المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

ما بعد نهاية التاريخ

بعد ثلاثين عامًا من صدور كتاب فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ” المُثير للجدل، أصبح في مدارك الجميع، ومنهم مؤلف الكتاب الذي بين يدينا، أن دعوة فوكوياما لم تتحقق. فبعد انهيار المعسكر الاشتراكي لم يستمر العالم بتوازن القطب الأوحد الذي مثلته العولمة الليبرالية فترة طويلة ولم يرُم استقرارا على حالته الأحادية، إذ تخطى العالمُ فعلياً عتبة التغيرات الكبيرة وألغى التصورات الفوكويامية لمستقبل البشرية. فما هي الآفاق التي انفتحت أمام هذه البشرية بعد “نهاية التاريخ” ولاسيما في المجالين الاجتماعي والاقتصادي؟ ما هي بدائل التنمية لدينا في ضوء المستجدات الأخيرة (الأزمة المالية ووباء الفيروس التاجي) – حول هذه الأسئلة يدور حديث الأكاديمي والاقتصادي الروسي البارز سيرجي جلازييف في كتابه “ما بعد نهاية التاريخ” الصادر مؤخرًا.

لا ينطلق المؤلف في نظرياته من اليوتوبيا بل يحدد بحثه على أسس علمية، اقتصادية في المقام الأول، مشيراً إلى فشل العلوم الحديثة في شرح الأحداث الجارية وتنبؤ تطوراتها المستقبلية وهذا بزعمه عائدٌ إلى أنَّ العلوم الاجتماعية الحديثة تعيش أزمة عميقة بعد أن تخلت عن مبدأ الحقيقة. يقول الكاتب: “إنَّ التحليل العلمي مستلبٌ من قِبل المضاربين، والاقتصاد غارق في تبرير التوزيع السائد للدخل والثروة أما علم الاجتماع فيُستغل لتعزيز ثقة السلطات بنفسها. لقد تحول التاريخ تمامًا إلى خيال غير علمي لتلفيق الأساطير حول الحضارات غير الموجودة وذلك لتبرير أعمال السلطة من قبل النخب المحلية (…) القادة السياسيون لا يستشرفون المستقبل ويقتصرون على حلول المهام التكتيكية الملحة للاحتفاظ بسلطتهم وذلك مع ما يتضمنه هذا من عواقب وخيمة على البلدان والشعوب. اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، يتحتم علينا امتلاك الفهم الجوهري للمجريات الحالية حتى نرى المجالات الواعدة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية ومن أجل تحليل النتائج طويلة الأمد لقراراتنا المتخذة” (13).

تستند توقعات سيناريو التغيرات المستقبلية، التي يقدمها المؤلف، على النظرية الأساسية للتنمية الاقتصادية طويلة الأمد والتي تنطوي على تبديل الهياكل التكنولوجية والاقتصادية العالمية. يذكرنا المؤلف بأن النظرية هي الوحيدة القادرة على كشف أسباب التطور غير المتكافئ وغير التدريجي للاقتصاد وتشرح بشكل مُستمر الأزمات الهيكلية والكساد بل وأسباب الحروب العالمية أيضًا. ترتبط هذه الأسباب بحالة الجمود في إعادة إنتاج الأنظمة التقنية والاقتصادية من جهة والاجتماعية والسياسية من جهة أخرى. ويتم تحديد إيقاع الأولى من خلال دورة حياة الصناعات ذات الصلة بالتكنولوجيا. أما الثانية فيتم تحديد إيقاعها عبر ديناميكيات إنتاجية النخبة الحاكمة في البلدان المهيمنة والتي تسعى جاهدة لفرض هيمنتها العالمية والحفاظ عليها في إطار النظام الاقتصادي العالمي الراهن. تتجلى هذه الإيقاعات في موجات الظروف الاقتصادية الطويلة التي تدوم نصف قرن والتي اكتشفها العالم الروسي كوندراتييف، وأيضا في دورات المئة سنة لتراكم رأس المال وهي من اكتشاف العالم الإيطالي جيوفاني أريجي. كما يخلص جلازييف إلى أن تضافر هذه الإيقاعات يوفر صورة معقدة للتحولات التكنولوجية والاجتماعية التي تحدث بشكل دوري ومرة كل قرن ومن شيمها أنها تفتح فرصًا جديدة للتنمية. وفي مثل هذه اللحظات المصيرية للوجود البشري من المُهم للغاية محاولة النظر إلى ما وراء الأفق المرئي طلباً للتنبؤ بالمخاطر العالمية والسيناريوهات المحتملة وبذل كل ما في الوسع لتحييد التهديدات القاتلة والدخول في مسار مستدام للتنمية الاجتماعية والاقتصادية.

الفصل الأول من الكتاب مكرس لتنبؤات الحد من هيمنة النظام العالمي القائم، حيث يتطور العالم لصالح الأوليغارشية المالية الأمريكية والشركات العابرة للوطنية التي تسيطر عليها. لكن مع بداية الأزمة العالمية التي اندلعت في عام 2008، الأمر الذي لم يكن متوقعاً للفكر الاقتصادي الغربي، بدأ تراجع القوة الأمريكية، وهو ما تحاول النخبة الحاكمة في الولايات المتحدة إيقافه بإطلاق العنان لحرب عالمية هجينة. فعلى الرغم من عدم جدوى هذه الحرب، يتزايد العدوان الأمريكي حول العالم جنبًا إلى جنب مع المخاطر العالمية التي يتجاوز تهديدها الأسواق العالمية. إن الفوضى تتسع في الولايات المتحدة نفسها، حيث تتطور الأزمة الاقتصادية إلى أزمة اجتماعية سياسية. بالإضافة إلى ذلك، في عام 2020، ووسط تفشي الوباء، طرأ انهيار في رسملة السوق للنظام المالي العالمي – وهو الأعمق منذ انهيار السوق المالية في عام 1929، المعروف باسم الكساد الكبير. لم تستطع المؤسسات الرسمية المسؤولة عن التنبؤ الاقتصادي على المستويين الدولي والوطني التنبؤ بهذه الأزمة ولم يحذر منها التيار الرئيسي للفكر الاقتصادي. لقد كان الأمر مفاجئا مثلما كان انهيار الاتحاد السوفياتي والنظام الاشتراكي مفاجأة للسياسيين وعلماء الاجتماع السوفييت. الخلاصة أن الفوضى المتزايدة في الولايات المتحدة والصعود الواثق لجمهورية الصين الشعبية لا يتوافقان مع الأفكار والتوقعات المعتادة وهنا يتقدم الباحث الروسي برؤيته المستقبلية الخاصة.

الفصل الثاني مخصص للأنظمة المؤسسية في الصين والهند واليابان وكوريا وفيتنام وماليزيا إذ يراها الباحث تشكيلات مركزية جديدة لتنمية الاقتصاد العالمي وضمانة لمستقبل مستقر ومزدهر لسكانها، فهي تركز على المصالح العامة لمختلف الفئات الاجتماعية وبناء الشراكة الفعالة بين رجال الأعمال والدولة. العكس منها نجده لدى البلدان التي تصدر عملات عالمية وتطبع جزءًا كبيرًا من الأموال للتصدير كما وتدعو إلى حرية حركة رأس المال عبر الحدود؛ في حين تفرض البلدان التي تشهد تطورا ملحوظا في ظل النظام العالمي الجديد قيودًا صارمة على تصدير رأس المال، مما يحميها، كما يشير الاقتصادي جلازييف، من تشنجات النظام المالي العالمي. إنهم يسمحون بالاستثمارات الأجنبية دون قيود ويطلقون يدها للعمل وفق قواعد معينة تصدّ هجمات المضاربة على العملة الوطنية والسوق المالية المحلية. مع ذلك ينبه جلازييف من “أن إعادة إنتاج الرأسمالية، وعلى الرغم من كل القيود المفروضة على دولة الرفاهية، تستمر في زيادة تركيز الثروة والسلطة بأيدي كبار الرأسماليين الذين يتحولون إلى الأوليغارشية العالمية. أما الدول ذات النظام الاقتصادي المتكامل التي تحدد تكديس رأس المال الخاص بما يتوافق مع المصالح العامة والتي تشهد نموًا اقتصاديًا فائقًا فلا يمكن إلا أن تستدعي معارضة الأوليغارشية العالمية. إن عدم توافق بلدان النظام المتكامل مع مصالح الأوليغارشية العالمية هي سبب اندلاع الحرب العالمية الهجينة في السنوات الأخيرة” (33) وقد يتحتم علينا انتظار ما هو أشد وأقسى. وفي هذا الصدد يطرح الكاتب الأسئلة التالية عن الأوليغارشية العالمية: ماذا يمكن أن تكون نتيجة انتصارها؟ وما هي آفاق التنمية الاجتماعية والاقتصادية في حالة هزيمتها؟

على الرغم من كل الآمال التي يعقدها الباحث ببلدان الاقتصاد المُتكامل، ومن أن الصين والهند وغيرهما من الدول الصاعدة تمنع التهام رأس المال الأجنبي لمؤسساتها الإستراتيجية، يرى المؤلف دولاً أخرى قد تشكل مواردها في المستقبل القريب حاوية لرأس المال الأمريكي وتضمن له الحياة لدورة ثانية. من بينها الدول الجديدة التي ظهرت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي والتي خضعت لسيطرة الولايات المتحدة نتيجة للثورات الملونة التي اجتاحتها، ومن بينها أيضاً دول الشرق الأوسط وأمريكا اللاتينية وإفريقيا التي تعتمد مالياً على الولايات المتحدة ولديها ثروة وطنية كافية لإعادة توزيعها لصالح الرأس المال الأمريكي ما يمكن أن يمنح هذا الأخير نفساً جديدًا.

يؤكد الباحث أن روسيا أيضاً تقع ضمن هذه الدول. ويحذر جلازييف من أنه ومع البقاء على السياسة الاقتصادية الحالية في روسيا، علينا أن نتوقع أنه “في مواجهة الزيادة الحادة في عجز الميزانية ونضوب الاحتياطيات ستلجأ الحكومة الروسية وكذلك الشركات الحكومية الكبيرة إلى الاقتراض الخارجي الهائل من البنوك الغربية. وفي مواجهة العقوبات سيطالبون بضمانات وتعهدات بأسهم الشركات المختصة في التصدير. وحتى الآن يعمل في الكثير من مجالس إدارة هذه الشركات وكلاء أجانب” (68). ولا يجد جلازييف مفرا من هبوط سعر صرف الروبل بسبب التلاعب بالعملة والسوق المالية وخفض قيمة الأصول الروسية من قبل المضاربين الدوليين لتعود الأموال الأمريكية بعدئذ إلى الأسواق من أجل شرائها. ويتوقع المؤلف جولة قادمة لإعادة توزيع الأصول الروسية لصالح رأس المال الأجنبي وتعزيز سيطرته على الاقتصاد الروسي. ومن بين التوقعات للمستقبل القريب، وفقًا لجلازييف، سيأتي عام 2024 بذروة العدوان الأمريكي على روسيا. ومن المثير للاهتمام أن العام نفسه سيشهد أيضًا التغيير المفترض في الدورة السياسية الروسية فيما يتعلق بالانتخابات الرئاسية القادمة.

لا يتطرق الكتاب للجانب الاقتصادي لتطور مستقبلنا فحسب، بل أيضًا إلى البنية الاجتماعية للمجتمع والتي “سيتم بناؤها لتلبية احتياجات الأوليغارشية الرأسمالية العالمية وستتألف من طبقة متميزة من السياسيين والصحفيين والخبراء والمحامين والممولين الذين يخدمون مصالح الجهاز القمعي لهياكل السلطة وأصحاب الدخول وذلك إلى جانب البريكاريا وهم العمال الذين يمتلكون وظائف مؤقتة أو يعملون بدوام جزئي. وسيشكل الأخيرون غالبية السكان ولهذا سيدعم السادة المهيمنون صناعة الترفيه وتجارة المخدرات وإشراك وسائل الإعلام من أجل تحييد طاقتهم الاجتماعية” (68).

وفي تأملاته حول الاقتصاد يتوصل المؤلف إلى القضايا الإنسانية العالمية التي لا يمكن إلا أن تسبب القلق كما وتحيلنا على مسألة ما بعد الإنسانية. نتذكر في هذا السياق رفض دعاة الإنسانية الحديثة الفكرة المسيحية القائلة بالنقص الأخلاقي للإنسان فأعلنوا أن الإنسان طيب بطبيعته وأن ظروفه الاجتماعية الخارجية غير المواتية تمنعه ​​من إظهار هذه الطبيعة. لذلك، ومن أجل تغيير الإنسان، دعوا إلى تغيير العالم من حولنا كما اهتموا بالجمال الخارجي للإنسان وليس روحه. وهكذا أصبحت الأنثروبولوجيا الإنسانية مصدرًا لأفكار ما بعد الإنسانية والتي استمرت في تطوير الأفكار حول تحسين الفرد بوسائل خارجية، متجاوزة إرادته وقيمه الأخلاقيه. ولا تعتبر أيديولوجية ما بعد الإنسانية نفسها ملزمة بأي قيود تجاه الثقافة التقليدية فهي تبدأ بإنكار القيم الدينية الخالدة وتنتهي بإنكار الشخص نفسه.

 

ويشير الكاتب إلى أنه “يتم اليوم تهيئة الظروف للتحول التدريجي إلى حالة ما بعد الإنسانية. محاولات لإطالة العمر من خلال تقنيات الخلايا وتجديد الأنسجة وزرع الأعضاء والرغبة في استنساخ الأنواع وهوايات تحسين النسل وحالات المتحولين جنسياً، كل ذلك يلاقي تأييدا علنيا أو مضمرا من قبل النخب الحاكمة في بلدان الغرب ما يشهد على انتكاسة في الأخلاق. إن الرقابة الصارمة على ولاء المجتمع شاهد على ظهور وعي ذاتي مؤلّه لدى الأوليغارشية الرأسمالية. ففي تاريخ البشرية، وخاصة في المجتمع التقليدي، كان تأليه الملوك والديكتاتوريين أمرًا شائعًا. لكن، وللمرة الأولى في تاريخ البشرية، لا يحدث تأليه النخبة الحاكمة على أسس دينية أو أيديولوجية، بل من منطلق أنانية لا حدود لها؛ أنانية تُظهر قدرتها المطلقة على الخروج على القانون المجتمعي” (72). ويخلص الباحث إلى أن الأمر: “يفتح الطريق لولادة جديدة لما بعد الإنسانية البشرية مقرونة بعواقب لا يمكن التنبؤ بها.”

 

الكتاب: ما بعد نهاية التاريخ

المؤلف: سيرغي جلازييف /أكاديمية ومستعربة روسية

دار النشر: بروسبيكت / موسكو/ 2021

اللغة: الروسية

عدد الصفحات: 416

اترك تعليقا