المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

معهد أمريكي يرسم صورة قاتمة للعلاقات بين العراق وتركيا بسبب أزمة المياه

رسم “معهد أبحاث السياسة الخارجية” الأمريكي صورة قاتمة لمستقبل العلاقات العراقية-التركية خلال السنوات المقبلة من “المنظور المائي”، معتبراً أن هذه العلاقات ستظل “معقدة” وتفتقر إلى التوازن، بينما سيزداد العراق عطشاً حيث أنه لا يمتلك أوراق قوة بإمكانه استخدامها ضد أنقرة لدفعها إلى عدم حرمانه من الحصص المائية.  

وقال التقرير الأمريكي “إنه مع إعادة انتخاب رجب طيب أردوغان رئيسا لتركيا، أصبحت المياه والمخاوف البيئية المرتبطة القضية الحاسمة في قلب العلاقات التركية مع العراق، وهو ما من شأنه أن يلقي بظلاله على تحركات البلدين بشأن مجموعة من المسائل الأمنية والتجارية والطاقة والإقليمية الأخرى، مذكراً بأن نهري دجلة والفرات ينبعان من تركيا ويوفران المصدر الأساسي للمياه لأجزاء كبيرة من العراق. 

واعتبر التقرير؛ أن هذا الواقع يضع العراق في مكانة أضعف ضمن معادلة تزداد صعوبة تتميز بزيادة عدم اليقين والتعقيدات الناتجة عن مصالح متضاربة للعديد من الأطراف الفاعلة داخلياً وخارجياً.

متاهة العلاقات 

وبرغم اشارة التقرير الى توتر العلاقات بين تركيا والعراق خلال العقدين الماضيين، إلا أنه لفت إلى أن البلدين حاولا إقامة علاقات تجارية واستثمارية متبادلة، لكنها تميل بدرجة كبيرة إلى الطرف التركي، حيث تشير أرقام الأمم المتحدة، أن تركيا صدرت نحو من 14 مليار دولار من البضائع إلى العراق في العام 2022، ما يمثل قفزة هائلة مقارنة بحوالي 100 مليون دولار فقط في العام 1995. وفي المقابل، فإن العراق صدر أقل بكثير إلى تركيا حيث بلغت صادراته نحو 1.5 مليار دولار في العام 2021.

وفي المقابل، لفت التقرير إلى أن القضايا الشائكة مثل الأمن والطاقة والخصومات الجيوسياسية الإقليمية، كانت بمثابة عقبات رئيسية أمام تعزيز العلاقات الثنائية.

وأوضح في هذا السياق أن هناك حزب العمال الكردستاني يظل مصدر قلق كبير لانقرة في العلاقات مع العراق. كما أن تركيا كانت مستاءة من إدراج العراق وحدات حماية الايزيديين في سنجار ضمن قوات الحشد الشعبي.

وفي المقابل، أشار التقرير إلى أن العراق مستاء من زيادة الجيش التركي لوتيرة هجماته على أهداف موالية لحزب العمال الكردستاني داخل العراق وإقامته لعشرات المواقع العسكرية داخل اقليم كردستان وأجزاء اخرى من شمال العراق الأوسع، وبالإضافة إلى ذلك، فإن لدى بغداد شكاوى من التقاعس التركي في تقييد انشطة تنظيم داعش عندما كان يبسط سيطرته على أجزاء كبيرة من العراق وسوريا في السنوات الماضية.

وإلى جانب ذلك، تناول التقرير في إطار التعقيدات في العلاقات، قضية السماح بتصدير النفط من اقليم كوردستان الى تركيا التي تعتبر أن احتياطيات الغاز والنفط في الإقليم مصدرا موثوقا ومنخفض التكلفة للطاقة لاقتصادها المتنامي، في حين سعى العراق، وبالتالي ايران، الى كسر الآمال التركية من خلال اعادة تأكيد سيطرة بغداد على قطاع الطاقة الكوردي، مثلما جرى من خلال محاكم محلية ودولية مؤخراً.

لكن التقرير أشار إلى أن ملف الطاقة هو أيضاً سيف ذو حدين إلى حد كبير، حيث أن إيقاف تركيا لما يقرب من نصف مليون برميل من صادرات نفط إقليم كردستان وكركوك منذ قرار غرفة التجارة الدولية في باريس، قد كلف العراق أكثر من ملياري دولار من الخسائر حتى الآن.

وبعدما شدد التقرير على أهمية النظر إلى الزاوية الجيوسياسية الإقليمية، حيث أن العراق يقع ضمن محور التنافس على النفوذ الإقليمي بين تركيا وإيران، والذي يرتبط بدوره بالمشهد السياسي العراقي وانقساماته الداخلية التي تلعب دوراً مهماً في تشكيل الحسابات التركية والعراقية والإيرانية.

ولفت في هذا السياق إلى العلاقات المتباينة التي تربط إيران وتركيا بالقوى الحزبية والطائفية داخل العراق من السنة والشيعة والكرد.

وتابع قائلاً أن الإنقسامات الداخلية للنظام العراقي تحول دون قدرته على ممارسة دوره كجهة دولة واحدة، وهو ما يتيح مساحة كبيرة للتدخل الخارجي وممارسة أدوار في تحديد الديناميكيات المحلية للعراق.

وفي هذا الإطار، قال التقرير إن “المياه هي التي تبرز بشكل متزايد كنقطة خلاف رئيسية للعراق ونفوذ رئيسي لتركيا على خلفية علاقة صعبة ومعقدة ومتعددة الطبقات”.

أزمة المياه المتزايدة

وفي حين استعاد التقرير الجانب التاريخي والحضاري والثقافي لنهري دجلة والفرات، قال إنهما كانا حاضرين في التراث الأدبي للعديد من الشعوب التي عاشت وازدهرت على النهرين، مذكرا بأبيات للشاعر اليهودي البغدادي انور شاؤول (1904-1984) الذي عبر بعبارات قوية عندما كتب: “طفولتي ازدهرت على مياه نهر الفرات…. أيام شبابي شربت من نهر دجلة”.

ويقول التقرير أن النهرين للمرة الأولى في تاريخهما، أصبحا معرضين لخطر جسيم بسبب تناقص منسوب المياه وهو تراجع بلغت نسبته 40 % خلال العقود الأربعة الماضية، بينما تتخوف السلطات العراقية من جفاف الفرات بحلول العام 2040 بسبب التغيير المناخي وسوء إدارة المياه، بينما صنفت الأمم المتحدة العراق على أنه خامس أكبر دولة تعرضا للتأثر بالتغييرات المناخية في العالم. 

وعلى الرغم من الإشارة إلى أن التغيير المناخي يتجلى بشكل أساسي بوضوح في تراجع معدلات هطول الأمطار وخسارة الأراضي الزراعية وتزايد التصحر، إلا أن التقرير قال أن السياسة المتبعة على المستويين الوطني الداخلي والعابر للحدود، تعتبر في أساس مجموعة الأسباب التي قادت إلى الحالة الكارثية للنهرين. ولفت إلى أن نحو 90 % من تدفق نهر الفرات و 46 % من تدفق نهر دجلة، ينشأ من تركيا.

وفي قلب الأسباب الكامنة وراء انخفاض منسوب المياه في نهري دجلة والفرات في العراق، قال التقرير إنها السدود الـ22 التي شيدتها الحكومة التركية أو تخطط لها كجزء من مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP) المخطط له منذ ستينات القرن الماضي، والذي يوصف بأنه أكبر مشروع تنمية من حيث الحجم والأكثر تكلفة (تقدر بنحو 30 مليار دولار) في تاريخ البلاد.

وبعدما تحدث التقرير عن موقف تركيا “الإشكالي” بنظرتها القانونية الى النهرين حيث لا تعتبر انهما “نهران دوليان” كما تشير وثيقة غير مؤرخة منشورة على موقع وزارة الخارجية التركية، وبالتالي فإنها تعتبر أنه ليس لدى العراق وسوريا حقوق مكتسبة فيهما باستثناء حصتهما “العادلة” وليست “المتساوية”، وتقوم انقرة بالتالي باستغلال مياه النهرين من أجل “صناعتها الزراعية وسكانها”، وطبقت منذ الثمانينيات سيطرتها على تدفق النهرين بنجاح، واستخدمتهما كأداة للضغط على دول مشاطئة اخرى، اي العراق وسوريا. 

وبحسب التقرير، فإنه حتى عقد مضى كان العراق يحصل على حوالي 625 متراً مكعباً من المياه في الثانية من نهر دجلة، ولكن في أواخر العام 2022، انخفض متوسط ​​المعدل بمقدار الثلث إلى حوالي 200 متر مكعب في الثانية.

وتابع التقرير أن كمية المياه المتاحة لكل عراقي تراجعت بمقدار النصف من أكثر من 5 آلاف متر مكعب في العام 1997 إلى 2400 متر مكعب في العام 2009. وذكر التقرير بتصريح للمتحدث باسم وزارة الموارد المائية العراقية في أواخر أبريل/ نيسان الماضي بأن العراق كان يتلقى 313 مترا مكعبا فقط في الثانية من نهر دجلة و 175 مترا مكعبا في الثانية من نهر الفرات.

وفي حين قال التقرير إن شح المياه ترك أثراً كبيراً على الحياة في العراق، خصوصا في المناطق الجنوبية، ما يخلق تداعيات على الاستقرار السياسي في محافظات مثل البصرة، وهي المركز الرئيسي لإنتاج النفط، وأيضاً في ذي قار حيث يثير شح المياه احتجاجات عنيفة وتمردات عشائرية صغيرة. وتابع التقرير أن “المسؤولين يشعرون بالرعب من أن مثل هذه السيناريوهات قد تزداد وتيرتها وحدتها مع تفاقم نقص المياه”.

وحذر من أن الأزمة المائية تهدد بإحداث تحولات ديموغرافية كبيرة ايضا، مما يؤدي إلى انخفاض عدد السكان في أجزاء كبيرة من المناطق الجنوبية والهجرة إلى المناطق الشمالية التي تحتوي على المزيد من المياه.

خيارات أمام العراق 

وذكر التقرير أن العلاقات العراقية -التركية معقدة بسبب لأن الأولويات والتوقعات ليست متطابقة، حيث تعتقد انقرة أن محاربة حزب العمال الكردستاني تمثل اولوية قصوى، مضيفا انه بالنظر الى أن انقرة تنظر الى الحزب باعتباره تهديدا أمنيا، وبالنظر إلى علاقة الحزب الوثيقة بالجماعات شبه العسكرية الموالية لإيران داخل العراق، فإن مسألة حزب العمال الكردستاني بالنسبة لتركيا لها أيضاً أبعاد إقليمية أوسع تتعلق مباشرة بالسياسة العراقية بأكملها والمنافسات الجيوسياسية الإقليمية. 

وأوضح التقرير أن إهتمام تركيا بالعراق بالرغم من تركيزه المباشر على وجود حزب العمال الكردستاني، إلا أنه يتجاوز الحزب بدرجة بعيدة، حيث يتداخل الإهتمام مع صراعات وطموحات أنقرة الإقليمية الأوسع، خصوصاً في ظل سياستها الخارجية المتزايدة بحزمها منذ العام 2015.

ورجح التقرير بأن تركيا من أجل إخضاع العراق لإرادتها، فإنها قد تعمد إلى تحويل المياه إلى سلاح تستخدمه عند رغبتها، وهو ما ستكون له تأثيرات ملموسة كبيرة فيما يتعلق بمجاري الأنهار في العراق، خصوصاً في المناطق الجنوبية للعراق حيث القاعدة الشعبية للشيعة الحاكمين في العراق. 

إلا أن التقرير لفت إلى أنه في ظل الأزمة المائية المتفاقمة في كافة أنحاء العراق، فإن تأثير سياسة التركية البخيلة فيما يتعلق بالمياه، سيمس أيضاً المجتمعات السنية والكردية التي ترتبك انقرة معها بعلاقات أقوى، مشيراً إلى أنه المحتمل أن تؤدي قضية المياه إلى إضعاف شعبية تركيا في كافة أنحاء العراق.

ورأى التقرير أن خيارات العراق للتأثير بهدف تغيير سلوك تركيا فيما يتعلق بالمياه محدودة للغاية، مذكراً بأنه من غير المؤكد أن بإمكان العراق اللجوء إلى التحكيم الدولي لأن تركيا ليست من الدول الموقعة على اتفاقية الأمم المتحدة لعام 1997 بشأن قانون الاستخدامات غير الملاحية للمجاري المائية الدولية والتي تعتبر المعاهدة الوحيدة التي تنظم استخدام المجاري المائية الدولية والأنهار العابرة للحدود.

بالاضافة إلى ذلك؛ قال التقرير إنه بينما تقوم تركيا بإظهار قوتها العسكرية وقدرتها على زعزعة استقرار العراق من خلال ضرب اهداف في عمق الأراضي العراقية بشكل متكرر، فإن العراق في المقابل، لا يتمتع بمثل هذا النفوذ العسكري على تركيا، العضو في حلف الناتو الغربي، مشيراً إلى أن الهجمات المحدودة التي تشنها مجموعات في الحشد الشعبي ضد المواقع العسكرية التركية في شمال العراق تكاد تكون معدومة التأثير.

ولفت إلى إمكانية وضع القضية المائية مع تركيا في إطار منظور أوسع كإدراج الأهوار في قائمة اليونسكو لمواقع التراث العالمي، وطرح قضية المياه إلى جانب جوانب اخرى من علاقاته الثنائية مع تركيا، مثل الاستثمار والتجارة والطاقة والأمن.

وفي ظل عدم توفر أوراق ضغط فعالة بين يدي العراق، فإنه كان يحاول جذب تركيا بالدرجة الأولى من خلال زيادة التجارة والاستثمار على نطاق واسع وفرص التعاقد أمام الشركات التركية، بما في ذلك من خلال مشروع “قناة التنمية” المعلن عنه في آذار/مارس الماضي.

واشار الى انه برغم ان السوداني تمكن خلال زيارته الى انقرة من إقناع اردوغان  باطلاق المزيد من المياه نحو الجانب العراقي من نهر دجلة، الا ان تركيا قامت بتقليص التدفقات المائية الى العراق منذ أواخر ابريل /نيسان مرة اخرى.

ونقل التقرير عن عميد كلية جامعة النهرين علي فارس حامد اقتراحاً يتمثل في إشراك الشركات التركية في مشاريع زراعية وإنتاج غذائي واسعة في جنوب العراق والتي من الطبيعي أن تحتاج الى تدفق مستمر من المياه المتدفقة من تركيا الى الانهار العراقية. 

وختم التقرير بالقول انه بالامكان القول ان العلاقة التركية العراقية ستبقى معقدة للغاية وغير متوازنة في السنوات المقبلة، حيث أن الحكومة في بغداد لا تمسك بزمام الأمور الرئيسية التي تهم تركي، ولا سيما الأمن. واوضح ان ان وجود أطراف فاعلة متعددة في صنع القرار على الصعيدين المحلي والأجنبي داخل العراق بدرجات متفاوتة من السلطة على القضايا التي تهم كل من العراق وتركيا يعرقل التطبيق الفعال للسياسة من قبل الدولة العراقية. 

ولهذا، يقول التقرير أنه ظل هذا الواقع، فان ما هو مؤكد انه بدون اعادة صياغة جذرية للوضع داخل العراق، فان البلد سيزداد عطشاً وضعفاً مقارنة بتركيا طالما استمر الاتجاه الحالي للجفاف وسوء إدارة الموارد المائية والنمو السكاني والأساليب الزراعية القديمة المعتمدة على كثافة الاستهلاك المائي.

اترك تعليقا