المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

تفكيك الأزمات: دوافع الاتجاه نحو “التهدئة” في الشرق الأوسط

صدر عن مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية كراسة تحمل عنوان “تفكيك الأزمات: دوافع الاتجاه نحو “التهدئة” في الشرق الأوسط” للكاتب الدكتور محمد عباس ناجي.

ويرى الدكتور ناجي إن تصاعد الاتجاه نحو “التهدئة” في منطقة الشرق الأوسط خلال الأعوام الأخيرة، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء عوامل أربعة رئيسية: يتمثل الأول، في ارتفاع تكلفة تغليب النمط الصراعي في إدارة التفاعلات مع التطورات الإقليمية.

ويقول ناجي لقد أدركت قوى عديدة، مثل إيران وتركيا وإسرائيل، وكذلك دول عربية محورية، مثل مصر والسعودية والإمارات، أن هذا النمط لم يحقق الأهداف المرجوة منها، بل إنه فرض ضغوطًا وأعباءً داخلية وإقليمية لا تبدو هينة، سواء على صعيد تفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية وتزايد ضغوط قوى المعارضة، أو على صعيد الفشل في منع القوى المناوئة من الاقتراب من الحدود، وبالتالي تعزيز قدرتها على تهديد الأمن والاستقرار الداخلي، أو على مستوى تراجع الرهان على بعض السياسات، مثل إسقاط أنظمة سياسية وإحلال قوى بديلة محلها.

ويرتبط العامل الثاني بالتحول الملحوظ في السياسة الأمريكية إزاء التطورات التي تشهدها المنطقة. فقد بدا واضحًا أن انخراط الولايات المتحدة الأمريكية في أزمات وملفات المنطقة يتراجع تدريجيًا لمصلحة تزايد الاهتمام بانتقال الثِقل الدولي لمناطق وأقاليم أخرى، سواء بفعل تصاعد حدة الصراع مع قوى دولية منافسة مثل الصين، في منطقة “الإندو-باسيفيك”، أو بسبب اندلاع الحرب الروسية -الأوكرانية.

وقد بدت ذروة هذا التراجع في مؤشرات عديدة منها، الانسحاب العسكري الفوضوي من أفغانستان، والذي اعتبرته قوى عديدة حليفة لواشنطن في المنطقة بأنه ليس انسحابًا عسكريًا فقط، وإنما انسحابًا استراتيجيًا من التزامات الأخيرة تجاه علاقاتها القوية والتاريخية مع تلك القوى.

دفع ذلك تلك القوى إلى اتخاذ خطوات موازية، اعتمدت على إدارة تفاعلاتها مع الملفات والأزمات الإقليمية والدولية المختلفة بما تقتضيه مصالحها الوطنية وأنماط علاقاتها مع القوى الأخرى، الإقليمية والدولية، بصرف النظر عما إذا كان ذلك يتوافق مع مصالح وحسابات الحليف الاستراتيجي الأول من عدمه.

وبدا ذلك جليًا بدوره في مؤشرات عديدة، منها تحسين العلاقات بين إيران والعديد من الدول العربية، وإعادة دمج النظام السوري في المنظومة العربية وتعزيز فرص التطبيع بينه وبين تركيا، والإصرار على الاحتفاظ بموقف متوازن من الحرب الروسية – الأوكرانية، وتوسيع نطاق العلاقات مع الصين.

وينصرف العامل الثالث، إلى تزايد الاتجاه نحو “الأقلمة” في إدارة التفاعلات إزاء الملفات الإقليمية المختلفة. يعني ذلك الانخراط في اتصالات وتفاهمات، بل وتسويات ثنائية بين القوى الإقليمية المختلفة، بالتوازي مع تراجع الاعتماد بشكل كامل على القوى الدولية، لا سيما الولايات المتحدة الأمريكية.

وقد استند هذا الاتجاه إلى اعتبارات عديدة، منها أن الولايات المتحدة تسعى إلى “إدارة” الأزمات وليس “تسويتها”، وأنها تدير تفاعلاتها معها بما يتوافق مع مصالحها في المقام الأول بصرف النظر عما إذا كان ذلك يعزز مصالح حلفائها من عدمه.

فضلًا عن ذلك، فإن هذه “الأقلمة” يمكن أن تساعد في الوصول إلى تسويات سياسية لبعض الأزمات الإقليمية، على غرار الأزمة في اليمن، التي تعد الاختبار الحقيقي لاتفاق بكين الذي وقع بين السعودية وإيران برعاية صينية، في 10 مارس 2023.

هنا، فإن الوصول إلى اتفاق تسوية في اليمن معناه أن القوى الإقليمية الرئيسية تستطيع صياغة ترتيبات أمنية وسياسية تستوعب مصالحها وحساباتها في المقام الأول، دون الاضطرار في النهاية إلى تسليم “مفاتيح الحل” لقوى من خارج المنطقة.

ويتعلق العامل الرابع والأخير، بتغير توازنات القوى في بعض الأزمات، على غرار الأزمة السورية، التي تراجع فيها الصراع المسلح، وبدا واضحًا أن النظام الحاكم استطاع البقاء في الحكم رغم كل الضغوط التي تعرض لها على مدى الأعوام الإثنى عشر الماضية.

هذه التطورات الميدانية كانت دافعًا لقوى إقليمية مختلفة من أجل مراجعة سياستها مرة أخرى إزاء الصراع في سوريا، على غرار تركيا، التي تسعى في المرحلة الحالية إلى تطوير علاقاتها مع النظام السوري، برعاية روسيا ومشاركة إيران، وهو ما بدا جليًا في الاجتماعات التي عقدت على مستوى وزراء الدفاع والخارجية ورؤساء المخابرات خلال المرحلة الماضية، ويُتوقع أن تتواصل بعد انتهاء الانتخابات الرئاسية التركية.

لكن رغم أن هذا الاتجاه نحو “التهدئة” بدأ يتزايد خلال المرحلة الماضية، إلا أن ذلك لا ينفي أن الاتجاه المضاد نحو “التصعيد” لا يزال قائمًا، على نحو يبدو جليًا في العلاقات بين المغرب والجزائر، فضلًا عن المواجهات المستمرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية.

كما أن استمرار هذا الاتجاه نحو “التهدئة” سوف يعتمد على متغيرات ثلاثة رئيسية: 

أولها، مدى قدرة بعض القوى على الالتزام بما تقتضيه التوافقات الجديدة التي تم الوصول إليها، وتبدو حالة إيران ماثلة في هذا السياق، سواء فيما يتعلق باتفاق بكين مع السعودية، أو ما يتصل بالاتفاق النووي الذي يحتمل أن يتم الوصول إليه مع القوى الدولية.

ثانيها، مواقف القوى الدولية، التي تباينت أنماط تفاعلاتها مع أزمات وملفات المنطقة بشكل بات يضفي سمات خاصة على الأدوار التي تقوم بها في المنطقة، والتي تتراوح بين أدوار ثلاثة رئيسية هي “الضامن” في حالة الصين، و“المُوازِن” في حالة روسيا، و“المُرتبِك” في حالة الولايات المتحدة الأمريكية.

ثالثها وأخيرًا، المسارات المحتملة التي يمكن أن تئول إليه أزمات معينة، على غرار أزمة الملف النووي الإيراني، التي يمكن أن تفرض تداعيات مباشرة على اتجاهات التفاعلات بين القوى الإقليمية الرئيسية في المنطقة خلال المرحلة القادمة، لا سيما في ظل حالة التأثير والتأثر التي تربط معظم الملفات الإقليمية، فضلًا عن التشابك والتقاطع الملحوظ بين مصالح وحسابات القوى المعنية بها والمنخرطة فيها.

اترك تعليقا