المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

تقرير: الصين أصبحت أضخم قوة دبلوماسية في العالم

رأى تقرير لمؤشر الدبلوماسية العالمية لعام 2024، إن الصين تفوقت على الولايات المتحدة بفارق ضئيل لتصبح أضخم قوة دبلوماسية في العالم في الوقت الراهن.

ورغم أن الفارق بين الدولتين ضئيل، كما يشير التقرير الصادر عن معهد لوي (Lowy)، وهو مؤسسة بحثية مستقلة تتخذ من مدينة سيدني مقرا لها، فإنه يدلل على المساعي التي تبذلها بكين لتوسيع رقعة نفوذها الدولي وسط ازدياد حدة التنافس الجيوسياسي بينها وبين واشنطن.

وتفوقت الصين دبلوماسيا على الولايات المتحدة، بحسب التقرير، في أفريقيا والشرق الأوسط وجزر الباسيفيك وآسيا الوسطى، في حين احتفظت الولايات المتحدة بالصدارة في أوروبا وأمريكا الشمالية والوسطى وجنوب آسيا، وتعادلت الدولتان في الشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية.

ويعتمد المؤشر في تصنيفة للقوة الدبلوماسية لنحو 66 دولة على عدد وحجم البعثات الدبلوماسية لكل منها في مختلف أنحاء العالم.

فما الذي يعنيه أن تكون الصين الدولة ذات الوجود الدبلوماسي الأكبر في العالم؟ وهل تختلف المقاربة الصينية للدبلوماسية مقارنة بدول أخرى كالولايات المتحدة مثلا؟

“شراكات استراتيجية”

في كتابه “الدبلوماسية: النظرية والتطبيق” يصف جي.آر. بيريدج الدبلوماسية بأنها “نشاط سياسي بالأساس، وإذا ما توافرت لها المصادر الجيدة والمهارة، فإنها تعتبر مكونا أساسيا من مكونات النفوذ. هدفها الرئيسي هو تمكين الدول من تحقيق أهداف سياساتها الخارجية بدون اللجوء إلى القوة أو الدعاية أو القانون. وتحقق ذلك بالأساس من خلال التواصل بين مسؤولين سياسيين محترفين”.

ولدى الصين حاليا شبكة معقدة من العلاقات الدبلوماسية التي تصنفها على أنها “شراكات استراتيجية” تطورت وتوسعت عبر السنين. وفي يناير/كانون الثاني الماضي، تحدث وزير الخارجية الصيني وانغ يي عن أهداف بلاده الدبلوماسية لهذا العام، قائلا إن بكين سوف تظل ملتزمة بالعمل على توسيع “شبكة شراكاتها الدولية”، وإنها تؤيد بناء عالم متعدد الأقطاب، وتدعم “المساواة بين كافة البلدان”.

تقول البروفيسورة أستريد نوردين، أستاذة كرسي لاو لعلاقات الصين الدولية بجامعة كينغز كوليدج لندن إن “جمهورية الصين الشعبية والولايات المتحدة لديهما أكبر عدد سفارات وبعثات دبلوماسية في العالم، وهذا يعكس حجم البلدين و[ضخامة] إجمالي ناتجهما المحلي، ولكنه يدلل كذلك على سعي كل منهما لكي تصبح قوة عظمى، في حقبة تتزايد فيها حدة التوترات الناجمة عن المنافسة الجيوسياسية بينهما”.

والملاحظ أن الصين لا تسعى على ما يبدو للدخول في تحالفات تقليدية، بل تفضل توصيف علاقاتها بالدول بأنها “شراكات” الهدف منها “التنسيق” والدعم المتبادل للمصالح الأمنية والعسكرية والسياسية والاقتصادية من دون أن يكون هناك التزامات شبيهة بتلك التي تنطوي عليها تحالفات مثل تحالف الناتو على سبيل المثال، وهو ما يمنحها هامشا للمناورة ويسمح بتغيير طبيعة العلاقات بينها وبين الدول الأخرى مستقبلا.

وربما كان الاستثناء الوحيد هو كوريا الشمالية التي تعتبر الحليف الرسمي الوحيد للصين. ففي عام 1961، وقعت الدولتان “معاهدة الصداقة والتعاون والمساعدة المتبادلة” والتي قرر زعيما البلدين تجديدها في عام 2021 في ذكرى مرور 60 عاما على توقيعها.

وهناك قائمة طويلة من البلدان التي تربط الصين بها علاقات توصف بأنها “شراكات تعاون استراتيجية” أو “شراكات استراتيجية شاملة” تضم العديد من بلدان العالم مثل روسيا وباكستان وكينيا والكونغو وإثيوبيا وكمبوديا وسريلانكا والجزائر ومصر والأرجنتين وإيران وإيطاليا وبولندا.

ما أهمية الدبلوماسية للصين؟

في ديسمبر/كانون الأول الماضي، حدد الرئيس الصيني شي جينبينغ في مؤتمر ناقش الشؤون الخارجية للبلاد – أسس السياسة الخارجية للصين، والتي شملت استغلال ثقل الصين المتزايد في الشؤون الدولية من أجل تعزيز التنمية والرخاء، وتطبيق “فهم صحيح للتاريخ وللصورة الأشمل” عند التعاطي مع الاتجاهات العالمية.

وتعتبر الدبلوماسية ذات أهمية كبيرة لبكين ضمن مساعيها لتصبح قوة عظمى، ليس فقط على الصعيد الاقتصادي، ولكن على الصعيد السياسي الدولي أيضا. وفضلا عن كون الدبلوماسية وسيلة للتواصل والتفاعل مع الدول الأجنبية، تقول البروفيسورة نوردين إنها أيضا “ترسل إشارة إلى الشعب الصيني تخبره بأن بلاده، في ظل قيادة الحزب الشيوعي، لديها الكثير من الأصدقاء، وتحظى بتقدير الآخرين، وتسعى إلى خدمة المصالح الصينية بنشاط في مختلف أنحاء العالم”.

وتضيف نوردين أن “الشعب الصيني هو الجمهور الأكثر أهمية للنشاط الدبلوماسي الصيني. كما أن كبر حجم النشاط الدبلوماسي يبعث برسالة إلى الشعب مفادها أن الصين متمسكة بالحلول والعلاقات السلمية أكثر من الولايات المتحدة”.

ويمكن القول بأن الوساطة الصينية بين إيران والسعودية والتي كللت باستئناف البلدين علاقاتهما الدبلوماسية العام الماضي بعد قطيعة استمرت سنوات تعتبر انتصارا كبيرا للدبلوماسية الصينية. كما يرى مراقبون أنها إشارة إلى بدء حقبة جديدة لدور صيني دبلوماسي متنامٍ.

وكان من اللافت أيضا حرص الصين على لعب دور في الوساطة بين إسرائيل والفلسطينيين في أعقاب اندلاع حرب غزة الأخيرة، حيث استضافت مسؤولين عرباً و مسلمين لمناقشة الوضع في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. كما تحدثت تقارير عن طلب الولايات المتحدة من بكين حث إيران على التهدئة. وسعت بكين كذلك إلى لعب دور الوسيط بين موسكو وكييف في الحرب الأوكرانية، حيث أعلنت عن خطة مكونة من 12 نقطة تهدف إلى تحقيق “الاستقرار السياسي”.

ما الذي يميز مقاربة الصين للدبلوماسية؟

في الكلمة التي ألقاها شي جين بينغ خلال المنتدى الاقتصادي العالمي، أشار الرئيس الصيني إلى التوجهات الدبلوماسية لبلاده، قائلا: “ينبغي أن نسير مع اتجاه التاريخ، ونعمل على بناء نظام دولي مستقر، ونؤيد القيم المشتركة للإنسانية ونبني مجتمعا يكون فيه مستقبل مشترك للجنس البشري.. ينبغي أن نفضل الحوار على المواجهة، والإشراك والتضمين على الاستبعاد، وأن نقف في وجه كل أشكال الأحادية والحمائية الاقتصادية والهيمنة وسياسة القوة”.

تسعى الدبلوماسية الصينية على التأكيد على تفضيل بكين للحلول السلمية على الصراعات. كما أن حجر زاوية الخطاب الدبلوماسي الصيني في الكثير من أنحاء العالم، وفقا للبروفيسورة نوردين، هو أن “الصين تعتبر شريكاً ونداً ليس له تاريخ من الاستعمار والاستغلال، بعكس الولايات المتحدة وغيرها من البلدان التي تدخل ضمن توصيف ‘الغرب’”.

وتضيف نوردين أنه في الوقت ذاته، “تأخذ الدبلوماسية الصينية في أغلب الأحيان طابعا عاطفيا – على سبيل المثال عدم تنفيذ رغبات الدبلوماسيين الصينيين يتم تصويره في بعض الأحيان على أنه مسيء وجارح ‘لمشاعر الشعب’. هذا الأسلوب ينبع من الثقافة الداخلية للحزب الشيوعي أكثر من كونه نابعا من ‘الثقافة الصينية’، حيث يعتبر أهم شيء في المسيرة المهنية للدبلوماسيين في الوقت الراهن هو التعبير عن الولاء للرئيس شي جين بينغ، حتى عندما يكون هناك احتمال أن يتعارض ذلك مع أهداف أخرى مثل بناء علاقات صداقة”.

لكن نوردين توضح أن هذا الأسلوب لا تنفرد به الصين. “على سبيل المثال، إذا ما فاز ترامب بالرئاسة في انتخابات هذا العام، فإن ذلك قد يجعل الولاء عاملا محددا في السياسة الأمريكية أيضا”.

وتبدو الصين على استعداد للعمل مع أي دولة طالما أن هناك فائدة مشتركة يمكن تحقيقها – ويتجلى ذلك من القائمة الطويلة للبلدان التي تربطها بها شراكة. فالصين تتحاور مع إيران وإسرائيل والقادة الفلسطينيين، ومع روسيا التي تربطها بها علاقة قوية وكذلك مع أوكرانيا، ومع السعودية وجماعة أنصار الحوثيين في اليمن. ويختلف ذلك عن نهج الدبلوماسية الأمريكية التي ترفض التحاور مع بعض البلدان مثل سوريا وكوبا وفنزويلا، وهو أمر يؤيده بعض المراقبين الأمريكيين ويرون فيه تأكيدا على القوة الأمريكية، في حين يقول آخرون إنه يحرم واشنطن من توسيع نطاق نفوذها.

يرى منتقدو الصين أنها تسعى إلى الاستفادة من مناطق ضعف واشنطن، وأنها لا تهتم بقيم حقوق الإنسان والديمقراطية التي تدافع عنها واشنطن. أما مؤيدوها فيقولون إنها تنظر إلى العلاقات مع الدول من منظور نفعي غير عقدي، وإن الولايات المتحدة “انتقائية” في تأييدها للديمقراطية وحقوق الإنسان، وأحيانا ما تستخدم تلك القيم كسلاح ضد أعدائها.

تقول البروفيسورة نوردين: “أظن أن الدبلوماسية الصينية لا تجد غضاضة في التواصل والتفاعل مع أي دولة تعترف بها، ولكن عادة ما يتم تجميد العلاقات الدبلوماسية مع الدول التي تسير في اتجاه معاكس لمصالح الحزب الشيوعي الصيني. ربما كلتا الدولتين تركز على أن تكون صورتها جيدة أمام جمهورها بالداخل – فقطع العلاقات مع الدول ‘السيئة’ قد يعتبر وسيلة لكسب قطاع عريض من الرأي العام الأمريكي، مقارنة بالشعب الصيني الذي يهتم أكثر بكون جمهورية الصين البلد ذا أكبر عدد من العلاقات”.

اترك تعليقا