المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

جاذبية العنف.. حين يعتاد المجتمع على التطرف

ناقشت نظرية المعرفة عند جون لوك ركيزتين اساسيتين ارتكزت عليهما مسيرة البشرية، هما: “ما الذي يجعل الأفكار المبررة مبررة، وكيف نعلم أننا نعلم؟”، لكن وهم المعرفة قاد في النهاية إلى تساؤلات أكثر دهشة: هل يمكن للإنسان أن يألف الشر، كيف أصبحت الأفكار المتطرفة مبررة ومشروعة، هل يمكن للمتطرفين بمختلف توجهاتهم أن يشكلوا طائفة يحتمون بها، أمِن الممكن أن يكن الفرد شريراً لكن كيف للمجتمع أن يصبح شراُ اجتماعيا؟.

الزومبي البشري

في العام ١٩٧٢، تحديداً في جبال الانديز في أميركا الجنوبية، تحطمت طائرة مدنية تقل أربعين لاعباً من فريق اولد كريستيانز لرياضة الركبي، الأمر الذي أدى إلى مقتل ٢٩ راكباً من أصل الأربعين على متن الرحلة، كان آنذاك الموسم شتاءً وامتاز بعواصف ثلجية وطقس صعب الاحتمال وليس هذا هو الأسوأ في الحكاية.. الأسوأ حين وافق الجميع – أفراد الفريق الناجون- بلا تردد على مقترح أحدهم بأن يأكلوا جثثهم زملائهم الموتى من أجل البقاء على قيد الحياة، بعد أيام تم إنقاذهم من هذه الحادثة بتسيير طائرات وفريق إجلاء متمرس وكانت هنا المحطة الأكثر سوءًا وبشاعة، حال هبوط طائرة الانقاذ أصيب الطيار بالذعر من مشهد الأشلاء والذئاب البشرية التي التهمت بعضها البعض وبالمقابل أصيب الناجون أيضاً بدهشة نتيجة انذهال الطيار؛ معتبرين أن ما حدث مُبرراً ولا داعِ للدهشة، وأن ما حصل سجية بشرية فحسب لا أكثر.

يقول الكاتب الارجنتيني انطونيو بورشيا: “كل شيء على الأرض كان عادلاً معي، سوى شبيهي، الإنسان”.

وهم الحرية

فلسفة الحرية لا تعني أن تتمتع بها فحسب إنما أن تمنحها للآخرين وتعترف بهم، وهذا ما يميز الحرية عن القيود والاستلاب، إذ وصف هذا التصور جان جاك روسو في كتابه أصل التفاوت بين الناس: ” يولد الإنسان حراً، لكنه في كل مكان يجر سلاسل الاستعباد”. ما يعني أن هناك وهما يسمى الإنسانية أو الحرية خاصة في المجتمعات غير المستقرة؛ لذلك حين يخرج السجناء من السجون يبقون حاملين للقضبان الرمزية ومعتنقين شخصية الجلاد، والسبب أن الإنسان دائم البحث عن القدوة وحين لا يجدها فأنه يقتدي بالاقوى أياً كان شكله، والأقوى بلا منازع في هذا المشهد هو الجلاد.. إذ عاش العراقيون سجناء حتى اللحظة في سجن كبير جداً، هذا السجن الكبير هو الوطن، وقد وصفه الشاعر السوري ادونيس: “أقسى السجون تلك التي لا جدران لها” قاصداً الوطن في ظل الديكتاتوريات والأنظمة الشمولية والطائفية حين يتحول إلى سجن كبير.. ‏في هذا السجن لا يكون التعبير عن الرأي والمعتقد بالحوار إنما بآلات الإنسان البدائي من الصراخ والحجر وعصا الشجرة..  يقول سعيد ناشيد في كتابه (التدين العاقل):  “من يملك الدليل العلمي لا يرفع صوته، ومن يملك الدليل العقلي لا يرفع قبضته، ومن يملك الدليل المنطقي لا يرفع سيفه، وحده من لا دليل له يحتاج إلى رفع الصوت والقبضة والسيف”.

الوجه البريء للشر

“لماذا اعدموني” كانت هذه الكلمات الأخيرة لسيد قطب حين نطق القضاء المصري بحقه حكم الإعدام، فهو حتى لحظة الإدانة والحكم كان يرى في مرآة نفسه وجهاً بريئاً، ولعل هذه الحالة تناسلت حتى باتت في الحاضر وجهاً مجتمعياً لا وجهاً لفرد فحسب.. الوجه البريء للشر هو ذلك الوجه المجتمعي الذي تسوده ملامح عنف قانوني، إذ يعتقد -مجتمع الوجه البريء للشر-  أن للجماعات قانونها الخاص وهذا القانون يسير بخط متوازٍ مع القانون الوضعي ويدور معه حيث دار، وأن له الحق ان يكن قاضياً وسجاناً على الآخرين بحكم الوصاية في سماء القانون المُتلبدة بحكم الغوغاء، مشكلاً بذلك مجتمعاً قطبياً – على شاكلة سيد قطب -، المجتمع الذي يعتاش على قمامة اقتصادية متمثلة بالنظام الريعي الذي لا يصنع ألواناً بشريا إنما يصنع حياة باللون الأسود فقط، الزعامة التي ترى نفسها مقدسة ستعتقد النبوة وتتصور أن جميع من دونها مذنبين، القبيلة التي تصنع رجالات السياسة هي بالحقيقة تصنع ذئاباً مجتمعية بياقات بيضاء.

الإجابة بنعم على جملة خاطئة

نعم، يمكن للإنسان أن يألف الشر، أصبحت الأفكار غير المُبررة مُبررة لأن الذريعة أقوى من الإشكال، يمكن للعنف أن يصبح طائفة غير قابلة للمساس واذا حاول حرُ ما التصدي لها ستحاسبه المادة ١٧ من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان تحت طائلة إزدراء الأديان والمذاهب و”وطوائف العنف”.

بقلم: حسيني الاطرقجي ـ صحفي وباحث

اترك تعليقا