المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

محمد ماهر – رئيس الوفد السوري

بداية، اتوجه بالشكر للدكتور همام وللدكتور ئارام نائبي رئيس مجلس النواب والفريق العامل في منتدى الحوار لهذا المؤتمر الذي اعتقد انه خطوة استباقية وايجابية في جمع القواسم المشتركة التي تؤهل ابناء العراق من اجل ان يتوحدوا بالاتجاه الذي يذهب بهم ليستعيدوا المكانة اللائقة بهذا العراق الذي نعتز به. وقد سعدنا بدعوتكم للمشاركة في هذا المؤتمر لمناقشة مختلف الرؤى السياسية والاقتصادية والاجتماعية  لعراق ما بعد داعش باعتبار ان ما يجري في المنطقة بشكل عام وفي سوريا والعراق يتشابه الى حد التطابق بالمعاناة التي تعيشها شعوب المنطقة من تداعيات هذا الفكر الهدام الذي  لم ينتج عنه الا كل خراب وقتل وتشريد ودماء طالت الجميع من ابناء المنطقة وخاصة في سوريا والعراق على اختلاف انتماءاتهم الدينية والفكرية والمذهبية والاثنية والانسانية  الأمر الذي يستدعي توحيد الرؤى والجهود والمساعي بين شعوب ودول المنطقة من اجل القضاء على هذا الفكر المتخلف وتداعياته الكارثية على الانسان والاوطان.

ماذا بعد داعش..؟ من أجل مواجهة اي ظاهرة أو مشكلة لابد من فهمها فهما متضمنا للاحاطة باسباب نشوئها واهدافها وآليات عملها، وهذا ما ينطبق على داعش وامثالها من الجماعات واشباهها من التكوينات كظواهر سياسية لها ابعادها السياسية والمعرفية:

أولا مفاهيم ذات اختصاص، غير أننا وقبل الحديث في مرحلة ما بعد داعش وأمثالها يجب التعريج ولو بايجاز على بعض المفاهيم القرآنية التي لا غنى عنها من اجل الفهم الصحيح للظاهرة والعمل السديد في مواجهتها وتحصين الامة من الوقوع باسرها. ومن أهم هذه المفاهيم القرآنية هي مفاهيم النصر والفتح والتمكين. النصر والفتح مفهومان غير مترادفين كما تثبت ذلك اللغة وكما استعملهما القران الكريم في اكثر من مورد ومقام؛ فأما النصر فهو في اللغة العون والعطاء كما في قوله تعالى: “إننا لننصر رسلنا والذين آمنوا”. وأما الفتح فهو الكشف والبيان وازالة الاغلاق والاشكال وهو نوعان: مادي، كما في قوله تعالى: “ولما فتحوا متاعهم..” في سورة يوسف، ومعنوي كما في قوله تعالى: “ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين”.

فاذا انتقلنا بعد التحليل اللغوي لهذين المفهومين الى  التناول القرآني لهما، وجدنا ان القران الكريم يستخدم هذين المفهومين في مقام التقابل والتكامل، كما في قوله تعالى: “نصر من الله وفتح قريب”، وكما في قوله: “اذا جاء نصر الله والفتح”. النصر بناء على دراسة المفاهيم القرآنية للنصر والفتح سواء استخدمها القرآن جميعا معطوفة على بعض في سبيل التقابل أو استخدم كل واحد منهما مفردا فإننا نصل الى تحديد دلالة كل منهما بما يلي:-

أما النصر فهو الغلبة المادية والظهور على العدو بفعل قوة، وأما الفتح فهو الغلبة والظهور بالفكر وسيادة الرؤيا واحقاق المنهج. وىيات هذا الفهم وعلاماته في القرآن كثيرة ومن أظهرها قوله تعالى: “إنا فتحنا لك فتحاً مبينا” إذ وردت هذه الاية وما قبلها في سياق الحديث عن صلح الحديبية الذي لم يكن نصرا بمنطق القوة العسكرية أو بناء على معطيات ميدان المعركة ، لكنه كان فتحا بسيادة المنهج والفكرة الاسلامية التي فرضت نفسها في صلح الحديبية حتى على قريش أعتى أعدائها.

وبناء على منطق التغاير والتكامل والتطابق ما بين الفتح والنصر نقول: إن النصر من غير فتح وظهور هو ظهور مادي أجوف وغلبة ميدانية موقوتة، وأما الفتح من غير نصر فهو نهج ضعيف الأثر عديم التأثير. لابد من مفهوم التمكين بالللغة الذي له ارتباط بالمكان ، وهو مصدر للفعل “مكن” بتشديد الكاف وهو التشديد الذي ينقل الفعل من اللزوم الى التعدية، فالتمكن والتمكين سيادة أو تسييد على المكان ، أي على الحيز الذي يحتوي الانسان المتمكن. والتمكين في القرآن أولاً وجودي يشير الى سنة الله الناجزة والمتحققة في تسييد النوع الانساني، فالانسان طالما هو ممكن على الارض “ولقد مكناكم في الارض وجعلنا لكم فيها معايشا قليلا ما تشكرون”. أما التمكين الحضاري في هذا السياق يعني تحقيق النصر والفتح معاً، وهو بالتالي تمكين غير متحقق بقوة الجعل الالهي كقوة التمكين الوجودي بل هو مشروط ومعلول وجوده باقامة النصر والفتح جميعاً. فلا وجود للتمكين مع فقدان احداهما ومشروط باستمرارهما.

ثانياً، في مواجهة داعش وأخواتها، تأسيساً على ما سبق نقول: أن مواجهة داعش والتأسيس لمرحلة ما بعدها ينبغي ان يلاحظ مفاهيم النصر والفتح والتمكين ، ومادام حديث مؤتمرنا يدور حول مرحلة ما بعد النصر فلن نتعرض الى مقومات تحقيق هذا النصر عسكرياً. إن كمال الغلبة والظهور على داعش وأخواتها من فروع الشجرة الملعونة لابد له من تحقيق الغلبة المعنوية بمجيء الفكرة الحقة واستقرار المنهج القويم عبر اقتناع الناس عقلا بهذا المنهج واطمئنانهم قلبا اليه، وايمانهم بان ذلك سبباً لصلاحهم ونمائهم ، ومثل هذا المجيء سوف يحقق  وبلا شك زهوقاً نهائياً للباطل الذي يحاول التلبيس على الناس وادخالهم في دائرة الشبهات التي تجعلهم يتوهمون هذا الباطل بانه حق وصدق.

فمما لا شك فيه ان داعش واخواتها لا تحمل فكرا حقيقياً لأن الفكر ثمرة للعقل الذي هو الخاصة الانسانية ومحال للتفكير ان يثمر قتلا وتدميرا كمثل ما انتجته داعش. وأذا اردنا اعوصيفا وتحليلا لما فعلته داعش فهو انها حولت الدين الى رابطة قبلية جاهلية ولم تر فيه ان يتسامى الانسان عقلا وتفكيرا  ومدارج العدالة الشاملة والرحمة الواسعة . وفي هذا الاطار نفهم حرصهم على تحطيم الحدود القائمة بين الدول تحطيما لا يبتغي لم الشمل وتوحيد الارض ولكن تشتيت الناس والاوطان وهذا ما تجلى في اثار ما فعلوه بشكل لايحتاج الى برهان  فدمرت بذلك المفاهيم الوطنية الجامعة وانكفأ الانسان الواقع تحت سيطرة هؤلاء  الى مآوي ما قبل تفكير الامة الجامعة  كمقل حال قبيل البعثة المحمدية الشريفة حيث الجهالة سيدة الموقف والأخذ بزمام البشر فلا مفر إذن من أجل المحافظة على البقاء إلا أن يرتمي الانسان في حضن داعش أو احدى أخواتها مغلق البصيرة أعمى القلب أصم الأذن الواعية.

تعمدت داعش وامثالها تحديد العدو وتعريفه بشكل لايقترب من العدو الحقيقي للامة الذي هو الصهيونية ودولتها الصنيعة اسرائيل ، وفي ذلك مصلحة مشتركة مع ذلك العدو ، وان اسم الدولة الاسلامية الذي اتخذوه لانفسهم وربطوه باقذر الافعال واشنعها ليس إلا لمستقبل تنشد اسرائيل فيه أن تكون الدولة  اليهودية التي يعترف العالم كله على أنها كذلك ، ولليهود وحدهم حق دون غيرهم كما تسعى داعش لتكون دولة للمسلمين دون غيرهم أمام هذا العالم الذي يتوهم ذلك.

بناء على هذا التوصيف الموجز لعمل داعش نحاول الان تحديد بعض مفردات المنهج الذي نسعى لتطبيقه في مرحلة ما بعد داعش.. لتحقيق الفتح المبين في إثر النصر المؤزر الذي ننتظره في الموصل لنكمل احتفال انتصارنا في حلب:

أولا- ينبغي علينا أن نعمل على تعزيز المواطنة الصالحة، بناء يقترن فيه العمل مع العلم. فلقد أظهرت هذه المرحلة خللا جسيماً في تصور الانسان العربي والمسلم خاصة لهذا المفهوم، وتخلفا كبيرا في ميدان الالتزام العملي لمقتضيات المواطنة. فالبحث الفلسفي العلمي لهذا المفهوم لم يعط حقه بشكل يوضح ابعاده التي تدعو الى توحيد المجتمع باتحاه مصلحة العام على الخاص. كذلك الحذر من ربط المواطنة بالانتماءات ، حيث ان انتماء المواطنة يعلو على كل الانتماءات الأخرى.. أيضا تأسيس عمل الاحزاب والمنظمات على أنها معاهدة لبناء المواطن الصالح وتكريس المواطنة الصالحة في الدرجة الاولى وليست مجرد أدوات لحيازة المنفعة والتوصل الى السلطة ، ووجوب تنظيم العلاقة بين الانتماء الوطني والديني. بالاضافة الى اعادة قراءة النصوص الدينية بشكل واعٍ واقرارها للناس عامة. أن الاصل في العلاقة هو التعاون والرحمة والتواصل والتواد وأن الحرب طائة لا تأتي إلا بضرورة ملجئة.

ثانياً- إن الاختلاف في التأويل والفهم ضمن حدود الدين الواحد وما يترتب عليه من مذاهب ومجال سلوكي وكلامي وغير ذلك إنما هو اختلاف  يدل على مرونة هذا الدين واحترامه لعقل الانسان وتقديره للاجتهاد البشري في تحقيق غايات الرسالة الالهية ، وان كل دعوة لحصر الرأي ضمن فكر أو مذهب أو مرجعية سالفة أو لاحقة إنما هي دعوة خاطئة لأنها تدعي الاحاطة بكل المقاصد الالهية وتزعم اغلاق ابواب العطاء الذي يمكن ان يجود به كتاب الله وسنة رسوله.

ثالثاً- فهم المشيئة الالهية التي عبر عنها القرآن الكريم وتفهيمها للناس على ان الناس مختلفين الى يوم القيامة الى اديان متباينة وان المرجع الوحيد للحكم بينهم الى الله وحده كما قال القرآن الكريم .

رابعاً- وجوب تعريف العدو الحقيقي للامة الساعي في خرابها وتدميرها وهو الكيان الصهيوني، اسرائيل الباغية من غير شك، وتوجيه كل الطاقات والامكانات لمواجهة مشروعها العنصري الذي تريد أن تحقق به فتحاً ظالماً. ونود التأكيد على أن مقاومة هذا العدو لاتنصب على الجانب المادي بل ينبغي ان تكون شاملة لجميع الجوانب.

ان الحرب الضروس القائمة الان في سوريا والعراق ماهي إلا بسبب مكانتهما الاساسية في محور المقاومة للمشروع الصهيو- أمريكي الساعي لبسط نفوذه على  شعوب ودول المنطقة، وإن العراق وسوريا هما في قلب جسد المقاومة. والمطلوب إذن هو إعادة بناء هذا البدن بما يضمن سلامة أداء دوره ويتكامل مع باقي مكونات الجسد الواحد، وإن مسؤولية القيام بهذا الفعل لا تقع على العراق وحده أو على سوريا وحدها ، بل هي مسؤولية يتشارك فيها جميع أطراف محور المقاومة، لذلك ينبغي وضع الرؤى والخطط والحلول الناجعة بشكل مشترك سواء في العراق أو في باقي دول المحور.. ولعل هذا الملتقى يصب في هذا الاتجاه وينبغي تعميمه في باقي أطراف هذا المحور.

هذه بعض مفردات المنهج الذي ينبغي العمل على اقامته في الارض ليتكامل الفتح مع النصر وليتحقق التمكين الحضاري الذي هو وحده العصمة لنا من الوقوع مرة أخرى في براثن وحشن أشد فتكاً من داعش وأخواتها…

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته…

اترك تعليقا