المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

العنف المُتمدّن.. المُدن المزدحمة تُمارس لا شعوريّا عنفها المُبرّر

تُبنى الاحتياجات البشرية الطبيعية على عناصر أساسية، لكن المجتمعات ـ على الاغلب ـ لا تعيش هذه الاحتياجات كما يجب ان تكون بل تُجبر على العيش على نقيضاتها، او كما يُصطلح عليه “قواعد فرض الموت”.

وهذه القواعد التي صيّرتها الطبيعة البشرية بتعاقب الأجيال الى سلوك سوي واعتيادي يمارسه الفرد او المجتمع وحتى السلطة كانه صيرورة طبيعية لحياة الانسان، ما يجعل المفاهيم المقلوبة والملتوية هي المفاهيم السائدة التي سيجد الفرد نفسه معتنقا إياها ومدافعا عنها مقابل حقه في الحياة.

فاحتياجات الانسان الرئيسية تبتديء بالمحطة الأساس وهي البقاء لكنها تجد نفسها امام الزوال والفناء كنتيجة حتمية، وتتبعها حاجة الرفاه الا ان البؤس والشقاء يتغلب عليها بصورة كبيرة، وحاجة الهوية الوطنية او “الهوية الموحّدة” تصطدم بقوة امام أيديولوجيا الهويات المتعددة والفرعية الامر الذي يقود الى تهميشها وحصرها في زاوية السبّة والخيانة اما الهويات التي تكتسب شرعية غير مشروعة حتى تصار الهوية الوطنية ومن يحملها الى الشعور بالاغتراب الداخلي او المنفى الرمزي، فضلا عن حاجة الحرية التي تتشظى امام القمع السلطوي والفكري وخاصة في المجتمعات شرق الأوسطية التي تُهدر فيها الحرية وتُنحر على مقاصل القبلية والتطرف الديني والعقائدي.

ومن هذه الأنماط الثمانية المتصارعة تنشأ روح العنف والتطرف العنيف المؤدي الى الإرهاب، ولعل من اكثر المتناولين دقة لهذه المتلازمة البشرية هي الفيلسوفة (حنا ارندت) التي تركت تفسيرات العنف النفسية والاجتماعية وتاويلاته، انما مَحورت الدلالات العنيفة حول التغذية والاذكاء المقصود وغير المباشر للعنف وعلى راس هذه الأسباب هي السلطة الحاكمة.

الدكتور يوهان غالتونج الاب المؤسس لدراسات العنف والسلام قسم العنف العالمي الى أنواع ثلاثة، بين محسوس مستشعر واخر هلامي ورمزي، تتدرج فيه الخطورة من الأقل الى الأكثر أي الملازم للافراد والمجتمعات والذي يتحول الى سمة جماهيرية يعتنقها الفرد العنيف او المجتمع العنيف دون الشعور بها؛ يبدأ تقسيمه ـ يوهان غالتونج ـ للعنف بالدرجة الأساس على “العنف المباشر”، ويقصد بذلك العنف هو أي اذى جسدي او إهانة مباشرة او حرمان مُستشعر يعيشه الإنسان وينعكس على سلوكيات الافراد والمجتمعات، كنتيجة الحروب والصراعات والصدامات المسلحة والأعراف القبلية القاسية والتعاليم الدينية التي تمتاز بالاضطهاد وإلغاء الاخر واستباحة حقوقه، والنوع الثاني من العنف هو (العنف غير المباشر او العنف البنيوي) وهذا العنف الذي يُولد في المجتمعات ثم يتحول إلى أعراف وسنن وحتى إلى قوانين، ويتمظهر في الأديان والطوائف والقبائل فضلاً عن مؤسسات الدولة وعلى رأسها التعليم والأمن والقضاء، ويتحول بمرور الزمن إلى سياقات مجتمعية وسلوكيات لا يتمكن المواطن بفعل آثارها من التمييز ما بين هو صحيح وخاطيء، بل أن يربو وينشأ على العنف كسليقة وسجيّة طبيعية ويعكسها في تصرفاته اليومية وطرق تعاملها مع نفسه واسرته والمجتمع، ثم يصل غالتونج في تصنيفها إلى النوع أو البعد الثالث للعنف ألا وهو (العنف الثقافي)، وهذا العنف باختصار الشرح هو أيديولوجيا او مفاهيم التبرير، وهذه المفاهيم يأتي دور استكمالا لتبرير نوعي العنف (العنف المباشر والعنف البنيوي غير المباشر)، وهذه هي النتيجية الأخطر التي تذهب إلى فكرة تبرير الحروب والصراعات والقرارات التعسفية القمعية باعتبارها حلولاً لا بد منها أو حلولاً أساس في الدرجة الأولى، الأمر الذي يقود السلطات والمجتمعات إلى التباهي بلبس اثواب العنف وشرعنة السلوك العنيف، وتسمية الإنسان العنيف بالإنسان القوي والصالح.

في العام 1958 تحديداً، قام العالم (جون كريستيان) بدراسة عن الغزلان التي تعيش على جزيرة (جيمس) في خليج (تشيزابيك)، لاحظ كريستيان وقتها ان الغزلان تموت باعداد كبيرة دون تعرضها للافتراس او عوامل بيئية سامة، مات من هذه الغزلان حوالي 200 غزال باعراض مشابهة في سنة واحدة، وعند تشريح هذه الغزلان لغرض الوقوف على الأسباب والعوامل المؤدية الى الموت، اظهر التشريح الدقيق والمتسلسل الى تضخم الغدد الكظرية (غدة فوق الكلية) هذه الغدد المسؤولة عن افراز هرمون الادرينالين الذي يسبب حالة التحفيز لدى الكائنات، كانت جزيرة (جيمس) تبلغ مساحة نصف ميل مربع، وبالتقسيم الاحصائي لحركة الغزلان عليها فان نصيب كل غزال للحركة والنشاط على هذه الجزيرة كان قرابة خمسة الاف متر او اقل منها، وبالقياس الاحيائي للغزلان فانها تحتاج الى أربعة اضعاف هذا الرقم، فحين ازداد عدد الغزلان على الجزيرة اصابتهم اعراض التوتر والضغط العصبي والشد النفسي الناجم عن الاكتظاظ نتيجية الزحام بينها، أدى ذلك بصورة طبيعية الى زيادة افراز هرمون الادرينالين بكميات كبيرة فاضطربت هرموناتها وماتت تلقائيا دون سبب خارجي، هذه العوامل ذاتها التي لو تم قياسها على الجنس البشري بحسب راي عالم النفس (جون بي كالهون) ستقود حتما الى اضطرابات نفسية بشرية تنتج سلوكا عنيفا تصارعيا يقود ينتهي بالنزاع والاشتباك والصراع، بصورة بسيطة بدائية ثم يتطور الى العنف والصراع من اجل البقاء والهيمنة.

بناءً على ما تقدم يطلق (كولن ولسن) نظرية “العنف المُتمدن” تحت يافطة “في المدن الكبرى تسقط القيم”، واحد أنواع مسببات هذا العنف هو الزحامات في المدن واكتضاضها بالسكان، وعلى وجه الخصوص المدن التي تحمل مزيجا غير متجانس من القبليات والثقافات المختلفة والمستويات والفوارق الاقتصادية المتفاوتة، والأديان المتشنجة، هذه الظروف تُولد هاجس الخوف من الآخرين لدى الفرد وشعور الاغتراب الداخلي واستحالة التعايش مع المختلف ناهيك عن تمسكه بعاداته وتقاليده معتقداً إياها بانها القيّم التي تحافظ على بقائه وكينونته، من هنا تولد فكرة الاندماج والانغماس في المشابهين له والذوبان في الروابط السلوكية التي نشأ عليها وترعرع، بهذه الحالة تحديداً تولد الطائفة الناجية والجماعة الصالحة والعشيرة القوية الأصح من غيرها، التي تعتبر كل من لا يتماشى مع موروثها ويخالفها عدواً لدودا لها، مُولّدة استحالة التعايش مع المختلف وعلى الأقل تقديراً قبوله والتسامح معه، وفي هذه المدن المكتضة تتحول الحياة إلى سجن كبيرة لا تحده الجدران يرسم فيه المواطن المنغمس في الجماعة تخيلات وهمية بانه بين خيارين لا ثالث لهما، خياري (الضحية والجلاد) وليس من المقنع أن يكون في طبقة الضحايا، لذا فان عليه ـ حسب اعتقاده ـ أن يكن جلاداً مع طبقة الجلادين (المُبررة) ليبقى على قيد البقاء ويحقق احتياجاته الأساسية في العيش، فالعنف إذا بنظر الجماعة هو سبيل للبقاء والوجود يتماشى مع الشرع والعرف وحتى القانون.

وكلما تزداد المدن تخمة بالسكان، سواءً على مستوى الولادات أو الهجرة للحاجة الاقتصادية تزداد منابع وصور العنف، ولعل من الأمثلة على ذلك العاصمة العراقية بغداد، وتيلها مباشرة محافظة البصرة، التي أُتخمت بالهجرة العكسية (السلبية) كنتيجة حتمية للبطالة والفقر والتصحر وانخفاض مناسيب المياه، وقرارت تطويب الأراضي الزراعية وتحويل جنسها إلى أراضٍ سكنية، ليواجه المجتمع بعضه بعضاً بالزحامات الشديدة المرهقة، وتضاؤل فرص العمل نتيجة ازدياد الكثافة السكانية، وتداخل الثقافات غير المتجانسة فضلاً عن ضعف عوامل الضبط الحكومي والمجتمعي التي تتيح إبداء واذكاء الفوضى للقوي وتشرعنها على حساب الآخرين، الأمر الذي يصبغ العنف بصبغة البقاء، والبقاء سمة البشرية واحتياجها الأول والأساس. فالعنف السلوكي بهذه الحالة عنف مبرر (عنف متمدن) على حساب كل أدوات الضبط والحقوق والتعايش.

حسيني الاطرقجي/ صحفي وباحث

اترك تعليقا