المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

الاستثمارات الصينية تهرب من العالم الغربي.. فإلى أين تذهب؟

قبل بضع سنوات فقط، كانت الأموال الصينية تنتشر في جميع قطاعات الاقتصاد بدول الغرب الغنية، وكان المستثمرون الصينيون يبرمون الصفقات الضخمة ويجتهدون لاقتناص الأصول المربحة، سواء أكانت منازل فاخرة وفنادق من فئة الـ5 نجوم في نيويورك، أم كانت شركة كيميائية سويسرية وشركة روبوتات ألمانية عملاقة. لكن أحدث البيانات تكشف أن هذا العصر قد ولَّى.

إذ تراجع الاستثمار الصيني في دول الغرب في ظل تنامي عداء تلك الدول لرؤوس الأموال الصينية. وازداد توجه الشركات الصينية إلى إنفاق الأموال على إنشاء المصانع في جنوب شرق آسيا، ومشروعات التعدين والطاقة في آسيا والشرق الأوسط وأمريكا الجنوبية، حيث تسعى بكين إلى تعزيز تحالفاتها في تلك المناطق وتأمين الوصول إلى الموارد المهمة، بحسب تقرير لصحيفة The Wall Street Journal  الأمريكية.

أين تذهب الأموال؟

كشف تقرير أولي عن الاستثمارات الصينية هذا العام أعدَّه معهد “أمريكان إنتربرايز” البحثي المحافظ، واطلعت عليه صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية، أن أكبر متلقٍّ للاستثمار الصيني من بداية العام إلى الآن هو إندونيسيا الغنية بالنيكل. والنيكل مكون رئيسي في إنتاج أنواع مختلفة من البطاريات المستخدمة لتشغيل السيارات الكهربائية.

يُظهر هذا التحول في تدفقات الاستثمار أحد أوجه استجابة الصين لتوتر العلاقات مع الغرب بزعامة الولايات المتحدة، ويُبرز كذلك تعزيز الصين لروابطها التجارية والاستثمارية مع أجزاء أخرى من العالم تعزيزاً قد ينشأ عنه خطوط صدعٍ جديدة في الاقتصاد العالمي، على حدِّ تعبير الصحيفة الأمريكية.

ربما يؤدي تراجع الأموال الصينية في الغرب إلى تقليل فرص العمل في بعض البلدان، وتناقص رؤوس الأموال التي كان رواد الأعمال يستفيدون منها في أماكن مختلفة، مثل وادي السيليكون في الولايات المتحدة. والواقع أن التراجع الجاري في نمو الاقتصاد الصيني يحرم العالم من أحد محركات نموه التقليدية.

يدل هذا التحول -في نطاقه الواسع- على انحسار العولمة في العالم، ويرجِّح التوجه إلى مزيد من التفاقم في التوترات الجيوسياسية.

أشار تقرير صادر حديثاً إلى انخفاض الاستثمارات الخارجية المباشرة للصين في دول العالم بنسبة 18% عن العام السابق، وتراجع الاستثمارات الصينية بنسبة 25% عن أعلى مستوى سابق لها (في عام 2016). ويأتي ذلك على إثر التراجع في عمليات الاندماج والاستحواذ في الخارج، وتشديد بكين لقواعدها بغيةَ الحدِّ من هروب رؤوس الأموال.

وعلى الرغم من تخفيف بكين للقيود المرتبطة بجائحة كورونا العام الماضي، فمن المستبعد أن تعود الصين إلى أعلى مستوى لها في عقد الصفقات الخارجية، وترجع معظم أسباب ذلك إلى التوترات الجيوسياسية المتزايدة مع الولايات المتحدة وحلفائها، الذين يقول محللون إنها ما انفكت تحظر الاستثمارات الصينية لأسباب تتعلق بالأمن القومي.

وأضاف المحللون أن ضعف العملة الصينية أمام الدولار، وتعثر القطاع الخاص، وتركيز بكين المتزايد على تمكين اقتصادها المحلي لتعزيز الاكتفاء الذاتي، كلها عوامل ستحدُّ من تدفق الاستثمارات الصينية إلى الخارج.

يرى لويس كويجس، كبير خبراء اقتصاد آسيا والمحيط الهادئ في وكالة “ستاندرد آند بورز”، أن “الفسحة المتاحة للصين في توجيه الاستثمار إلى الاقتصادات الأجنبية المتقدمة تتقلص بوجه عامٍ”. واستبعد كويجس أن تزداد تدفقات الاستثمار الصيني الخارجي زيادةً ذات شأن في السنوات الثلاث إلى الخمس المقبلة.

إعادة تنظيم الاستثمار

في غضون ذلك، من المرجح أن تعيد الصين تنظيم استثماراتها لتعزيز الهيمنة في قطاعات أخرى، مثل الطاقة المتجددة والسيارات الكهربائية. والأقرب إلى الحدوث حينئذ أن تضاعف الصين من الاستثمار في الأسواق الناشئة بجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وإفريقيا، حيث يبحث أصحاب المصانع الصينيون عن أماكن أخرى لتوسيع أعمالهم والعثور على عملاء جدد، ويُتوقع أن تركز بكين خلال ذلك على الأسواق الغنية بالموارد.

في هذا السياق، قالت شركة صناعة السيارات الصينية “بي واي دي” BYD هذا الشهر، إنها تخطط لاستثمار أكثر من 600 مليون دولار في عدة مصانع سيارات في البرازيل.

وفي معرض الحديث عن تأثير التراجع في الاستثمارات الصينية بالخارج، قال ديريك سيسورز، الزميل الأول في معهد “أمريكان إنتربرايز”، إنه “ما دام الرئيس الصيني، شي جين بينغ، لا يزال على قيد الحياة، فإننا لن نعود إلى ما كانت عليه الأمور عام 2016”. وتوقع سيسورز ألا يتأثر الاقتصاد الأمريكي تأثراً كبيراً بتناقص الاستثمار الصيني، لكن التأثير سيكون أشد إيلاماً للاقتصادات الغربية الأصغر حجماً، مثل اقتصاد أستراليا وكندا والمجر.

مع ذلك، فإن انقباض الأموال الصينية عن الاقتصادات الغربية قد ينجم عنه بعض المكاسب، مثل تقليل الميل إلى المضاربات التي ترفع أسعار العقارات، على نحو ما قد حدث في كندا والولايات المتحدة وأستراليا قبل جائحة كورونا.

أشعل المستثمرون الصينيون جنون المضاربة في أسواق عقارية مختلفة، منها سوق ولاية نيويورك الأمريكية في منتصف العقد الماضي. فعلى سبيل المثال، اشترت شركة التأمين الصينية Anbang فندق “والدورف أستوريا” -التابع لشركة هيلتون العالمية- مقابل 1.95 مليار دولار في عام 2015، وكانت تلك أغلى صفقة شراء مسجلة لفندق أمريكي في ذلك الوقت.

من جهة أخرى، فإن الاستثمار الخارجي المباشر يشهد قدراً من التراجع في جميع أنحاء العالم، وليس فقط من الصين. فقد كشفت بيانات صادرة عن “مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية” عن انخفاض الاستثمار الخارجي للولايات المتحدة في عام 2022 بنسبة 14% عما كان عليه في العام السابق، ونسبت التقارير هذا التراجع في الاستثمارات إلى ارتفاع التضخم، ومخاوف الركود، واضطراب الأسواق المالية.

لكن انكماش الاستثمارات الصينية بالخارج جاء أشد حدةً وأطول مدةً، وخاصة الاستثمار في الاقتصادات المتقدمة، وهو دليل على الانفصال الاقتصادي للصين عن الغرب.

تظهر بيانات الأمم المتحدة أن الاستثمار الخارجي للصين انخفض في عام 2022 بنسبة 18% عما كان عليه في العام السابق، ليصل إلى نحو 147 مليار دولار. ويأتي ذلك بعد أن كانت تلك الاستثمارات قد بلغت أعلى مستوى لها (196 مليار دولار) في عام 2016.

مخاوف من تدفق رأس المال

قبل عام 2016، كانت بكين تستحث الشركات الصينية على الاستثمار في الخارج للإسهام في توسيع النفوذ الاقتصادي للصين. وشاركت تكتلات تجارية صينية -مثل مجموعة “إتش إن إيه” HNA، ومجموعة “داليان واندا” Dalian Wanda- في ضخ الأموال في المصارف العالمية وسلاسل الفنادق ودور السينما.

لكن بحلول عام 2016، تزايدت المخاوف بشأن تدفق رؤوس الأموال إلى الخارج والضغوط المالية الواقعة على التكتلات الصينية، فعمدت بكين إلى تشديد الضوابط المفروضة على حركة رأس المال، وكثَّفت التدقيق في صفقات الشركات.

علاوة على ذلك، فإن الضوابط الغربية على عمليات الاستحواذ الصينية ازدادت صرامة في ظل تدهور العلاقات مع الغرب بزعامة الولايات المتحدة. واشتبكت واشنطن وحلفاؤها مع بكين بشأن قضايا عدة، منها الأمن القومي والتجارة وتايوان.

من جهة أخرى، شرعت الصين في إعادة النظر بمشروعات “مبادرة الحزام والطريق” التي تركّز على بناء البنية التحتية في الدول النامية. وبات مسؤولو الإقراض الصينيون أكثر حذراً في الاستثمار بالمشروعات الجديدة بعد أن تراكمت قروض بمليارات الدولارات على بعض الدول.

تكشف قاعدة بيانات معهد “أمريكان إنتربرايز” ومؤسسة “هيريتدج” الأمريكية، أن الشركات الصينية الخاصة والكيانات المملوكة للدولة استثمرت في 120 صفقة (بقيمة لا تقل عن 95 مليون دولار) بالدول الصناعية السبع الكبرى خلال عام 2016، وجاءت 63 صفقة منها في الولايات المتحدة.

أما العام الماضي، فلم يشهد سوى 13 استثماراً للصين في دول مجموعة السبع. وذلك بعد أن كان إنفاق الشركات الصينية على الاستثمارات في مجموعة السبع (نحو 84 مليار دولار) خلال عام 2016 يبلغ نحو نصف إجمالي استثمارات الصين في الخارج. أما في عام 2022، فتشير بيانات “معهد أمريكان إنتربرايز” إلى تراجع قيمة استثمارات الصين بتلك الدول إلى 7.4 مليار دولار، وانكماش نسبتها إلى 18% فقط من الاستثمارات الخارجية الصينية في ذلك العام.

وكشف تقرير صادر عن شركة الأبحاث الأمريكية Rhodium Group ومعهد Mercator للدراسات الصينية (في برلين) في مايو/أيار، أن استثمارات الصين المباشرة في أوروبا قد وصلت إلى أدنى مستوى لها خلال 10 سنوات، لتبلغ 8.8 مليار دولار في عام 2022.

وعلى الرغم من أن صناعة السيارات الكهربائية كانت من القطاعات القليلة التي لا تزال تجذب الاستثمار الصيني إلى أوروبا، فإن حجمها ليس كبيراً بما يكفي لتعويض تقلص الاستثمارات في القطاعات الأخرى.

كتب مؤلفو التقرير: “تراجع النمو الصيني، والضغوط الجيوسياسية تدفعنا إلى استبعاد العودة إلى المستويات التي بلغتها الاستثمارات الصينية بالخارج في منتصف عام 2010”.

أشارت بيانات معهد “أمريكان إنتربرايز” الأمريكي، إلى أن الشركات الصينية الخاصة والكيانات الحكومية أنفقت العام الماضي 24.5 مليار دولار في آسيا وأمريكا الجنوبية والشرق الأوسط، وقد بلغت نسبة الزيادة في الاستثمارات على نظيرتها في عام 2021 نحو 13%. وشملت الصفقات استثماراً بقيمة 1.9 مليار دولار من “المؤسسة الصينية للنفط البحري” CNOCC في البرازيل؛ واستثمارات من شركتي “بي واي دي” و”جريت وول موتورز” في تايلاند.

أما في النصف الأول من هذا العام، فإن التقديرات الأولية التي أوردها معهد “أمريكان إنتربرايز، تشير إلى أن إجمالي استثمارات الشركات الصينية قد بلغ 29.5 مليار دولار، وهو ما يدل على انتعاش خفيف في الاستثمارات الصينية بالخارج بعد تراجع قيود كورونا.

وكانت إندونيسيا المستفيد الأول من هذه الاستثمارات (نحو 17% من إجمالي الاستثمارات الصينية في النصف الأول من العام) بفضل مخزونها الكبير من المعادن الاستراتيجية، إلا أن هذه التقديرات قد تتغير بعد انكشاف المزيد من المعلومات حول التوقيت الدقيق للاستثمارات.

اترك تعليقا