المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

أين تقف إسرائيل من الصراع في السودان؟

تسعى إسرائيل للتموضع استراتيجياً في السودان لخدمة أهدافها القومية في تأمين كيانها وتوسيع نفوذها الإقليمي وعلى وجه الخصوص في القارة الأفريقية.

وقد راهنت إسرائيل على اتفاق التطبيع في منحها مكاسب إستراتيجية وأمنية واقتصادية هائلة، حيث رأت أن الاتفاق يمكن أن يمهد لمنحها موطئ قدم في السودان، بحيث تتحول الخرطوم إلى قاعدة انطلاق للعمل الدبلوماسي والأمني والأنشطة الاقتصادية الإسرائيلية في عمق القارة.

ومع سقوط عمر البشير إثر الاحتجاجات الشعبية التي خرجت بسبب تردي الأوضاع المعيشية والاقتصادية في ديسمبر/كانون الأول 2018، بدأت تظهر إسرائيل كطرف إقليمي فاعل في المرحلة الانتقالية، فلإسرائيل مصلحة استراتيجية في تطبيع العلاقات مع السودان.

فسواحل السودان على البحر الأحمر مهمة من الناحية الاستراتيجية الأمنية والاقتصادية لإسرائيل، كما أن السودان تمثل قلب إفريقيا ولها امتدادات عميقة داخل القارة الإفريقية بحكم موقعها وكبر مساحتها واتساع حدودها.

وبرزت السودان في مقدمة مخططات “عقيدة الأطراف” (Periphery Doctrine) الإسرائيلية في الخمسينيات من القرن الماضي، وُضعت تلك العقيدة كاستراتيجية رداً على تهديدات مصر خلال عهد عبد الناصر.

وإحدى ركائز هذه العقيدة هي إبرام تحالفات وبناء علاقات بين إسرائيل والدول والكيانات غير العربية في المنطقة، فالدعم الذي قدمته إسرائيل للحركات المتمردة في جنوب السودان قبل الانفصال مثال جيد على تلك العقيدة.

وهو ما تحدث عنه رئيس طاقم جهاز الموساد في الستينيات والسبعينيات الجنرال ديفيد بن عوزيئيل؛ حيث عملوا على إنشاء أول جيش للمتمردين في الجنوب لتفكيك وحدة السودان.

إن تطبيع العلاقات مع السودان يمنح إسرائيل تفوقاً في مواجهة المقاومة الفلسطينية، وعلى وجه الخصوص حركة حماس، وهو الأمر الذي ظهر في تصريحات حركة حماس الرافضة للتطبيع مع السودان، كما سينعكس سلباً على توسع نفوذ إيران في المنطقة، بالرغم من تراجع العلاقات السودانية الإيرانية في المرحلة الأخيرة من حكم البشير؛ حيث أغلقت السودان المراكز الثقافية الإيرانية في عام 2014 على حساب تنامي العلاقات مع السعودية.

واستطاعت أمريكا أن تضع الانفتاح والتطبيع مع إسرائيل (معياراً) على متانة العلاقات بين أمريكا والدول العربية خاصة خلال فترة إدارة الرئيس السابق ترامب، تلك الصورة والمعيار المدفوع من بعض الدول الإقليمية جعل الأطراف المحلية السودانية تتسارع على تقديم نفسها كبديل لحكم السودان من بوابة التطبيع مع إسرائيل للحصول على الشرعية الدولية.

العلاقة بين حميدتي والبرهان وإسرائيل؟

وهو ما ظهر من خطوات عملية بعضها علني وبعضها سري، كان آخرها زيارة وفد إسرائيلي ترأسه وزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في شهر فبراير/شباط 2023 للقاء البرهان من أجل تسريع عمليات التطبيع.

تلك الزيارة كانت بعد قدوم وفد أمني إسرائيلي في يناير/كانون الثاني 2022 استقبله حميدتي في المطار، كما أن رئيس الوزراء السابق حمدوك كان هو أيضاً منفتحاً على التطبيع مع إسرائيل والذي وصف الاتفاق بأنه في مصلحة السودان.

هذا الانفتاح لبعض الأطراف السودانية هدفه الحصول على الدعم الأمريكي والدولي، بالرغم من الرفض الشعبي لتلك الخطوات. فتسابق جميع الأطراف على تقديم خدماتهم للحصول على الرضا الأمريكي.

لكن على ما يبدو أن حميدتي قائد قوات الدعم السريع (الجنجويد سابقاً) استطاع أن يقدم تنازلات أكبر، خاصة أنه وقع مع شركة علاقات عامة إسرائيلية مملوكة لضابط استخبارات إسرائيلي سابق يدعى آري بن منشه في 2019.

والتي تبعها زيارة لوفد أمني إسرائيلي سري لحميدتي في مايو/آيار 2022 حصل بموجبه على تقنيات تجسس متقدمة، كشفت عنه هآرتس الإسرائيلية في تحقيق صحفي استقصائي نشرته بالشراكة مع مؤسسة لايتهاوس ريبورتس واليونان إنسايد ستوري. وقد أبدت قوات الدعم السريع دعمها لمسار التطبيع والتوقيع على الاتفاقية الإبراهيمية.

برغم وجود أصوات براغماتية ترى أن وجود علاقات بين السودان وإسرائيل هو أمر ضروري في ضوء تنامي العلاقات الإسرائيلية مع دول الجوار إريتريا وإثيوبيا وجنوب السودان، التي تحولت لمصالح مشتركة في عدة ملفات، فإنه مع ذلك، يجادل البعض بأن تطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل الآن هو لعبة خطيرة.

أما السودان فتعمل إسرائيل على تقسيمها وتأجيج الصراعات الداخلية، وعزل الجنوب؛ ليشكل ذلك نقطة ضعف لعمق مصر والدول العربية.

وهو ما يمكن أن نلمسه من الموقف المصري الضعيف والباهت في الأحداث، وهو موقف لا يليق بحجم وموقع مصر الإقليمي في المنطقة، فبدلاً من أن تحرك مصر الأحداث وتؤثر بها وتوجهها على النحو الذي يحقق مصالحها الاستراتيجية وعلى وجه الخصوص في ملف سد النهضة نجد الإمارات لها التأثير الأكبر في المشهد.

بل نجد الإمارات تعمل على تحجيم الحضور المصري في المشهد من خلال ابتزاز مصر اقتصادياً. تلك التحركات الإماراتية نجدها تتقاطع مع الأهداف القومية الإسرائيلية ولا يمكن فهمها إلا أنها تصب في صالح إسرائيل ومصالحها.

المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية في السودان

تسعى إسرائيل للتموضع استراتيجياً في السودان لخدمة أهدافها القومية في تأمين كيانها وتوسيع نفوذها الإقليمي وعلى وجه الخصوص في إفريقيا. يمكن تلخيص المصالح الاستراتيجية لإسرائيل في النقاط التالية:

الاستفادة من الخط الساحلي الطويل على البحر الأحمر، في مجال التجارة، وكذلك في مجال الدفاع والأمن بتأمين كيانها من التهديدات البحرية المدعومة من إيران في المنطقة، والذي يعد طريقاً ملاحياً رئيسياً لمنشآت عسكرية مهمة في الإقليم.

وقف طرق التهريب للبشر والسلاح الذي يخرج من السودان إلى قطاع غزة.

توفير معلومات استخبارية من السودان والقرن الإفريقي عن الحركات المقاومة الفلسطينية، وكذلك الحركات الجهادية، لتقويضها والحد من التهديدات المتوقعة منها، وتوجيه ضربات تكتيكية ولوجستية استباقية.

تعزيز علاقاتها مع الدول الإفريقية وفتح المجال لدخول الأسواق الإفريقية بالاستفادة من موقع السودان، خاصة بعد فشل حصول إسرائيل على صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي.

من زاوية أخرى، تنظر إسرائيل للتطبيع من منظور اقتصادي؛ حيث تتطلع لفتح استثمارات في مجال الزراعة والتعدين والأمن، هذا بجانب تأمين استثماراتها في سد النهضة، وتعزيز منافعها السياسية والاقتصادية في إثيوبيا والقرن الإفريقي.

وهو الأمر الذي سينعكس سلباً على كلٍ من مصر والسودان في التفاوض مع إثيوبيا، ما سيعزز من حضور إسرائيل كلاعب أساسي في ملف سد النهضة في المفاوضات عبر تحقيق حلم إسرائيل بإيصال مياه النيل لصحراء النقب بجنوب فلسطين، وهو أحد بنود التفاوض قبل توقيع اتفاقية كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل بعد حرب أكتوبر، خاصة أن إسرائيل ضمن الدول الأكثر جفافاً في العالم.

صراع السلطة في السودان وموقع إسرائيل

تقف إسرائيل في المنتصف لتعظيم منافعها من جميع الأطراف، لكن تظل قوات الدعم السريع التي يترأسها حميدتي هي الأقرب والأوثق والتي تتقاطع مع المصالح الاستراتيجية الإسرائيلية وتحقق أهدافها القومية بالمقارنة مع الجيش السوداني الذي تتمتع الحركة الإسلامية بنفوذ عالٍ وتمتلك تنظيماً داخلياً به.

وهو ما يتعارض مع المصالح الإسرائيلية؛ حيث قدمت قيادات الجيش السوداني دعماً مفتوحاً لحركات المقاومة الفلسطينية خلال العقود السابقة. كما أن تحريك قوات الدعم السريع في خدمة أهداف إقليمية ثبت جدواه في عدة ملفات كدعم خليفة حفتر في معاركه بليبيا، هذا بخلاف عمل قوات الدعم السريع في التنقيب عن الذهب خارج إطار الدولة؛ ما يجعل من السهل على القوى الدولية توجيهها بما يحقق مصالحها وأهدافها.

تفوّق قوات الدعم السريع على الجيش السوداني سيتسبب بانتشار الفوضى داخل السودان؛ ما يصعب تقدير الوقت اللازم لاستقرار النظام سياسياً واقتصادياً ومجتمعياً، كما سترتفع موجات الهجرة للاجئين، سواء من داخل السودان أو من الدول المجاورة لها؛ حيث يتواجد نحو 5 ملايين لاجئ في السودان وحدها، بخلاف ارتفاع التهديدات الأمنية.

أما فيما يخص المقاومة الفلسطينية فنجد ميل قوات الدعم السريع لإسرائيل على حساب حركة حماس التي وصفها مستشارها بالإرهاب، فضلاً عن إزالة كلمة (القدس) من شعار قوات الدعم السريع.

كما ستنعكس تلك الفوضى بشكل إيجابي على إسرائيل بإضعاف مصر استراتيجياً وعسكرياً؛ حيث سيدفع الجيش المصري لاستحداث وحدات وفرق جديدة وإعادة توزيع الجنود جنوباً وهو بلا شك سيكون على حساب تمركزاتها في الشرق، كما سيؤثر على تدريبات وعقيدة الجيش.

أما في حال تفوق الجيش السوداني فسينعكس سلباً على إسرائيل على المدى المتوسط والطويل، خاصة فيما يتعلق بموقع حركات المقاومة الفلسطينية في السودان؛ حيث يرجح توسع نفوذ الحركة الإسلامية سياسياً وعسكرياً فضلاً عن عودتها للسلطة. وهو ما سيحافظ على حضور حركات المقاومة الفلسطينية في السودان. كما ستستطيع مصر تأمين حدودها بشكل أفضل وبتنسيق أعلى بالمقارنة مع قوات الدعم السريع التي بادرت باعتقال الجنود المصريين وتصويرهم بشكل مهين فضلاً عن مقتل أحد دبلوماسييها.

اترك تعليقا