المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

بعد وصفه بـ”الصبور والهادئ”.. بوتين ينتقل من وضع أزمة زمن الحرب مع أوكرانيا

بدا الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متوتراً وغاضباً خلال الأيام الأولى من هجومه على أوكرانيا، إذ قضى أياماً طوالاً بعيداً عن الساحة العامة، وهدد الغرب بالضربات النووية، بل وصبّ غضبه على المناهضين للحرب، ووصفهم بـ”الحثالة”. لكن يبدو أن الغرب شاهد بوتين الجديد يظهر في يونيو/حزيران بمظهرٍ يشبه صورته ما قبل الحرب، حيث بدا هادئاً، وحليماً، وواثقاً من نفسه، كما تصف ذلك صحيفة New York Times الأمريكية، فما الذي تغيّر؟

يوم الأربعاء 29 يونيو/حزيران، نُشرت مشاهد لبوتين وهو “يتبختر” مبتسماً بطول مدرج مطار مشمس في تركمانستان، ليخلع سترة بدلته قبل أن يدلف إلى سيارته الليموزين المصفحة روسية الصنع، ويتوجه بعدها إلى اجتماع قمة دول بحر قزوين الخمس.

وتُعتبر الرحلة أحدث خطوات تحول بوتين الأوسع، الذي بدأت معالمه تتضح في الأسابيع الأخيرة؛ إذ يُبرز تحوله خروجاً من وضعية أزمة الحرب وعودةً إلى هالة “الزعيم الأبوي الهادئ”، الذي يحمي الروس من أخطار العالم الخارجي، بحسب وصف “نيويورك تايمز”، ما يُشير إلى أن بوتين يرى أنه نجح في إضفاء الاستقرار على جهود الحرب والاقتصاد والنظام السياسي وحتى الاقتصادي، بعد إخفاقات روسيا العسكرية الأولية وسيل العقوبات الغربية.

وتنقل الصحيفة الأمريكية عن عباس غالياموف، كاتب خطابات بوتين السابق، في وصفه لمنظور الرئيس: “مرّت الصدمة الأولية وتبين أن الأمور ليست سيئةً للغاية”.

لكن التغيير الذي طرأ على بوتين وخطابه ولغة جسدة يوضح أيضاً أنه بدأ يعود لـ”غرائزه القديمة” في محاولةٍ لإخفاء المخاطر التي لا تزال وشيكة، ومنها أوكرانيا التي لا تُظهر أي علامات على الاستسلام، وحلف الناتو المتوسع والمتحد، والهدوء على الجبهة الداخلية التي لا تزال تعاني من تداعيات العقوبات والآثار المترتبة على الحرب من موتٍ وخراب.

وأوضح غالياموف، الذي يعمل مستشاراً سياسياً حالياً: “يُدرك بوتين أن شرعيته تعتمد على كونه قوياً ونشيطاً، وعلى التحرك وتحقيق النصر. أما الشلل والغياب عن الساحة العامة فهما أشبه بالموت بالنسبة له، ولهذا استجمع شتات نفسه وبدأ يحاول فعل ذلك الآن”.

بوتين يعود إلى حالته الطبيعية التي كانت قبل الحرب
وتمحورت أهم رسائل بوتين في الأسبوع الجاري حول فكرة أن عزلة روسيا العالمية ليست شاملة، وأنه ليس قلقاً بشأن وعود قمة الناتو التي أكّدت على دعم أوكرانيا وتقوية الجناح الشرقي للحلف.

وتُعتبر رحلة بوتين إلى آسيا الوسطى بارزةً، لأنها أول مرةٍ يغادر فيها بلاده منذ بداية الهجوم، في 24 فبراير/شباط، ولأنه كان يتخذ إجراءات استثنائية أثناء الجائحة. وبعد سفره إلى دوشنبه في طاجيكستان يوم الثلاثاء 28 يونيو/حزيران، للقاء رئيس البلاد إمام علي رحمن، قضى بوتين ليلته هناك في أول مرةٍ يبيت فيها خارج حدود روسيا، منذ يناير/كانون الثاني عام 2020.

وفي يوم الأربعاء، طار بوتين إلى تركمانستان لحضور اجتماع قادة الدول الخمس المحيطة ببحر قزوين، وبينها أذربيجان وطاجيكستان وإيران. وحملت القمة أهميةً عملية لأن روسيا تحاول بسط نفوذها في تلك المنطقة الحيوية اقتصادياً والغنية بمصادر الطاقة، مع محاولة سد فراغ السلطة الذي خلّفه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان القريبة.

لكن القمة حملت أهميةً رمزية أيضاً لجمهور بوتين داخل بلاده، لتقدم صورةً مقسمة على شاشتين للنشاط الدبلوماسي والقوة الناعمة الروسية، بالتزامن مع عقد قمة زعماء الغرب في مدريد.

وعقد بوتين مؤتمراً صحفياً قصيراً بعدها، أكّد فيه مرةً أخرى على أنه ليس في عجلةٍ من أمره لإنهاء الحرب. وترى تاتيانا ستانوفايا، خبيرة الكرملين المخضرمة التي تقيم في فرنسا، أن ظهور بوتين المستمر مؤخراً يمثل أحدث نسخةٍ من تأرجحه المعتاد بين فترات النشاط الخاص المكثف وفترات النشاط العام المكثف.

إذ يلتزم بوتين الصمت لأسابيع خلال فترات الضغط الشديد، كما فعل قبل الهجوم في الشتاء، عندما لم يتحدث عن أوكرانيا علناً لأكثر من شهرٍ كامل، وقضى عدة أيام دون الظهور أمام الكاميرات في أكثر من مناسبة.

لكن بوتين يستطيع في حالات أخرى أن ينطلق في سلسلةٍ من الفعاليات المتحررة وفقاً لمعايير الكرملين، كما فعل الشهر الجاري، عندما قضى 90 دقيقة على الأقل في جلسةٍ مع رواد الأعمال الشباب بأحد مجالس المدن، ثم ظهر بعدها بأسبوع لقرابة الأربع ساعات على المسرح في منتدى سانت بطرسبرغ الاقتصادي الدولي.

وقالت تاتيانا عن بوتين: “يحتاج إلى معرفة ردود الأفعال بعد خطواته الصادمة والصاخبة للغاية، إذ يبدأ في الظهور علناً، والانفتاح، والحديث بصراحةٍ أكبر وبشكلٍ نشط، وكأنه يخرج إلى الشمس لرؤية ما فعله على أرض الواقع”.

شخصية تاريخية تخوض مهمة كبيرة لإعادة أمجاد روسيا
تقول نيويورك تايمز إن عزلة بوتين تضخمت بفعل الجائحة، وجاءت مصحوبةً بـ”نوبات غضب ومظالم واضحة” -سواء كانت عفوية أو مقصودة- موجهة إلى الغرب. ويمكن القول إن لغته المنذرة بالشؤم، وتسليم الأسلحة الغربية إلى أوكرانيا، والإخفاقات الروسية في أرض المعركة، دفعت بالعديد من المحللين إلى استنتاج أن بوتين ربما يفكر في استخدامٍ محدود للأسلحة النووية التكتيكية بغرض إجبار الغرب على الخضوع.

لكن بوتين هدّأ حدة تهديداته وعاد إلى الشخصية العامة الأكثر هدوءاً مؤخراً. وفي حديثٍ جانبي داخل مجلس المدينة شبّه الزعيم الروسي معركته بحروب غزو الإمبراطور بطرس الأكبر في القرن الـ18، ليوضح بجلاء أنه يرى نفسه شخصيةً تاريخية تخوض مهمةً على مدار سنوات من أجل استرداد أراضي روسيا ومجدها المفقود.

ولم تتحقق التوقعات بأن يُعلن بوتين الحرب رسمياً، أو أن يُدشّن عملية تعبئةٍ عسكرية. كما أن الخطوات الغربية التي وصفها المسؤولون الروس بالعدوانية، مثل ترشيح أوكرانيا للاتحاد الأوروبي ودعوة السويد وفنلندا لحلف الناتو، لم تثر أي ردود فعل انتقامية من جانب بوتين.

بل يبدو أن استراتيجيته تعتمد على الانتظار لرؤية ما ستؤول إليه الأمور، متوقعاً انهيار العزيمة الأوروبية تحت الضغط الاقتصادي واستسلام حكومة فولوديمير زيلينسكي الأوكرانية، بالتزامن مع قصف روسيا لقواتها ومدنها. وترى تاتيانا أن بوتين يعيش نوعاً من الانفراجة في نظرته إلى واشنطن، مع إدراكه أن الرئيس الأمريكي جو بايدن يضع حدوداً على حجم مساعداته إلى أوكرانيا لتجنب اندلاع صراعٍ أكبر. وأوضحت تاتيانا: “يراهن أن سلطات كييف ستتقبل الوضع الراهن بالكامل مع الوقت”.

لكن هذا النهج يأتي مع مخاطر كبيرة بالتأكيد، كما تقول الصحيفة الأمريكية، مشيرة إلى أن “افتراض بوتين الواضح بأن الأوكرانيين سيرحبون بالروس كمحررين يكشف عن فهمه الخاطئ لأوكرانيا. أما داخل روسيا، فلا تزال تداعيات العقوبات الغربية مستمرة. وقد أكّد وزير الاقتصاد مكسيم ريشتنيكوف على هذه النقطة عندما حذر في يوم الأربعاء من أن قوة الروبل غير المتوقعة تهدد قدرة المصدّرين الروس على المنافسة”.

ورغم ذلك لم يذكر بوتين أوكرانيا أو مواجهته مع الغرب خلال خطابه الذي امتد لثماني دقائق في تركمانستان، يوم الأربعاء، في دلالةٍ أخرى على تصويره لمظهر عودة الأعمال إلى طبيعتها. وتحدّث بدلاً من ذلك عن الجهود الروسية لتحسين النقل والسياحة في المنطقة، وحل مشكلة التلوث وتدهور مصايد الأسماك. وقال إن أول سفينة سياحية ستنطلق في بحر قزوين من منطقة أستراخان الروسية على ضفاف نهر الفولغا العام المقبل، وستحمل اسم بطرس الأكبر.

اترك تعليقا