المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

القوة العظمى التي تشك في ذاتها


لاينبغي للولايات المتحدة الأمريكية أن تتخلى عن العالم الذي صنعته
الكاتب: فريد زكريا : و صحفي ومؤلف أميركي. يعمل مقدماً لبرنامج فريد زكريا جي بي إس الأسبوعي على قناة سي إن إن، ويكتب في صحف واشنطن بوست ونيوزويك وهو محرر طبعتها الدولية، ومحرر بارز في مجلة التايم.
الناشر: مجلة الفورن افيرز
تاريخ النشر : كانون الأول 2023
ترجمة المعهد العراقي للحوار: د. نصر محمد علي
رابط النشر :
https://www.foreignaffairs.com/united-states/self-doubting-superpower-america-fareed-zakaria
يعتقد معظم الأميركيين أن بلادهم في حالة تراجع. فعندما سأل مركز بيو للأبحاث ، في عام 2018، الأمريكيين عن شعورهم إزاء أداء بلادهم في عام 2050، اتفق 54% من المشاركين على أن الاقتصاد الأمريكي سيكون أضعف. واتفق عدد أكبر، 60%، على أن الولايات المتحدة ستكون أقل أهمية في العالم. هذا يجب ان لا يكون مفاجئا؛ إذ ساد الجو السياسي لبعض الوقت شعوراً بأن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ. وتبعاً لاستطلاع أجرته مؤسسة غالوب منذ مدة طويلة، فإن نسبة الأميركيين “الراضين” عن الطريقة التي تسير بها الأمور لم تتجاوز 50 في المائة منذ عشرين عاماً. فيما تبلغ في الوقت الراهن 20 بالمائة.
كانت إحدى طرق التفكير، على مدى العقود الماضية، بشأن من سيفوز بالرئاسة هي طرح السؤال التالي: من هو المرشح الأكثر تفاؤلاً؟ وبدءاً من جون كينيدي مروراً برونالد ريغان وصولاً إلى باراك أوباما، بدا أن النظرة الأكثر إشراقا هي الورقة الرابحة. لكن في عام 2016، انتخبت الولايات المتحدة سياسيًا كانت حملته الانتخابية مبنية على التشاؤم والكآبة. فقد شدد دونالد ترامب على أن الاقتصاد الأمريكي كان في “حالة كئيبة”، وأن الولايات المتحدة “تعرضت لعدم الاحترام والسخرية والسرقة” في الخارج، وأن العالم كان “في حالة من الفوضى الكاملة”. وتحدث في خطاب تنصيبه عن “المذبحة الأمريكية”. لقد أعادت حملته الحالية تمثيل هذه المواضيع الأساسية. وقبل ثلاثة أشهر من إعلان ترشحه، أصدر فيديو بعنوان “أمة في تراجع”.
كانت حملة جو بايدن الرئاسية لعام 2020 أكثر تقليدية بكثير. وكثيراً ما كان يمجد فضائل الولايات المتحدة، وكثيراً ما كان يردد تلك الجملة المألوفة: “إن أفضل أيامنا لا مازالت تنتظرنا”. ومع ذلك، فإن الكثير من استراتيجيته في الحكم كانت مبنية على فكرة مؤداها أن البلاد كانت تتبع المسار الخاطئ، حتى في ظل الرؤساء الديمقراطيين، كما هو الحال في إدارتي أوباما وبايدن. وانتقد جيك سوليفان مستشار الأمن القومي لبايدن، في خطاب ألقاه في أبريل/نيسان 2023، “الكثير من السياسة الاقتصادية الدولية في العقود القليلة الماضية”، ونحى باللائمة على العولمة وتحرير التجارة في تفريغ القاعدة الصناعية للبلاد، وتصدير الوظائف الأمريكية، وإضعاف بعض الصناعات الأساسية.
وفي وقت لاحق من هذه الصفحات، أعرب عن قلقه من أنه “على الرغم من أن الولايات المتحدة الامريكية ظلت هي القوة المتفوقة في العالم، غير أم بعض عضلاتها الأكثر حيوية قد اعتراها الضمور”. وهذا نقد مألوف لعصر الليبرالية الجديدة، الذي ازدهرت فيه عدد قليل من الدول، فيما تخلف الكثيرون عن الركب. الأمر يتجاوز مجرد النقد. إذ أن العديد من سياسات إدارة بايدن إلى ترمي إلى تصحيح التفريغ الواضح في الولايات المتحدة الأمريكية، وتعزيز المنطق القائل بأن صناعاتها وشعبها بحاجة إلى الحماية والمساعدة من خلال التعريفات الجمركية، والإعانات، وأنواع أخرى من الدعم. قد يكون هذا النهج، إلى حد ما، بمثابة استجابة سياسية لواقع مؤداه أن بعض الأميركيين قد تخلفوا عن الركب ويعيشون في ولايات متأرجحة حاسمة ، الأمر الذي يجعل من المهم استمالتهم وتودد أصواتهم. لكن العلاجات هي أكثر بكثير من مجرد لحوم حمراء سياسية فهي بعيدة المدى ومهمة. وتفرض الولايات المتحدة الأمريكية حاليا أعلى تعريفات جمركية على الواردات منذ قانون سموت هاولي لعام 1930. وباتت السياسات الاقتصادية التي تنتهجها واشنطن دفاعية على نحو متزايد، ومصممة لحماية الدولة التي من المفترض أنها خسرت في العقود القليلة الماضية.
إن الاستراتيجية الكبرى للولايات المتحدة المبنية على افتراضات خاطئة ستقود البلاد والعالم إلى الضلال. تظل الولايات المتحدة، استناداً على مقياس تلو الآخر، في موقع قيادي مقارنة بمنافسيها ومنافسيها الرئيسيين. لكن مع ذلك، فهي تواجه مشهداً دولياً مختلفاً تمام الاختلاف. إذ بزغت قوة وثقة العديد من القوى في أنحاء العالم كافة. ولن يوافقوا بخنوع على الاملاءات الأمريكية. ويسعى بعضهم بنشاط إلى تحدي الوضع المهيمن للولايات المتحدة الأمريكية والنظام الذي تم بناؤه حوله. وفي هذه الظروف الجديدة، تحتاج واشنطن إلى استراتيجية جديدة، استراتيجية تدرك أنها تظل قوة هائلة ولكنها تعمل في عالم أقل هدوءاً بكثير. إن التحدي الذي يواجه واشنطن هو الجري بسرعة ولكن دون الخوف. ومع ذلك، لا يزال الذعر والشك الذاتي يسيطران عليها اليوم.
مافتئت ]الولايات المتحدة الأمريكية[ في المرتبة الأولى
وعلى الرغم من كل الحديث عن الخلل الوظيفي والانحلال الأميركي، فإن الواقع مختلف تمام الاختلاف، ولاسيما عند مقارنتها بالدول الغنية الأخرى. ففي عام 1990، كان نصيب الفرد في الدخل في الولايات المتحدة الأمريكية (مُقاسة على أساس القوة الشرائية) أعلى بنسبة 17% مقارنة بنظيره في اليابان، وأعلى بنسبة 24% بنظيره في أوروبا الغربية. أما اليوم فقد ارتفعت بنسبة 54% و32% على التوالي. كما كان حجم الاقتصاد الأميركي، بالأسعار الراهنة، واقتصاد منطقة اليورو متساوياً تقريباً في عام 2008. ويبلغ حجم الاقتصاد الأمريكي في الوقت الراهن ضعف حجم اقتصاد منطقة اليورو تقريباً. ربما يُطرح سؤال على أولئك الذين ينحون باللائمة على عقود من الركود في الولايات المتحدة الأمريكية على سياسات واشنطن: مع أي اقتصاد متقدم قد ترغب الولايات المتحدة الأمريكية في أن تحل محله على مدى السنوات الثلاثين المنصرمة؟
من حيث القوة الصلبة، فإن البلاد تتمتع في وضع استثنائي أيضاً. يرى المؤرخ الاقتصادي أنجوس ماديسون أن القوة الأعظم في العالم هي في كثير من الأحيان القوة التي تحظى القِدْح المعلّى في أهم التقنيات في ذلك الوقت – هولندا في القرن السابع عشر، والمملكة المتحدة في القرن التاسع عشر، والولايات المتحدة في القرن العشرين. وربما تكون الولايات المتحدة في القرن الحادي والعشرين أقوى مما كانت عليه في القرن العشرين. ولنقارن موقفها في عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الفائت، على سبيل المثال، بوضعها في الوقت الراهن. ففي الوقت الذي كان من الممكن فيه، وقتذاك، العثور على شركات التكنولوجيا الرائدة – الشركات المصنعة للإلكترونيات الاستهلاكية، والسيارات، وأجهزة الكمبيوتر – في الولايات المتحدة وفي ألمانيا واليابان وهولندا وكوريا الجنوبية أيضاً، لكن في الواقع كان من بين الشركات العشر الأكثر قيمة في العالم في عام 1989، أربع شركات فقط أمريكية، والست الأخرى يابانية. أما في الوقت الراهن فان الشركات التسع الأولى هي أمريكية.
زد على ذلك، تتمتع شركات التكنولوجيا العشر الأولى الأكثر قيمة في الولايات المتحدة قيمة سوقية إجمالية أكبر من القيمة المجمعة لأسواق الأسهم في كندا وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة. وإذا ما كانت الولايات المتحدة تهيمن بشكل كامل على التقنيات الأكثر انتشاراً في الوقت الراهن- التي تتمحور حول الرقمنة وشبكة المعلومات الدولية (الإنترنت)- فإنها تبدو أيضاً مستعدة للنجاح في صناعات المستقبل، مثل الذكاء الاصطناعي والهندسة الحيوية. فقد اجتذبت الولايات المتحدة الأمريكية في عام 2023، حتى كتابة هذه السطور،26 مليار دولار من رأس المال الاستثماري لشركات الذكاء الاصطناعي الناشئة، أي حوالي ستة أضعاف ما اجتذبته الصين، التي تعد ثاني أكبر متلقٍ ]لرأس المال المذكور[. كما وتستحوذ أمريكا الشمالية على 38 بالمائة من الإيرادات العالمية ،في مجال التكنولوجيا الحيوية، في حين تمثل آسيا بأكملها 24 بالمائة.
هناك تسع شركات أمريكية من بين الشركات العشر الأكثر قيمة في العالم
أضف إلى ذلك، تقود الولايات المتحدة ما كان تاريخياً سمة أساسية لقوة أي دولة: ألا وهي الطاقة. وهي اليوم أكبر منتج للنفط والغاز في العالم، حتى أنها أكبر من روسيا أو المملكة العربية السعودية. وتعمل الولايات المتحدة أيضاً على توسيع إنتاج الطاقة الخضراء بشكل كبير، ويرجع الفضل في ذلك، إلى حدٍ ما، الحوافز الواردة في قانون الحد من التضخم لعام 2022. أما بالنسبة للتمويل، لاحظ قائمة البنوك التي صُنفها مجلس الاستقرار المالي – وهي هيأة رقابية مقرها سويسرا- على أنها “ذات أهمية نظامية على مستوى العالم، فالولايات المتحدة لديها ضعف عدد هذه البنوك مقارنة بالدولة التالية، الصين. ويظل الدولار هو العملة المستخدمة في ما يقرب من 90 بالمائة من المعاملات الدولية. صحيح ان احتياطيات البنوك المركزية من الدولار في السنوات العشرين المنصرمة قد انحسرت، غير أنه لا توجد عملة منافسة أخرى تقترب من ذلك.
أخيراً، إذا كانت الديموغرافيا هي القدر، فإن الولايات المتحدة لديها مستقبل مشرق. فهي وحدها بين الاقتصادات المتقدمة في العالم، وتتمتع صورتها الديموغرافية بصحة جيدة إلى حد معقول، حتى وإن ساءت في السنوات الأخيرة. ويبلغ معدل الخصوبة في الولايات المتحدة في الوقت الراهن حوالي 1.7 طفل لكل امرأة، أي أقل من مستوى الاحلال البالغ 2.1. ولكن هذا يقارن على نحو إيجابي مع 1.5 في ألمانيا، و1.1 في الصين، و0.8 في كوريا الجنوبية. ومن الأهمية بمكان أن تعوض الولايات المتحدة الأمريكية انحسار معدل الخصوبة لديها من خلال الهجرة والاستيعاب الناجح. وتستقبل البلاد حوالي مليون مهاجر قانوني كل عام، وهو الرقم الذي انخفض ابان سنوات ولاية ترامب وكوفيد-19 ولكنه انتعش منذ ذلك الحين. يعيش واحد من كل خمسة أشخاص على وجه الأرض يعيشون خارج بلد ميلادهم في الولايات المتحدة، ويبلغ عدد سكانها المهاجرين ما يقرب من أربعة أضعاف عدد سكان ألمانيا، ثاني أكبر مركز للهجرة. ولهذا السبب، فبينما من المتوقع أن تشهد الصين واليابان وأوروبا انخفاضاً سكانياً في العقود المقبلة، ينبغي للولايات المتحدة أن تستمر في النمو.
بطبيعة الحال، هناك العديد من المشاكل في الولايات المتحدة الأمريكية. هل هناك دولة لا توجد فيها مشاكل؟ ولكنها تمتلك الموارد اللازمة لحل هذه المشاكل بسهولة أكبر بكثير من معظم البلدان الأخرى. على سبيل المثال، أثبت معدل الخصوبة المنخفض في الصين، وهو إرث سياسة الطفل الواحد، أنه من المستحيل عكس اتجاهه على الرغم من الحوافز الحكومية بأشكالها كافة. وبما أن الحكومة تريد الحفاظ على ثقافة متجانسة، فإن البلاد لن تستقبل المهاجرين للتعويض. وعلى النقيض من ذلك، غالباً ما يكون لنقاط الضعف التي تعتري الولايات المتحدة حلول جاهزة. فقد تعاني البلاد من عبء ديون مرتفع وعجز متزايد. بيد أن العبء الضريبي الإجمالي الذي تتحمله منخفض مقارنة بأعباء الدول الغنية الأخرى. كما ويمكن للحكومة الأمريكية جمع ما يكفي من الإيرادات لتحقيق الاستقرار في مواردها المالية والحفاظ على معدلات ضريبية منخفضة نسبيا. وتتمثل إحدى الخطوات السهلة في تبني ضريبة القيمة المضافة. ويمكن للحكومة الأمريكية جمع ما يكفي من الإيرادات لتحقيق الاستقرار في مواردها المالية والحفاظ على معدلات ضريبية منخفضة نسبياً. وتتمثل إحدى الخطوات السهلة في تبني ضريبة القيمة المضافة. وإذ توجد صيغة من ضريبة القيمة المضافة في الاقتصادات الرئيسية الأخرى في أنحاء العالم كافة، غير أن معدلاتها غالباً ما تصل إلى حوالي 20 بالمائة.
وتشير تقديرات مكتب الموازنة في الكونجرس إلى أن ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5% من شأنها أن تجمع ثلاثة تريليونات دولار على مدى عشر سنوات، ومن الواضح أن المعدل الأعلى من شأنه أن يجمع المزيد. وهذه ليست صورة للخلل البنيوي الذي لا يمكن علاجه والذي سيؤدي حتماً إلى الانهيار.
بين عالمين
إن الولايات المتحدة، على الرغم من قوتها، لا ترأس عالماً أحادي القطب. كانت حقبة التسعينيات من القرن الماضي عالماً خالياً من المنافسين الجيوسياسيين. كان الاتحاد السوفييتي ينهار (وسرعان ما ترنحت خليفته روسيا)، وكانت الصين ماتزال وليدة على الساحة الدولية، وتولد أقل من 2% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ولنتأمل هنا ما كانت واشنطن قادرة على فعله في تلك الحقبة. فقد خاضت حرباً ضد العراق بدعم دولي واسع النطاق ، بما في ذلك موافقة دبلوماسية من موسكو لتحرير الكويت. وأنهت الحروب اليوغوسلافية. فقد نجحت في إقناع منظمة التحرير الفلسطينية بنبذ الإرهاب والاعتراف بالكيان الصهيوني، كما أقنعت رئيس الوزراء الصهيوني إسحاق رابين بعقد السلام ومصافحة زعيم منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات في حديقة البيت الأبيض. وفي عام 1994، بدت حتى كوريا الشمالية مستعدة للتوقيع على اتفاقية الإطار الأمريكي وإنهاء برنامج الأسلحة النووية (وهي كبوة جواد مؤقتة دفعتها للتعاون الودي لكن سرعان ما تعافت منها). وعندما ضربت الأزمات المالية المكسيك في عام 1994 ودول شرق آسيا في عام 1997، أنقذت الولايات المتحدة الموقف بتنظيم عمليات إنقاذ ضخمة. كل الطرق تؤدي إلى واشنطن.
تواجه الولايات المتحدة في الوقت الراهن عالماً فيه منافسون حقيقيون والعديد من الدول التي تؤكد بقوة على مصالحها، وغالباً ما يكون ذلك في سياق تحد لواشنطن. ولفهم الحركية الجديدة، لا تنظر إلى روسيا أو الصين، بل إلى تركيا. قبل ثلاثين عامًا، كانت تركيا حليفًا مطيعًا للولايات المتحدة، وتعتمد على واشنطن في أمنها وازدهارها. كلما مرت تركيا بإحدى أزماتها الاقتصادية الدورية، ساعدت الولايات المتحدة في إنقاذها. واليوم باتت تركيا دولةً أكثر ثراءً وأكثر نضجاً سياسياً، بقيادة الزعيم القوي والشعبوي رجب طيب أردوغان. وهي تتحدى الولايات المتحدة بشكل روتيني، حتى عندما يتم تقديم الطلبات على أعلى المستويات.
ولم تكن واشنطن مستعدة لهذا التحول. ففي عام 2003، خططت الولايات المتحدة لغزو العراق على جبهتين – من الكويت في الجنوب ومن تركيا في الشمال – لكنها فشلت في تأمين دعم تركيا بشكل استباقي، على افتراض أنها ستكون قادرة على الحصول على موافقة ذلك البلد كما كانت تفعل دائمًا. في الواقع، عندما طلب البنتاغون، رفض البرلمان التركي، وكان لا بد من المضي قدماً في الغزو بطريقة متسرعة وسيئة التخطيط، ربما كان لها علاقة بكيفية تدهور الأمور لاحقًا. في الواقع، عندما طلب البنتاغون، رفض البرلمان التركي، وكان لا بد من المضي في الغزو بطريقة متسرعة وسيئة التخطيط، ربما كان لها علاقة بكيفية تدهور الأمور لاحقًا. وفي عام 2017، وقعت تركيا صفقة لشراء نظام صاروخي من روسيا، وهي خطوة وقحة من جانب أحد أعضاء الناتو. وبعد ذلك بعامين، استهزأت تركيا مرة أخرى بالولايات المتحدة من خلال مهاجمة القوات الكوردية في سوريا، حلفاء الولايات المتحدة الذين مالبثوا أن قدموا المساعدة في هزيمة تنظيم داعش هناك.
يناقش الباحثون ما إذا كان العالم في الوقت الراهن أحادي القطب، أو ثنائي القطب، أو متعدد الأقطاب، وهناك مقاييس يمكن استخدامها لإثبات كل حالة. مافتئت الولايات المتحدة الدولة الأقوى منفردة عند جمع مقاييس القوة الصلبة كافة. فعلى سبيل المثال، لديها 11 حاملة طائرات عاملة، مقارنة بحاملتي طائرات في الصين. وعند مراقبة دول مثل الهند والمملكة العربية السعودية وتركيا وهي تستعرض عضلاتها، بات بوسع المرء أن يتصور بسهولة أن العالم متعدد الأقطاب. ومع ذلك فمن الواضح أن الصين هي ثاني أكبر قوة، والبون بين القوتين الأكبر وبقية العالم كبيرة: إذ يتجاوز اقتصاد الصين وإنفاقها العسكري نظيره في الدول الثلاث التالية لها مجتمعة. وكانت الفجوة بين الولايات المتحدة والصين وكل القوة الأخرى هي المبدأ الذي دفع الباحث هانز مورجنثاو إلى الترويج لمصطلح “القطبية الثنائية” بعد الحرب العالمية الثانية. وقال إنه مع انهيار القوة الاقتصادية والعسكرية البريطانية، كانت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي تتصدران على كل دولة أخرى. وبتوسيع هذا المنطق إلى يومنا هذا، فقد يستنتج المرء أن العالم أصبح ثنائي القطب مرة أخرى.
لكن قوة الصين لها حدود أيضاً، وهي مستمدة من عوامل تتجاوز العوامل الديموغرافية. ولديها حليف معاهدة واحد فقط، كوريا الشمالية، وعدد قليل من الحلفاء غير الرسميين، مثل روسيا وباكستان. وان الولايات المتحدة لديها العشرات من الحلفاء. ولا تنشط الصين بشكل خاص، في الشرق الأوسط بنحو خاص، على الرغم من النجاح الذي حققته مؤخراً في رئاسة عملية استعادة العلاقات بين إيران والمملكة العربية السعودية. أما في آسيا، فهي منتشرة في كل مكان اقتصادياً ولكنها تواجه أيضا معارضة مستمرة من دول مثل أستراليا والهند واليابان وكوريا الجنوبية. وباتت الدول الغربية، في السنوات الأخيرة، حذرة من قوة الصين المتنامية في مجال التكنولوجيا والاقتصاد وتحركت للحد من وصولها.
ويساعد مثال الصين على توضيح أن هناك فرقاً بين القوة والنفوذ. اما القوة فهي تتكون من الموارد الصلبة – الاقتصادية والتكنولوجية والعسكرية. النفوذ أقل ماديةً. فهو القدرة على جعل دولة أخرى تفعل شيئًا لم تكن لتفعله لولا ذلك. وبتعبير أبسط، يعني تطويع سياسات دولة أخرى في الاتجاه الذي تفضله. وهذا الأمر هو في نهاية المطاف هدف القوة: القدرة على ترجمتها إلى تأثير. وتبعاً لهذا المعيار، تواجه كل من الولايات المتحدة والصين على السواء عالماً يستبطن قيوداً كثيرة.
وبزغت بلدان أخرى من حيث الموارد، الأمر الذي أدى إلى تغذية ثقتها وفخرها وقوميتها. وبإزاء ذلك، من المرجح أن تؤكد على ذاتها بقوة أكبر على المسرح العالمي. وإذ يصح هاذ الأمر على الدول الصغيرة المحيطة بالصين، إلا أنه ينطبق أيضاً على العديد من الدول التي ظلت لمدة طويلة تدور في فلك الولايات المتحدة الأمريكية. ثمّة فئة جديدة من القوى المتوسطة، مثل البرازيل والهند وإندونيسيا، التي تبحث عن استراتيجيات مميزة خاصة بها. إذ اتبعت الهند في عهد رئيس الوزراء ناريندرا مودي، سياسة “الانحياز المتعدد”، حيث اختارت متى وأين يمكن أن تتبنى قضية مشتركة مع روسيا أو الولايات المتحدة. وفي مجموعة البريكس، انضمت حتى إلى الصين، الدولة التي انخرطت معها في مناوشات حدودية مميتة حتى عام 2020.
حاول العالم السياسي صموئيل هنتنغتون، في مقال نشر عام 1999 في الصفحات الأولى الموسوم “القوة العظمى الوحيدة”، النظر إلى ما هو أبعد من الأحادية القطبية ويصف النظام العالمي البازغ. وكان المصطلح الذي توصل إليه هو “أحادي متعدد الأقطاب”، وهي عبارة غريبة للغاية ولكنها تحمل شيئاً حقيقياً. وعندما كنت أحاول وصف الواقع الآخذ بالظهور في عام 2008، أطلقت عليه اسم “عالم ما بعد أمريكا” لأنه اعترتني الصدمة من أن السمة الأكثر بروزاً كانت أن الجميع كانوا يحاولون الإبحار في العالم عندما بدأت الأحادية القطبية الأمريكية تأفل. ولا يزال يبدو أن هذه هو السبيل الأفضل لوصف النظام الدولي.
الاضطراب الجديد
ولنتأمل هنا الأزمتين الدوليتين الكبيرتين في الوقت الراهن، وهما الأزمة العالمية غزو أوكرانيا الحرب بين الكيان الصهيوني وحماس. ففي ذهن الرئيس الروسي فلاديمير بوتن أن بلاده تعرضت للإذلال ابان عصر الأحادية القطبية. ومنذ ذلك الحين، ونتيجة لارتفاع أسعار الطاقة بشكل أساسي، تمكنت روسيا من العودة إلى المسرح العالمي بوصفها قوةً عظمى. لقد أعاد بوتين بناء قوة الدولة الروسية، التي باتت قادرة على استخلاص العائدات من مواردها الطبيعية العديدة. وهو الآن يريد التراجع عن التنازلات التي قدمتها موسكو خلال حقبة القطب الواحد، عندما كانت ضعيفة. لقد كانت تسعى إلى استعادة تلك الأجزاء من الإمبراطورية الروسية التي تعد ذات أهمية في رؤية بوتين لروسيا العظمى – أوكرانيا فوق كل اعتبار، ولكن أيضًا جورجيا، التي غزتها في عام 2008. ومولدوفا يمكن أن تكون التالية، حيث تمتلك روسيا بالفعل موطئ قدم في جمهورية ترانسنيستريا الانفصالي.
استند عدوان بوتين في أوكرانيا إلى فكرة مؤداها أن الولايات المتحدة بدأت تفقد اهتمامها بحلفائها الأوروبيين وأنهم ضعفاء ومنقسمون ومعتمدون على الطاقة الروسية. لقد استحوذ على شبه جزيرة القرم والأراضي الحدودية في شرق أوكرانيا في عام 2014، وبعد ذلك مباشرة، بعد الانتهاء من بناء خط أنابيب نورد ستريم 2 الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا، قرر مهاجمة أوكرانيا على نحو مباشر. وكان يأمل في احتلال البلاد، وبالتالي عكس اتجاه أكبر انتكاسة تعرضت لها روسيا في العصر الأحادي القطب. لقد أخطأ بوتين في حساباته، بيد أنها لم تكن خطوة مجنونة. ففي نهاية المطاف، قوبلت غاراته السابقة بمقاومة قليلة.
شكلت رغبة واشنطن العتيدة، في الشرق الأوسط، المناخ الجيوسياسي التي تقضي بالانسحاب عسكرياً من المنطقة على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية. بدأت هذه السياسة في عهد الرئيس جورج دبليو بوش، الذي شعر بالصدمة بسبب الفشل الذريع للحرب التي بدأها في العراق. واستمر الأمر في عهد الرئيس باراك أوباما، الذي أوضح الحاجة إلى تقليص حضور الولايات المتحدة في المنطقة كي يتسنى لواشنطن من التعامل مع القضية الأكثر إلحاحًا المتمثلة في صعود الصين. وأعلن عن هذه الاستراتيجية على أنها محور لآسيا ولكن أيضاً محور بعيداً عن الشرق الأوسط، حيث شعرت الإدارة أن الولايات المتحدة كانت تستثمر على نحو مفرط عسكرياً. وقد تم التأكيد على هذا التحول من خلال انسحاب واشنطن المفاجئ والكامل من أفغانستان في صيف عام 2021.
ولم تكن النتيجة التشكيل السعيد لتوازن جديد للقوى، بل الفراغ الذي سعى اللاعبون الإقليميون بقوة إلى ملئه. وقد وسعت إيران نفوذها، بفضل حرب العراق، التي قلبت ميزان القوى بين السنة والشيعة في المنطقة. ومع الإطاحة بنظام صدام حسين الذي يهيمن عليه السنّة، أصبح العراق تحكمه أغلبية شيعية، وكان العديد من قادتها يتمتعون بعلاقات وثيقة مع إيران. واستمر هذا التوسع للنفوذ الإيراني في سوريا، حيث دعمت طهران حكومة بشار الأسد، الأمر سمح لها بالبقاء على قيد البقاء تحت وطأة تمرد وحشي. ودعمت إيران الحوثيين في اليمن، وحزب الله في لبنان، وحماس في الأراضي التي يحتلها الكيان الصهيوني.
ثمّة فرق بين القوة والنفوذ
وبسبب كل هذا، بدأت الدول العربية في الخليج وبعض الدول السُنّية المعتدلة الأخرى عملية تعاون ضمني مع العدو الأكبر الآخر لإيران، وهو الكيان الصهيوني. ويبدو أن هذا التحالف المزدهر، تساوقاً مع اتفاقيات إبراهيم لعام 2020 باعتبارها معلماً مهماً، أنه سيتوج بتطبيع العلاقات بين الكيان الصهيوني والمملكة العربية السعودية. وكانت القضية الفلسطينية هي العائق أمام مثل هذا التحالف دائمًا، غير أن تراجع واشنطن وتقدم طهران جعل العرب على استعداد لتجاهل تلك القضية التي كانت ذات يوم هي القضية المركزية. وبالمراقبة عن كثب، اختارت حماس، حليفة إيران، إحراق المنزل، الأمر الذي أعاد الجماعة وقضيتها إلى دائرة الضوء.
إن التحدي الأشد خطورة للنظام الدولي الحالي يأتي من آسيا، في ظل صعود القوة الصينية. وقد يؤدي هذا إلى أزمة أخرى – أكبر بكثير من الاثنتين الأخريين – إذا ما قامت الصين باختبار عزيمة الولايات المتحدة وحلفائها من خلال محاولة إعادة توحيد تايوان بالقوة مع البر الرئيسي. حتى الآن، كان تردد الرئيس الصيني شي جين بينج بشأن استعمال القوة العسكرية بمثابة تذكير بأن بلاده، على عكس روسيا وإيران وحماس، تكسب الكثير من الاندماج الوثيق في العالم واقتصاده. ولكن ما إذا كان ضبط النفس هذا سيصمد هو سؤال مطروح. وان الاحتمالات المتزايدة لغزو تايوان اليوم، مقارنة بما كانت عليه قبل عشرين عاماً على سبيل المثال، تشكل إشارة أخرى على ضعف القطبية الأحادية وصعود عالم ما بعد أميركا.
ثمّة مؤشر آخر على انحسار نفوذ الولايات المتحدة في هذا النظام الناشئ، ألا وهو أن الضمانات الأمنية غير الرسمية قد تفسح المجال أمام ضمانات أكثر رسمية. لعقود من الزمن، عاشت المملكة العربية السعودية تحت مظلة أمنية أمريكية، لكن ذلك كان بمثابة اتفاق نبيل. ولم تقدم واشنطن أي التزامات أو ضمانات للرياض. وإذا ما تعرضت الملكية السعودية للتهديد، كان عليها أن تأمل في أن يأتي الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت لإنقاذها. في الواقع، سارع الرئيس جورج بوش الأب إلى انقاذ المملكة العربية السعودية باستخدام القوة العسكرية في عام 1990، عندما هددها العراق بعد غزو الكويت – ولكن لم يكن يتعين عليها القيام بذلك بموجب أي معاهدة أو اتفاق. تشعر المملكة العربية السعودية، في الوقت الراهن، بأنها أقوى بكثير وتسعى إلى التودد إليها بنشاط من قبل القوة العالمية الأخرى، الصين، التي تعد أكبر عميل لها على الإطلاق. وباتت المملكة، في عهد ولي عهدها الحازم، محمد بن سلمان، أكثر إلحاحاً، حيث طلبت من واشنطن ضمانات أمنية رسمية كتلك التي قدمتها إلى حلفاء الناتو وطالبت كذلك التكنولوجيا اللازمة لبناء صناعة نووية. ولا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة ستوافق على هذه الطلبات – فالسؤال مرتبط بتطبيع العلاقات بين المملكة العربية السعودية والكيان الصهيوني – ولكن حقيقة أن المطالب السعودية تؤخذ على محمل الجد هي علامة على تغير حركية القوة.
القدرة على البقاء
يواجه النظام الدولي الذي بنته الولايات المتحدة واستدامته تحديات على العديد من الجبهات. غير أنها ماتزال اللاعب الأقوى في هذا الترتيب. إن حصتها في الناتج المحلي الإجمالي العالمي لا تزال تقريباً كما كانت في عام 1980 أو 1990. ولعل الأمر الأكثر أهمية هو أنها اكتسبت المزيد من الحلفاء. بحلول نهاية الخمسينيات من القرن المنصرم، كان تحالف “العالم الحر” الذي خاض الحرب الباردة وانتصر فيها، يتكون من أعضاء حلف شمال الأطلسي (الناتو) – الولايات المتحدة، وكندا، و 11دولة من أوروبا الغربية، واليونان، وتركيا – إلى جانب أستراليا ونيوزيلاندا، واليابان، وكوريا الجنوبية. وفي الوقت الراهن توسع التحالف الذي يدعم المؤسسة العسكرية الأوكرانية أو يفرض العقوبات على روسيا ليشمل كل دولة في أوروبا تقريباً، فضلا عن عدد قليل من الدول الأخرى. وبشكل عام، يحوز الغرب إلى جانب الولايات المتحدة حوالي 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي و65% من الإنفاق العسكري العالمي.
إن التحدي المتمثل في مكافحة التوسع الروسي حقيقي وهائل. كان حجم الاقتصاد الروسي، قبل الحرب، يعادل عشرة أضعاف حجم الاقتصاد الأوكراني. ويبلغ عدد سكانها ما يقرب من أربعة أضعاف. مجمّعها الصناعي – العسكري واسع النطاق. لكن لا يمكن السماح لعدوانها بأن ينجح. كانت إحدى السمات الأساسية للنظام الدولي الليبرالي الذي تم وضعه بعد الحرب العالمية الثانية هي أن الحدود التي تم تغييرها بالقوة العسكرية الغاشمة لا يعترف بها المجتمع الدولي. كان هناك عدد قليل جدًا من أعمال العدوان الناجحة من هذا النوع منذ عام 1945، في تناقض ملحوظ مع ما قبل ذلك الوقت، عندما كانت الحدود في أنحاء العالم كافة تتغير تغيراً معتاداً بسبب الحرب والغزو. إن نجاح روسيا في غزوها السافر من شأنه أن يحطم مكسب لم يتم بلوغه إلا بشق الأنفس.
ان التحدي الصيني هو تحدٍ مختلف. فبصرف النظر عن مسارها الاقتصادي الدقيق في السنوات المقبلة، فإن الصين قوة عظمى. ويمثل اقتصادها بالفعل ما يقرب من 20% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. وهي في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة في الإنفاق العسكري. وعلى الرغم من أنها لا تتمتع بالقدر نفسه من النفوذ الذي تتمتع به الولايات المتحدة على المسرح العالمي، إلا أن قدرتها على التأثير على البلدان في أنحاء العالم كافة زادت، وذلك بفضل المجموعة الواسعة من القروض والمنح والمساعدات التي قدمتها. لكن الصين ليست دولة مفسدة مثل روسيا. فقد أصبحت غنية وقوية داخل النظام الدولي وبسببه لذا فهي أكثر قلقاً بشأن الاطاحة بهذا النظام. تبحث الصين وعلى نطاق أوسع عن وسيلة لتوسيع قوتها. وإذا اعتقدت أنها لن تجد سبيلاً للقيام بذلك سوى القيام بدور المفسد، فسوف تفعل ذلك. ينبغي على الولايات المتحدة أن تستوعب الجهود الصينية المشروعة لتعزيز نفوذها بما يتماشى مع نفوذها الاقتصادي المتزايد مع ردع الجهود غير الشرعية. على مدى السنوات القليلة الماضية، شهدت بكين كيف أدت سياستها الخارجية العدوانية المفرطة إلى نتائج عكسية. لقد تراجعت في الوقت الراهن عن “دبلوماسية الذئب المحارب”، وان بعض الغطرسة التي اكتنفت تصريحات شي جين بينج السابقة بشأن “عصر جديد” من الهيمنة الصينية أفسحت المجال أمام الاعتراف بنقاط القوة الأميركية والمشاكل التي تواجهها الصين. ويبدو أن شي، لأسباب تكتيكية على الأقل، يبحث عن تسوية مؤقتة مع الولايات المتحدة الأمريكية. إذ قال لمجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي زارت الصين في أيلول / سبتمبر 2023: “لدينا الف سبب لتحسين العلاقات بين الصين والولايات المتحدة”.
وبصرف النظر عن نوايا الصين، فإن الولايات المتحدة تتمتع بمزايا بنيوية كبيرة. فهي تتمتع بمكانة جغرافية وجيوسياسية فريدة من نوعها. فهي محاطة بمحيطين شاسعين وجارتين ودودتين. ومن ناحية أخرى، فإن الصين تنهض في قارة مزدحمة ومعادية. ففي كل مرة تستعرض فيها عضلاتها، فإنها تؤدي إلى تنفير أحد جيرانها الأقوياء، بدءاً من الهند مروراً باليابان وصولاً إلى فيتنام. كما ان العديد من الدول في المنطقة – أستراليا واليابان والفلبين وكوريا الجنوبية – هي حلفاء فعليون مع الولايات المتحدة وتستضيف القوات الأمريكية. هذه الحركيات تطوق الصين.
ان تحالفات واشنطن في آسيا وأماكن أخرى تعمل بمثابة حصن ضد خصومها. ولكي يصمد هذا الواقع، يجب على الولايات المتحدة أن تجعل من دعم تحالفاتها محور سياستها الخارجية. وفي الواقع، كان هذا في قلب نهج بايدن في التعامل مع السياسة الخارجية. فقد أصلح العلاقات التي توترت في ظل إدارة ترامب وعزز تلك التي لم يعتريها التوتر. لقد وضع ضوابط على القوة الصينية وعزز التحالفات في آسيا، لكنه تواصل لبناء علاقة عمل مع بكين. لقد كان رد فعله على الأزمة الأوكرانية بالسرعة والمهارة التي لا بد أنهما فاجأتا بوتين، الذي يواجه في الوقت الراهن الغرب الذي فطم نفسه عن الطاقة الروسية وفرض العقوبات الأكثر صرامةً في التاريخ ضد قوة عظمى. صحيح أن أي خطوة من هذه الخطوات لاتغني عن ضرورة فوز أوكرانيا في ساحة المعركة، إلا انها تفضي إلى سياق يتمتع فيه الغرب مع الولايات المتحدة بنفوذ كبير فيما تواجه روسيا مستقبلاً قاتماً على المدى الطويل.
خطر التراجع
إن اكبر مثلبة اعترت نهجي ترامب وبايدن في التعامل مع السياسة الخارجية – وهنا يلتقي الاثنان – ينبع من وجهات نظرهما المتشائمة. إذ يفترض كل منهما أن الولايات المتحدة كانت الضحية الكبرى للنظام الاقتصادي الدولي الذي أنشأته. ويفترض كلاهما أن البلاد غير قادرة على المنافسة في عالم الأسواق المفتوحة والتجارة الحرة. ومن المعقول فرض بعض القيود على وصول الصين إلى صادرات الولايات المتحدة ذات التكنولوجيا العالية، لكن واشنطن ذهبت إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث فرضت تعريفات جمركية على أقرب حلفائها على السلع والبضائع من الخشب إلى الصلب إلى ماكينات الغسيل. لقد فرضت متطلبات لاستخدام أموال الحكومة الأمريكية “لشراء السلع الأمريكية”. وهذه الأحكام تنطوي على تقييد أكثر من التعريفات الجمركية. إذ ان التعريفات الجمركية ترفع تكلفة البضائع المستوردة؛ فيما يمنع “شراء السلع الأمريكية” شراء البضائع الأجنبية بأي ثمن. وحتى السياسات الذكية مثل الدفع نحو الطاقة الخضراء يتم تقويضها بفِعل تدابير الحماية المنتشرة التي تنفر أصدقاء الولايات المتحدة وحلفائها.
وقد زعمت نجوزي أوكونجو إيويالا، المدير العام لمنظمة التجارة العالمية، أن الدول الغنية تنخرط الآن في أعمال تنطوي على نفاق كبير. إذ احجم العالم الغربي عن ممارسة ما طالما بشر بها بعد أن أمضى عقوداً من الزمن في حث العالم النامي على التحرير والمشاركة في الاقتصاد العالمي المفتوح وانتقاد البلدان بسبب تدابير الحماية، وإعانات الدعم، والسياسات الصناعية. وبعد أن نمت الثروة والقوة في ظل هذا النظام، قررت الدول الغنية أن تصعد السلم. وعلى حد تعبيرها، فإنهم “لم يعودوا الآن يرغبون في التنافس على قدم المساواة ويفضلون بدلاً من ذلك التحول إلى نظام قائم على القوة بدلا من النظام القائم على القواعد”. ينفق المسؤولون الأمريكيون الكثير من الوقت والطاقة في الحديث عن الحاجة إلى الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد.
ينفق المسؤولون الأمريكيون الكثير من الوقت والطاقة في الحديث عن الحاجة إلى الحفاظ على النظام الدولي القائم على القواعد. ويكمن في جوهر هذا النظام إطار التجارة المفتوحة الذي ارست دعائمه اتفاقية بريتون وودز لعام 1944 والاتفاقية العامة للتعريفات والتجارة لعام 1947. وقد شهد رجال الدولة الذين خرجوا من الحرب العالمية الثانية إلى أين قادت القومية التنافسية والحمائية وكانوا عازمين على الحيلولة دون عودة العالم لهذا الطريق. وقد نجحوا في ايجاد عالم من السلام والرخاء امتد إلى أركان الأرض الأربعة. لقد سمح نظام التجارة الحرة الذي صمموه للدول الفقيرة بأن تصبح غنية وقوية، الأمر الذي جعل من شن الحرب ومحاولة احتلال الأراضي أقل جاذبية للجميع.
الصين ليست دولة مفسدة مثل روسيا
هناك ما هو أكثر من مجرد التجارة في النظام القائم على القواعد. كما أنها تنطوي على معاهدات وإجراءات وأعراف دولية، وهي رؤية لعالم لا يتميز بشريعة الغاب بل بدرجة من النظام والعدالة. وهنا أيضاً كانت الولايات المتحدة أفضل في الوعظ مقارنة بالممارسة. فقد كانت حرب العراق انتهاكاً صارخاً لمبادئ الأمم المتحدة إزاء العدوان غير المبرر. تقوم واشنطن على الدوام باختيار الاتفاقيات الدولية التي تلتزم بها وتلك التي تتجاهلها. وهي ]اي الولايات المتحدة[ تنتقد الصين لانتهاكها اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار عندما تطالب بكين بالسيادة على المياه في شرق آسيا، بينما لم تصدق واشنطن على هذه المعاهدة البتة. وعندما انسحب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران الذي وقعته جميع القوى العظمى الأخرى، على الرغم من التأكيد على التزام طهران بشروطه، حطم ترامب الأمل في التعاون العالمي بشأن تحدي أمني رئيسي. ثم أبقى على العقوبات الثانوية لإجبار تلك القوى العظمى الأخرى على عدم التجارة مع إيران، مستغلا قوة الدولار في خطوة أدت إلى تسريع الجهود في بكين وموسكو وحتى العواصم الأوروبية لإيجاد بدائل لنظام الدفع بالدولار. لقد غُض الطرف عن الأحادية الأمريكية في ظل عالم أحادي القطب. غير أنها، في الوقت الراهن، ولدت الحاجة – حتى في أوساط أقرب حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية- عن سبيل للفكاك من هذه المشكلة ومواجهتها وتحديها.
كان القدر الأكبر من جاذبية الولايات المتحدة هو أن البلاد لم تكن قط قوة إمبريالية على غرار المملكة المتحدة أو فرنسا، فهي كانت هي نفسها مستعمرة. فهي تقع بعيداً عن الساحات الرئيسية لسياسة القوة العالمية، وقد دخلت الحربين العالميتين في القرن العشرين متأخرةً وعلى مضض. ونادرا ما سعت إلى الحصول على أرض عندما خاضت مغامراتها بالخارج. ولكن ربما قبل كل شيء، بعد عام 1945، أفصحت عن رؤية للعالم تأخذ في الحسبان مصالح الآخرين. فالنظام العالمي الذي اقترحته وأنشأته ودعمته لم يكن جيداً للولايات المتحدة فحسب بل ولبقية العالم أيضاً. فقد سعت إلى مساعدة الدول الأخرى على الارتقاء إلى قدر أكبر من الثروة والثقة والكرامة. وتظل هذه هي القوة الأعظم للولايات المتحدة. قد يرغب الناس في أنحاء العالم كافة في الحصول على القروض والمساعدات التي يمكنهم الحصول عليها من الصين، ولكن لديهم شعور بأن رؤية الصين للعالم تهدف في الأساس إلى جعل الصين عظيمة. وفيما تتحدث بكين في كثير من الأحيان عن “التعاون متبادل النفع”، فان لدى واشنطن سجل حافل في القيام بالفعل ذاته.
لا تفقد الامل
وإذا تراجعت الولايات المتحدة عن هذه الرؤية الواسعة والمفتوحة والسخية للعالم بدافع الخوف والتشاؤم، فإنها بذلك ستخسر قدراً كبيراً من مزاياها الطبيعية. فقد عملت لمدة طويلة على عقلنة التصرفات الفردية التي تتعارض مع مبادئها المعلنة باعتبارها الاستثناءات التي يتعين عليها تقديمها لدعم موقفها ومن ثم تعزيز النظام ككل. وهي ]اي الولايات المتحدة[ بهذا الدأب تخرق القاعدة في سبيل الحصول على نتيجة سريعة. لكن لا يمكن تدمير النظام القائم على القواعد من أجل إنقاذه. وفي غضون ذلك تشاهد بقية بلدان العالم وتتعلم. وبالفعل، تخوض البلدان سباقاً تنافسياً، حيث تفرض إعانات الدعم والأفضليات والحواجز لحماية اقتصاداتها. وتنتهك الدول القواعد الدولية وتشير إلى نفاق واشنطن مبرراً على ذلك. وانه لمن المؤسف أن ينطوي هذا النمط عدم احترام الرئيس ترامب للمعايير الديمقراطية. وقد روج الحزب الحاكم في بولندا لنظريات المؤامرة الشبيهة بنظريات ترامب بعد خسارته الانتخابات الأخيرة، كما دفعت ادعاءات الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو بتزوير الانتخابات أنصاره إلى شن هجوم على غرار هجوم السادس من كانون الثاني / يناير على عاصمة بلاده. إن التحدي الأكثر إثارة للقلق للنظام الدولي القائم على القواعد لا يأتي من الصين أو روسيا أو إيران، بل يأتي من الولايات المتحدة. وإذا ما تراجعت الولايات المتحدة، المنهكة بالمخاوف المبالغ فيها من انحدارها، عن دورها القيادي في الشؤون العالمية، فسوف تفتح فراغاً في السلطة في أنحاء العالم كافة وتشجع مجموعة متنوعة من القوى واللاعبين على محاولة التدخل في هذه الفوضى. وقد رأينا كيف بدا الشرق الأوسط ما بعد الولايات المتحدة. هَبْ أن شيئاً مماثلاً يحدث في أوروبا وآسيا، ولكن هذه المرة مع قوى عظمى، وليس قوى إقليمية، تتولى إحداث التعطيل، وبعواقب عالمية مزلزلة. ومما يبعث على القلق أن نشاهد تيارات من الحزب الجمهوري تعود إلى نهج العزلة الذي ميز الحزب في ثلاثينيات القرن العشرين، عندما عارض بشدة التدخل الأميركي حتى في حين كانت أوروبا وآسيا تحترقان.
صحيح ان الولايات المتحدة ناقشت طبيعة ارتباطها بالعالم منذ عام 1945، غير أنها لم تنظر فيما إذا كان ينبغي لها أن تشارك فيه من البداية. وإذا ما انكفأت البلاد حقاً إلى الداخل، فسوف يكون ذلك بمثابة تراجع لقوى النظام والتقدم. لا يزال بإمكان واشنطن وضع جدول الاعمال، وبناء التحالفات، والمساعدة في حل المشكلات العالمية، وردع العدوان مع استخدام موارد محدودة – أقل بكثير من المستويات التي أنفقتها خلال الحرب الباردة. وسيتعين عليها أن تدفع ثمناً أعلى بكثير إذا انهار النظام، وظهرت القوى المارقة، وتصدع الاقتصاد العالمي المفتوح أو اغلق.
لقد أدت الولايات المتحدة دوراً محورياً في إقامة نوع جديد من العلاقات الدولية منذ عام 1945، وهي العلاقات التي نمت في قوتها وعمقها على مر العقود. ويخدم هذا النظام مصالح معظم دول العالم، ناهيك عن مصالح الولايات المتحدة. صحيح انها تواجه ضغوطاً وتحديات جديدة، ولكن العديد من البلدان القوية تستفيد أيضاً من السلام والرخاء وعالم القواعد والأعراف. إن أولئك الذين يتحدون النظام الحالي ليس لديهم رؤية بديلة من شأنها حشد العالم، بل يسعون وراء مصالحهم الضيقة. وعلى الرغم من كل الصعوبات الداخلية التي تواجهها، تظل الولايات المتحدة، قبل كل شيء، قادرة بشكل فريد وفي وضع يمكنها من أداء دور محوري في الحفاظ على هذا النظام الدولي. وما دامت الولايات المتحدة لا تفقد الثقة في مشروعها الخاص، فإن النظام الدولي الحالي من الممكن أن يزدهر لعقود قادمة.

اترك تعليقا