المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

تقرير: العراق يشق طريقه بصعوبة نحو الإندماج الإقليمي

في أوائل مارس، أعلنت إيران والمملكة العربية السعودية أنهما توصلتا إلى اتفاق لإعادة العلاقات الدبلوماسية وإعادة فتح سفارتيهما، برعاية الصين، التي كثفت في السنوات الأخيرة من مشاركاتها السياسية مع الحكومات في الشرق الأوسط، لتثير دهشة العديد من المراقبين.

ومع أنّ الصين غابت فعليًا عن حفل توقيع الاتفاقية في بكين، ألا أنّ العديد من المسؤولين العراقيين الحاليين والسابقين احتفوا بهذه المناسبة ، والتي كانت جهود بغداد فيها حاضرة لتحرز خطوات حسنة نحو التقدم.

وردًا على نبأ الاتفاق، كتب علي المعموري، مستشار رئيس الوزراء العراقي السابق مصطفى الكاظمي، أنه على الرغم من التوصل إلى اتفاق بين السعودية وإيران وتوقيعه في بكين، فإن “المفاوضات بين البلدين قد بدأت من العراق”.

فقد سعى العراق لتخفيف التوترات بين طهران والرياض، فمن الناحية الجغرافية يملك العراق حدودًا مشتركة مع كلا البلدين، وقد بدأت محاولات الوساطة بين الجانبين ابتداءً من عام 2019، عندما كان الكاظمي رئيسًا للمخابرات العراقية، واستمرت حتى بعد أن أصبح رئيسًا للوزراء في العام التالي.

 واستضاف العراق اجتماعاتٍ حضورية لمسؤولين سعوديين وإيرانيين في بغداد، وبلغت ذروتها في قمة بغداد متعددة الأطراف في عام 2021.

وتعكس مبادرة التوسط الدبلوماسية بين المملكة العربية السعودية وإيران جهود العراق المكثفة لإعادة حضوره والبرهنة على تأثيره في الجوار الإقليمي. وقد حاولت بغداد ولعدة سنوات والتي امتدت لعدة إدارات، إعادة الدمج الإقليمي بين العراق وجيرانه وعدّت هذه الخطوة أولوية رئيسة ، محاولة فيها تجاوز الآثار التي خلفتها سياسة العداوات الإقليمية والتي انعكست سلبًا على المستوى الداخلي للعراق.

فعلى سبيل المثال، بلغت التوترات بين الولايات المتحدة وإيران ذروتها في عام 2020 باغتيال الجنرال قاسم سليماني – قائد فيلق القدس الإيراني آنذاك – في مطار بغداد، تبعتها عمليات الرد على الهجمات التي شنتها الجماعات المسلحة المتحالفة مع إيران على أهداف ومصالح الولايات المتحدة في العراق.

كما أدى تصاعد العنف بين جيران العراق إلى إعاقة قدرة بغداد على فرض الأمن والاستقرار في جميع أنحاء البلاد بعد سنوات من الصراع، وإلى جانب هذه الرغبة، منع العراق من أن يكون ساحة معركة للمنافسة الجيوسياسية، وينظر قادة الحكومة في بغداد إلى التكامل الإقليمي كوسيلة لتنويع شراكات العراق الاقتصادية بعيدًا عن اعتماده على إيران.

وأحرزت المحاولة التي تبناها العراق لكسب الثقة بصفته وسيطًا إقليميًا وبطلًا للتكامل تقدمًا ملموسًا، بدءاً بجهوده الخاصة لإصلاح العلاقات التي بدأت تخبو روابطها مع المملكة العربية السعودية. فقد انقطعت العلاقات بين بغداد والرياض لسنوات عديدة بسبب مخاوف المملكة من أن عراق ما بعد صدام قد أصبح دولة يهيمن عليها الشيعة بميول إيرانية، بحسب رؤيتهم للأوضاع في العراق.

وفي إطار السعي لعودة العلاقات، ففي عام 2017، سافر رئيس الوزراء العراقي آنذاك حيدر العبادي، إلى الرياض للقاء العاهل السعودي الملك سلمان، مما يشير إلى رغبة مشتركة بين البلدين لنزع فتيل التوترات في علاقتهما. وفي نفس العام، قام رجل الدين العراقي مقتدى الصدر ووزير الداخلية العراقي آنذاك قاسم الأعرجي برحلات خاصة إلى الرياض في محاولة لإصلاح العلاقات، وكانت زيارة الأعرجي جديرة بالملاحظة بسبب العلاقة الطويلة بين منظمة بدر وطهران.

وكان الغرض من هذا التواصل هو إقناع جيران العراق في الخليج بأن بغداد يمكن أن تطور سياسة خارجية مستقلة لا تخضع لإيران. وبعبارة أخرى، لن تنحاز الحكومة التي يهيمن عليها الشيعة في بغداد طوعًا إلى جانب طهران.

كما عبّر الشيعة العراقيون صراحةً عن معارضتهم لأن يصبحوا وكيلاً لإيران خلال حركات الاحتجاج الشعبية التي قامت عامي 2015 و 2016 في بغداد وجنوب العراق، حيث هتفت جماهير العراقيين “إيران بره بره!” في مظاهرات شعبية حاشدة، وأضرموا النيران في القنصليات الإيرانية المتواجدة في جميع أنحاء العراق. وأدت الشعارات التي أطلقها الشيعة العراقيون ضد جارتهم ذات الأغلبية الشيعية إلى تعقيد الرواية البسيطة لـ “الهلال الشيعي” لدول المنطقة التي تدعم إيران خلال النزاعات الإقليمية.

ومع أن الخطوات التي اتخذتها بغداد للتوسط في الحوار في الشرق الأوسط جديرة بالثناء، فإن مصداقية العراق كوسيط إقليمي ما زالت تتعرض للتقويض بسبب سياساته الداخلية غير المستقرة.

إضافة الزخم إلى هذا الجهد، يعود لحقيقة تدركها النخب السياسية في العراق وهي الفوائد الكبيرة التي يمكن أن يوفرها هذا التكامل الإقليمي. وقد بادر حلفاء إيران في العراق – بمن فيهم رئيس الوزراء السابق نوري المالكي وزعماء الجماعات الشيعية شبه العسكرية التي تشكل قوات الحشد الشعبي – للسعي من أجل مزيد من التكامل الإقليمي لتعميق علاقات بغداد مع جيرانها الآخرين إلى جانب طهران، كما يتضح من زيارة الأعرجي للرياض.

أما على الصعيد الاقتصادي، فتستفيد النخب العراقية من وصول البلاد إلى الأسواق المالية وقدرتها على ممارسة التجارة بالدولار الأمريكي المحظور على إيران نتيجة العقوبات الأمريكية على برنامج طهران النووي. علاوة على ذلك، يمنح هذا الوصول للعراق نفوذاً مؤثرًا في المفاوضات مع جارته الأكثر قوة. وبنفس الطريقة، فإن تحول العراق إلى الظل الإيراني من شأنه المقامرة بمصيره وتحويله إلى دولة منبوذة، مما قد يعرض هذه الفوائد للخطر.

ومن الناحية السياسية، تشتد الآراء بين النخب الاجتماعية وبين النخب القومية المعارضة للتدخل الإيراني المتصور في الشؤون الداخلية للبلاد. فتجدهم يضغطون بشكل متزايد على قادتهم السياسيين لدفع أجندات مستقلة تتعارض مع التصور التقليدي بأنّ بغداد هي وكيل إيراني.

وقد سعى الكاظمي عند وصوله إلى السلطة في عام 2020، إلى مواصلة هذا المسار. وقد صرح علنًا وفي مناسبات عديدة، أن العراق لا يمكن أن يصبح مستقرًا إلا إذا توقف عن الاعتماد على شريك واحد – ومن المفهوم على نطاق واسع أنه يشير إلى إيران – وسعى بدلاً من ذلك إلى تطوير نظرة إقليمية أكثر. وكان الدور الذي قدمته إدارة الكاظمي في التوسط في المحادثات بين إيران وجيرانها الخليجيين دليلاً على التزامه بهذا الهدف.

وتعود جذور المبادرة إلى الرسائل السرية بين طهران والرياض التي أرسلتها أجهزة المخابرات العراقية عندما كان يرأسها الكاظمي، والذي استفاد من العلاقات الناتجة للتوسط في سلسلة من الاجتماعات السرية بين المسؤولين السعوديين والإيرانيين. ونتجت عن هذه الحوارات عقد قمة بغداد  عام 2021، عندما انضم وزيرا خارجية إيران والمملكة العربية السعودية إلى الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي والعاهل الأردني الملك عبد الله الثاني وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني وشخصيات أخرى لمناقشة كيفية تحسين العلاقات و تهدئة التوترات والصراعات الإقليمية.

ثم تعطلت المفاوضات لاستغراق الأحزاب الحاكمة في العراق عامًا كاملاً لتشكيل الحكومة بعد الانتخابات البرلمانية في أكتوبر 2021. وخلال تلك الفترة، تصاعد العنف في مناسبات متعددة، بدءًا من محاولة اغتيال الكاظمي، وهجمات صاروخية على مواقع متعددة في أربيل، تلاها اقتحام أنصار الصدر للمنطقة الخضراء في بغداد .

ونتيجة لكل ذلك خيّم القلق على مجرى المفاوضات بسبب تصاعد العنف والفوضى السياسية في بغداد خلال فترة ما بعد الانتخابات، والتي راقبها شركاء العراق الإقليميون بقلق من بعيد، حتى قرروا وقف الحوارات. وحاول الكاظمي طمأنتهم عن طريق زيارة كل من جدة وطهران في يونيو 2022 لإحياء المحادثات بين إيران والسعودية والتحضير لاجتماع ثنائي آخر. لكن هذا الاجتماع لم يبصر النور، وبعد بضعة أشهر، أُختير محمد شياع السوداني بديلًا عن مصطفى الكاظمي رئاسة الوزراء.

وقد أعرب السوداني عن أمله في استضافة قمة بغداد الثانية. وعندما انعقد التجمع بدلاً من ذلك في العاصمة عمان، اعتبره الكثيرون انعكاسًا لكيفية استمرار عدم الاستقرار السياسي في تقويض تطلعات العراق ليكون وسيطًا إقليميًا قويًا. حتى انتهى الأمر بالصين إلى التوسط في ذوبان الجليد الدبلوماسي بين إيران والمملكة العربية السعودية، والتي زرع العراق أولى بذرات الوساطة بين البلدين.

الدرس المستفاد لبغداد هو أن تعزيز فعالية السياسة الخارجية للعراق ومكانته الإقليمية مرتبط بشكل جوهري بسياساتها الداخلية. بدلاً من التركيز فقط على السياسة الخارجية وتهميش التحديات المرتبطة بشؤونها الداخلية، وينبغي لأي رئيس وزراء عراقي يطمح لأن يكون وسيطًا إقليميًا السعي لتحقيق الاستقرار في الداخل أيضًا.

الباحث: ريناد منصور/ زميل أبحاث أول ومدير مشروع مبادرة العراق مع برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد تشاتام هاوس.

اترك تعليقا