المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

أدوات الرد الروسي على انضمام فنلندا إلى الناتو

مع إعلان فنلندا رسمياً، الخميس، تأييدها الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي (ناتو)، منهية بذلك عقوداً من الحياد، تدخل العلاقات بين الدولة الاسكندينافية وجارتها الكبيرة روسيا، مرحلة جديدة من الاضطرابات والتوازنات التي حكمت العلاقات بين البلدين على مدى أكثر من قرن.

تعقدت العلاقات بين البلدين منذ استقلال فنلندا عن روسيا في عام 1917، مدفوعة بهواجس للحفاظ على استقلالها بأي ثمن، وإن تطلَّب ذلك خوض حروب غير متكافئة مع الإمبراطورية السوفيتية تارةً، وتقديم تنازلات سياسية كبيرة تاراتٍ أُخَرى.

وبدأ مسار العلاقات الحالي بين البلدين، اللذين تجمعهما حدود يتجاوز طولها 1300 كيلومتر، في عشرينات القرن الماضي، مع سعي فنلندا لإيجاد حلول استراتيجية لمواجهة ما تعتبره توسعاً سوفيتياً يهدد بابتلاعها ضمن الكتلة الشيوعية الشرقية المغايرة لتوجهها الديمقراطي الغربي.

ولتحقيق هذه الغاية، عملت الحكومة الفنلندية على تشكيل تحالف دفاعي مع كل من أستونيا ولاتفيا وبولندا، لكن هذه المساعي لم تنجح بسبب امتناع البرلمان الفنلندي حينها عن المصادقة على الاتفاقية المؤسسة للتحالف.

ومع إخفاق هذه المحاولة، أبرمت فنلندا والاتحاد السوفيتي عام 1932 “اتفاقية عدم الاعتداء الفنلندية السوفيتية”، لكن هذه الاتفاقية أيضاً لم تنجح في إنهاء المخاوف من التوسع السوفيتي، خصوصاً في ظل التغيرات الجيوسياسية التي فرضتها الحرب العالمية الثانية.

وبدأت نذر الحرب عقب غزو الاتحاد السوفيتي وألمانيا لبولندا وتقسيمها عام 1939، عندما سعى الاتحاد إلى توسيع حدوده مع فنلندا باتجاه الغرب في منطقة “البرزخ الكاريلي” الواقعة بين خليج فنلندا وبحيرة لادوجا شمال غربي روسيا، في محاولة لتدعيم أمن مدينة لينينجراد (سانت بطرسبرج) ضد أي هجوم ألماني.

ولإنجاز هذا المخطط، عرض الاتحاد السوفيتي الاستحواذ على عدد من الجزر الفنلندية في خليج فنلندا، واستئجار قاعدة بحرية لمدة 30 عاماً في شبه جزيرة هانكو الفنلندية، على أن يمنح هلسنكي في المقابل أراض سوفيتية.

وعندما رفضت فنلندا هذا المخطط، شنَّ الاتحاد السوفيتي هجوماً في 30 نوفمبر 1939 مثَّل بداية الحرب الروسية الفنلندية الأولى، أو ما يعرف بـ”حرب الشتاء”، حين هاجم نحو مليون جندي سوفيتي فنلندا من جبهات عدة.

وفي ظلِّ عجز الفنلنديين المنهكين عن تأمين أي دعم من بريطانيا وفرنسا، اضطروا إلى عقد معاهدة سلام (معاهدة موسكو) في 12 مارس 1940، وفقاً للشروط السوفييتية، ومنها التنازل عن “كاريليا الغربية” للسوفيت، وبناء قاعدة سوفيتية بحرية في شبه جزيرة هانكو.

وتوصَّل البلدان في سبتمبر 1944 إلى هدنة مشروطة باعتراف فنلندا بمعاهدة موسكو، ثم في فبراير 1947 انتهى الصراع السوفيتي الفنلندي رسمياً بتوقيع معاهدة باريس للسلام.

وضعت معاهدة باريس التي صادق عليها السوفيت وبريطانيا، الأساس لمستقبل العلاقات بين فنلندا والاتحاد السوفيتي، إذْ تضمَّنت تنازلاً من هلسنكي عن معظم “البرزخ الكاريلي”، ومنطقة “بتسامو”، كما أكدت نزع السلاح من “جزر آلاند” الفنلندية، وتعزيز القيود المفروضة على الجيش الفنلندي بحكم الهدنة الأخيرة.

وتضمَّنت المعاهدة أيضاً النص على “الحياد الفنلندي” الذي أصبح الركيزة الأساسية للسياسة الخارجية الفنلندية طيلة فترة الحرب الباردة. وألهمت المعاهدة المذكورة سياسة “الواقعية الوطنية” التي وضعها الرئيس الفنلندي السابق أورهو ككونن، والتي يتم بموجبها احترام المصالح السوفيتية، وخدمتها، وتقديمها على مصالح أي دولة أخرى، في سبيل الحفاظ على استقلال فنلندا.

نهاية “الفنلدة”

وأدَّى هذا التوازن المعقد في سياسات فنلندا إلى نشوء ما يعرف بـ”الفنلدة” (Finlandization) في العلاقات الدولية، وهو مصطلح بمضامين تهكمية صاغه الباحثون في ألمانيا الغربية خلال الحرب الباردة لوصف الطريقة التي كيَّفت بها هلسنكي سياساتها لتكون ملائمة للاتحاد السوفيتي، مع التمسك في الوقت نفسه بحيادها، والمحافظة على علاقات جيدة مع الغرب.

ويستخدم المصطلح حالياً بشكل عام لوصف حالة معينة من العلاقات بين الدول عندما تسمح دولة صغيرة لسياساتها بأن تتأثر بشكل كبير بجار أكبر وأكثر قوة.

لكن يبدو أنَّ هذا الوضع تغيَّر مع انتهاء الحرب الباردة وتفكُّك الاتحاد السوفيتي، فعلى الرغم من أن فنلندا بقيت على حيادها بين روسيا (وريثة الاتحاد)، والغرب، فلم تنضم لحلف شمال الأطلسي (ناتو) إلا أنها مع ذلك أعادت صياغة المعاهدات المنظمة لهذه العلاقات.

وفي مطلع التسعينات، وقَّعت فنلندا وروسيا معاهدة سياسية جديدة تم بموجبها إلغاء معاهدة الصداقة والتعاون لعام 1948 التي قيدت إلى حد كبير السياسات الخارجية لهلسنكي.

وبناءً على المعاهدة الجديدة، التزمت كل من فنلندا وروسيا بعدم استخدام القوة ضد بعضهما البعض واحترام حدودهما المشتركة.

عضو شبه رسمي

في حقبة ما بعد الحرب الباردة، سعت فنلندا إلى تعزيز اندماجها في التكتلات الغربية، إذ انضمت في عام 1995 إلى الاتحاد الأوروبي.

وعملت منذ ذلك الحين على تعزيز شراكتها مع “ناتو” من خلال إرسال جنودها ضمن العمليات التي قادها الحلف في البلقان وأفغانستان. كما عملت على الحفاظ على علاقة متينة جعلتها أقرب ما تكون إلى العضو غير الرسمي في الحلف، بحسب شبكة “بي بي سي” البريطانية.

مقاربة حذرة

ومنذ ضمِّ القرم، تبنَّت هلسنكي مقاربة حذرة، وشرعت في الابتعاد شيئاً فشيئاً عن جارتها الكبيرة، ودعمت العقوبات الغربية المفروضة على موسكو، على الرغم من الأعباء التي ألحقتها هذه العقوبات بفنلندا بسبب التداخل الكبير بين البلدين على الصعيد الاقتصادي.

وقال بينيك إنه “بعد ضم روسيا للقرم ودعمها لانفصاليي دونيتسك ولوغانسك في شرق أوكرانيا، لاحظ الناس في فنلندا الوضعية العدائية لروسيا تجاه جيرانها، وبالتالي حاولوا إيجاد وسائل لتعزيز أمنهم”، على حد وصف المسؤول السابق في “ناتو”.

ومع ذلك ظلَّت قنوات التواصل مفتوحة بين البلدين على أعلى مستوى، وفي خطوة رمزية للتأكيد على متانة العلاقات بين البلدين، وطابعها البراجماتي، على الرغم من الاختلافات التاريخية، شارك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بنفسه في يوليو 2017 في احتفالات الذكرى المئوية لاستقلال فنلندا عن روسيا.

الغزو الروسي وتغير الحسابات

وجاء الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 فبراير الماضي، ليمثل التغير الأبرز حتى الآن في طبيعة العلاقات بين البلدين، ويشكل عاملاً حاسماً في مسألة الانضمام إلى “ناتو” على الصعيدين الشعبي والرسمي.

وأفادت استطلاعات رأي أجريت بعد الغزو، بأن أكثر من 60% من الفنلنديين باتوا يؤيدون الانضمام إلى الحلف، في اتجاه يبدو أنه آخذ في التصاعد، بحسب صحيفة “الجارديان” البريطانية.

ويبدو أن الغزو أعاد إحياء هواجس الاستقلالية في فنلندا، إذ اتهم تقرير للحكومة الفنلندية، في إبريل الماضي، موسكو بالسعي إلى “بناء مجال نفوذ عبر الضغوط والوسائل العسكرية”، محذراً من أن “الإخفاق في الرد على هذه المتغيرات في البيئة الأمنية سيؤدي إلى تغير في مكانة فنلندا الدولية، وتضييق المجال الذي تحتفظ به للمناورة”. 

والخميس، أعلن رئيس فنلندا ورئيسة وزرائها أنهما يؤيدان الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، وأن قراراً رسمياً سيصدر نهاية الأسبوع، في خطوة قوبلت بترحيب غربي.

وتوقَّع الباحث الروسي في العلوم السياسية والعلاقات الدولية الدكتور رولاند بيجانوف أن تنضم فنلندا إلى الحلف قريباً، وفقاً للمسار الحالي الذي تنتهجه البلاد.

وقال بيجانوف في تصريحات لـ”الشرق” إنَّ هذا التوجه من فنلندا “يمثل تراجعاً عن سياستها التقليدية الملتزمة بالحياد، إذ كان موقفها جيداً وإيجابياً مع روسيا على مدى أكثر من 70 عاماً اتسمت خلالها العلاقات بين البلدين بالنموذجية وحسن الجوار”، على حد تعبيره.

وأرجع الجنرال ميتشيسلاف بينيك هذا التحول الجذري في مواقف هلسنكي إلى رغبة فنلندا في “الحصول على الضمانات الأمنية التي توفرها المادة الخامسة للحلف (الدفاع المشترك)”، لافتاً إلى أنه “بحسب تصور الفنلنديين، فإنَّ السلوك الروسي العدواني هو الدافع الوحيد للانضمام إلى الحلف”.

أدوات الرد الروسي

موسكو اعتبرت الخطوة الفنلندية تهديداً لأمنها، محذرة من أنها ستتخذ إجراءات مماثلة “ذات طبيعة عسكرية وتقنية” للرد على الانضمام المحتمل، من دون أن تفصل في هذه الإجراءات.

وقال مدير المركز الدولي للدبلوماسية والحوار في فرنسا إيرك جوزلان لـ”الشرق” إنَّ روسيا “سترد من خلال عقوبات اقتصادية على فنلندا، وربما تدابير عسكرية أيضاً، وإن كانت هناك صعوبة في ذلك”.

من جانبه، قال بيجانوف إنَّ “انضمام فنلندا إلى (ناتو) سيوسع حدود التماس بين روسيا والحلف، وسيجعل من بحر البلطيق بحيرة للحلف إن صحَّ التعبير”.

وأضاف أن روسيا “ستكون بالتالي مجبرة على الرد”.

وأشار إلى أنَّ طبيعة الرد الروسي “تتوقف على السيناريوهات المستقبلية لأنشطة الحلف في فنلندا بعد الانضمام، فهل سيكون هناك نشر لأسلحة هجومية للحلف في هذه الأراضي القريبة من روسيا، أم سيصبح وضعها مثل دول البلطيق التي توجد فيها قوات للناتو، ولكن بطبيعة دفاعية، في ظل امتناع الحلف عن نشر أسلحة هجومية؟”.

وعلى الرغم من تأكيد بيجانوف أنَّ انضمام فنلندا إلى (ناتو) سيؤدي إلى مزيد من تدهور الوضع الإقليمي من الناحية الأمنية، إلا أنَّ جوزلان يستبعد أن يؤدي هذا الانضمام إلى رفع احتمالية المواجهة المباشرة بين الحلف وروسيا.

وقال جوزلان: “إذا نظرنا إلى أداء الجيش الروسي في أوكرانيا نجد أنه ليس بتلك القوة، كما أنَّ معظم الجيش الروسي منشغل حالياً بالحرب في أوكرانيا”.

اترك تعليقا