعوبة مع دخول البرلمان العراقي المقبل في نقاشات حول الوضع القانوني والعبء المالي لهيئة الحشد الشعبي، وهي ساحة تتقاطع فيها خيوط المنافسة الأمريكية–الإيرانية الآن.
ما الذي تراهن عليه طهران في الانتخابات العراقية؟
بالنسبة لإيران، يمثّل العراق عمقاً استراتيجياً وملاذاً سياسياً وشرياناً اقتصادياً في آن واحد. وستحدّد نتائج انتخابات 11 نوفمبر والمساومات الائتلافية التالية من يمسك في بغداد بمفاتيح الموازنة، وتعيينات الأمن الداخلي، واللجان البرلمانية القادرة على تكريس أو تقييد استقلالية الحشد الشعبي المدعوم من إيران.
كما ستحدد ما إذا كان رئيس وزراء قادراً على إدارة العلاقة مع واشنطن سيبرز من دون أن ينفّر «الإطار التنسيقي»، وهو ائتلاف شيعي.
وأخيراً، ستقرر النتائج ما إذا كان السنّة والأكراد سيتمكنون من استثمار مقاطعة الصدريين للانتخابات لتعزيز نفوذهم في مفاوضات تشكيل الحكومة.
ستطالب طهران بحكومة يهيمن عليها «البيت الشيعي» التقليدي، لكنها ستتسامح بالتأكيد مع رئيس وزراء شيعي ينسّق مع الولايات المتحدة ودول الخليج أو حتى تركيا. بل إن مثل هذه الحكومة قد تكون مفضّلة بالنسبة لإيران لأنها تشكّل جسراً بينها وبين واشنطن والعالم العربي.
مع ذلك، تتوقع طهران التزام بغداد بخطوط حمراء واضحة " لا نزع سلاح شامل للفصائل الأساسية الموالية لها، ولا انخراط عدائي في سياسة العقوبات الأمريكية ضد إيران، ولا فتح الباب أمام عمل عسكري أمريكي أو إسرائيلي عبر الأراضي العراقية".
ولا تقل أهمية عن ذلك الحسابات المرتبطة بالعقود الحكومية وإمكانية الوصول إلى الدولار. فاقتصاد إيران الخاضع للعقوبات يعتمد على التجارة والقنوات المصرفية العراقية، ومسارات التوريد المشروعة وغير المشروعة.
أي برلمان عراقي يميل لفرض رقابة على تلك القنوات تحت الضغط الأمريكي سيُضيّق الخناق على إيران. أما برلمان يكتفي بسياسة «تمرير الوقت» فسيُبقي شرايين طهران مفتوحة. ومن هنا تمزج إيران بين الأيديولوجيا والبراغماتية: الحفاظ على الردع وشبكة الحلفاء في العالم العربي من دون استفزاز مواجهة مباشرة مع واشنطن على الأراضي العراقية، بينما لا تزال تتعافى من الضربات التي تلقتها هي ووكلاؤها منذ 7 أكتوبر 2023.
وتُظهر النتائج الأخيرة أنّ ائتلاف «الإعمار والتنمية» بزعامة رئيس الوزراء محمد شياع السوداني حصد أكبر عدد من المقاعد (46 من أصل 329). لكن الفوز بالأغلبية النسبية ليس سوى البداية، إذ قد تستغرق مفاوضات تشكيل الحكومة أشهراً وسط توترات أمريكية–إيرانية وخلافات ممتدة حول دور الفصائل المسلحة.
باختصار، الانتخابات لن تحسم الصراع الأمريكي–الإيراني بقدر ما ستُحدّد قواعد الموسم الجديد من المنافسة. وإذا انتهت إلى حكومة مألوفة، فستكون نسخة أكثر هدوءاً من الوضع القائم: إجراءات بيروقراطية أكثر… نيران أقل… وغياب أي تحوّل استراتيجي كبير.
هل يمكن لواشنطن وطهران التعايش في العراق؟
التعايش ممكن لأنّ بغداد وواشنطن وطهران تحتاج إليه أكثر مما تعترف به، ولا يتطلّب سوى قدر محدود من «التظاهر». فقد انتهج السوداني سياسة الإقناع مع فصائل الحشد لا المواجهة، مقلّصاً إطلاق النار عبر الحدود، ومؤكداً أن «الدولة هي من يجب أن يحمل السلاح».
وتريد واشنطن دمج تلك الفصائل في سلاسل قيادة مساءلة، أو على الأقل حصرها في المجال السياسي. أما إيران فتريد الحفاظ على خياراتها العسكرية داخل العراق، لكن ليس بطريقة تجرّ تدخلات خارجية أو عقوبات على خطوط الدولار التي تعتمد عليها بشكل كبير.
وقد أفرز هذا التقارب «تجربة إيرانية هادئة» داخل العراق: الضغط على فصائل مختارة لتخفيف مظاهرها العسكرية، وبناء أحزاب سياسية، والتغلغل في الوزارات والمحافظات. ليست عملية نزع سلاح بل «تحوّل شكل». بعض الفصائل سترفض لأن السلاح هويتها ورصيدها التفاوضي، بينما يمكن لأخرى — مثل منظمة بدر — أن تظهر بوجه مدني وتدير نفوذها عبر صناديق الاقتراع والميزانيات، بينما تضع جناحها العسكري تحت عباءة الدولة.
تحذيرات واشنطن تعقّد هذا المسار لكنها لا تنسفه. فقد أبلغ مسؤولون أمريكيون كبار بغداد أنهم سيردون على أي تدخل مسلح من قبل الفصائل رداً على عمليات أمريكية أو إسرائيلية في المنطقة. هذه التحذيرات تهدف إلى خفض المخاطر بعد الانتخابات وخلال تشكيل الحكومة، لكنها لا تجيب على سؤال طويل الأمد:
إلى أي مدى يمكن لواشنطن قبول أحزاب «السياسة أولاً والسلاح ثانياً» إذا بقيت استراتيجياً جزءاً من المحور الإيراني؟
هل يمكن للفصائل أن تصبح أحزاباً سياسية؟
سيبقى التعايش قائماً ما دامت تلك الجماعات تتجنب الإحراج العسكري، وما دام الردع الإيراني يعتمد أكثر على الصواريخ والهندسة السياسية داخل بغداد بدل الهجمات الصادمة. وإذا أساء أي طرف قراءة الآخر — إيران تظن أن هامشها أكبر مما هو، أو واشنطن تظن أن العقوبات يمكنها «إعادة هندسة» السياسة العراقية — سيحدث الانهيار.
وإذا انهار التعايش، يتوقع الإيرانيون أن تتخلّى واشنطن سريعاً عن «المجاملات». فهي ستتسامح مع «استيعاب» فصائل الحشد في وزارات الدفاع ما دامت هادئة ومنضبطة، لكنها سترد بقوة عندما تتدخل تلك الفصائل في عمليات أمريكية أو إسرائيلية، سواء بمضايقة الأصول الأمريكية أو بمحاولة توسيع المواجهة الإقليمية. حينها تتوقع طهران ردّاً أمريكياً انتقائياً: ضربات دقيقة، تصنيفات إرهاب إضافية، تشديد القيود على الدولار، ورفع القيود عن الهجمات الإسرائيلية داخل العراق.
بمعنى آخر: واشنطن تتقبل «قناع الاندماج» إلى أن يتحوّل إلى عبء، ثم تنتقل إلى المعاقبة لا المجاملة.
هذا ما يفسّر مساعي إيران لدفع كبار الفصائل نحو السياسة والإدارة، والإبقاء على أدوات ردع احتياطية. طهران تعتقد أن واشنطن لن تطيح بالاقتصاد العراقي أو المصالح الأمريكية بسبب ملف الحشد وحده، لكنها ستصعّد فوراً إذا تجرّأت الفصائل. لذلك تفضّل إيران مسار «السياسة أولاً» في بغداد، واستخدام الصواريخ للرسائل الإقليمية فقط: الحفاظ على النفوذ بأقل كلفة وبلا ذريعة تمنح واشنطن سبباً لفتح مواجهة كبرى.
الفصل المقبل للحشد الشعبي… ولماذا سيستمر النفوذ الإيراني؟
تقع السيناريوهات المستقبلية للحشد على طيف مألوف، لكن مركز الثقل يميل إلى «المنطقة الرمادية». قد تقبل الولايات المتحدة ومعها الكثير من القوى السنية والكردية باستمرار «صيغة الامتصاص» داخل وزارات الدولة، لكن هذا سيُبقي السيادة العراقية منقوصة والدولة في الواقع تحت تأثير الحشد.
وتبدو طهران مطمئنة إلى أن حلّ الحشد بالكامل أمر غير واقعي. المسار الأقرب هو «مأسسة جزئية»: تدقيقات بشرية تدريجية، دمج محدود لبعض الألوية،رقابة مركزية أشد على الميزانية، ومكافآت سياسية للقادة الذين يضبطون مقاتليهم.
قد تؤدي الضغوط الخارجية إلى تجميد تعديلات قانونية واسعة، لكن ذلك لن يغيّر الواقع: فالحشد متجذّر في الحوكمة المحلية، واللوجستيات، والعقود، وشبكات المحسوبية. نزعه يعني تفكيك جزء من بنية ما بعد داعش.
وتفهم إيران ذلك جيداً. حتى لو أجرت بغداد تنازلات رمزية — تجميد مشروع قانون أو تغيير قائد بارز — ستظل طهران قادرة على الحفاظ على نفوذها عبر طبقات متراكبة من البدائل: أحزاب قديمة ذات حضور وطني، تشكيلات ثانوية قادرة على التنقّل بين العمل العسكري والسياسي، وجيل جديد من «الوجوه النظيفة» يتحدث بلغة الدولة.
عملياً، يعني ذلك انتقالاً من صورة «المقاتل» إلى «المسؤول»: استبدال الصواريخ باجتماعات الميزانية، والاستعراضات العسكرية بالاجتماعات الإدارية.
ومع تردد الولايات المتحدة في استثمار موارد ضخمة لمواجهة النفوذ الإيراني، يبدو المسار الواقعي هو الاحتواء لا التفكيك: مكافأة الوزارات التي تتحسن إدارتها، وربط الوصول إلى التمويل الأمريكي بخطوات تقيّد حجم وتأثير المكوّنات المسلحة تدريجياً.
وفي كل الأحوال، سيستمر النفوذ الإيراني على المدى القصير — عبر القنوات السياسية والبيروقراطية — فيما تختبر واشنطن قدرتها على تقليص مساحة تحرّك الحشد باستخدام أدوات الدولار، والعقود، وبرامج تدريب القوات النظامية.
التعايش، على ما يبدو، يبقى الخيار العقلاني لجميع الأطراف. لكنّ الخطر يكمن في أن كل طرف، مقتنع بأنه قادر على انتزاع ميزة في مرحلة ما بعد الانتخابات، قد يدفع العراق نحو العودة من السياسة إلى السلاح.
المعهد العراقي للحوار الراعي اللوجستي لمعرض بغداد الدولي للكتاب يفتتح جناحه الخاص في المعرض
المعهد العراقي للحوار يصدر "الحقيبة الدبلوماسية" للدكتور كرار البديري
Official agreement between Iraqi Institute for Dialogue and the Iraqi Media Network to sponsor The Seventh Annual International Conference of “Baghdad Dialogue” 2025
استكتاب خاص بمؤتمر حوار بغداد الدولي السابع لكتابة أوراق بحثية
دعوة استكتاب في العدد (79) من مجلة "حوار الفكر"
إشادات بحوار بغداد الدولي: تعزيز دور العراق المحوري ونقطة التقاء للرؤى
رئيس الوزراء: طريق التنمية سيجعل العراق قوة اقليمية سياسة واقتصادية
تعليقات الزوار