المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

الغرب يستثمر “تمرد” فاغنر للتغطية على تلكؤ الهجوم المضاد

م.م عبدالله رشيد مجيد ـ جامعة بغداد – مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية

يشهد النظام الدولي تطورات سريعة وخطيرة، متمثلة في تصاعد سياسات القوى بين الأقطاب الدولية المهيمنة والقوى الصاعدة، ويسعى كل جانب لتحقيق مصالحه الخاصة بمفرده بدلاً من التعاون واستخدام الدبلوماسية للوصول إلى المصالح المشركة.

وفي ظل هذه الأجواء المشحونة والمتوترة في كافة النواحي السياسية والاقتصادية وحتى الثقافية “صدام الحضارات”، يتزايد حجم الانفاق العالمي على التسلح “التقليدي وغير التقليدي” لتعزيز الترسانات العسكرية والذي بلغ ذروته عام 2020م بعد انفاق أكثر من 2000 مليار دولار.

ويوحي هذا الإنفاق العسكري الهائل إلى أن المرحلة القادمة هي مرحلة مواجهة مباشرة وهي أجواء لا تختلف كثير عن تلك التي سبقت الحرب العالمية الثانية.

وتصاعدت هذه السياسات بشكل كبير بعد الاجتياح الروسي للأراضي الأوكرانية في فبراير/شباط 2022، والذي يعتبر التحدي الأكبر للغرب بعد الحرب الباردة. ونتيجة لذلك، شهد النظام الدولي تصاعد حدة سياسات القوى واستقطابات حادة بين القوى التقليدية والقوى الصاعدة مثل روسيا والصين التي تغيرت سياساتهما من مسايرة الغرب إلى محاولة الموازنة وتغير بنية النظام الدولي إلى متعدد الأقطاب. ومحاولة كل طرف استمالة الوحدات الدولية لاسيما وحدات الجنوب إلى معسكره، باستخدام وسائل الإغراء والترهيب. ويتجلى ذلك في الزيارات المتكررة لصناع القرار من جانب الأطراف المتصارعة إلى إفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا الشرقية ووسط آسيا.

وبعد مرور عام ونيف على سيطرة روسيا على ٢٠٪؜ من الأراضي الأوكرانية، استعاد الأوكران بدعم غربي غير مسبوق بمختلف الأشكال للحافظ على ما تبقى من أراضي واستعادة ما تم خسارته تحت مسمى “الهجوم المضاد” أو “الربيع” والهدف ليس أوكرانيا بل المحافظة على الذات الغربية. وعلى الرغم من تأخر إعلان هجوم الربيع، منذ مطلع شهر يونيو الماضي، شهدت أغلب الجبهات في جنوب وشرق أوكرانيا تصاعد حدة الهجمات الأوكرانية على التحصينات الروسية، مع تكتم واضح من الجانب الأوكراني وغربي بشأن إعلان بدء الهجوم الموعود.  

وحتى جاء الإعلان من الرئيس الروسي (بوتن) بدء الهجوم المضاد في العاشر من يونيو، وذلك بعد إشارته إلى أنّ الدليل الحاسم على بدء الهجوم الأوكراني، يتجلى في “استخدام الاحتياطيات العسكرية الاستراتيجية من جانب كييف” حسب قوله. مما أجبر الرئيس الأوكراني “زيلنسكي” إعلان بداية هذا الهجوم، ولو بشكل غير واضح.

ويرى المتابع للإعلام الغربي هناك حالة من التحفظ في التعامل مع الهجوم المضاد. والمتغير، هو سير المعارك والنتائج المتحققة، فعند تسجيل نقاط لصالح الأوكرانيين يتم تبني الهجوم، والعكس عندما يسجل الروس نقاطاً في ساحة المعارك، ويتخلوا عن الهجوم ويتخذوا ذريعة أخرى، وإن مايحصل مجرد تكتيك وكجزء من استراتيجية شاملة لتحرير الأراضي الأوكرانية.

ويوجد جدل بين روسيا والغرب حول التفسير الصحيح لتلك الأحداث، يعكس الصراع في التصوير الإعلامي والمعلوماتي بين الطرفين. لكن الثابت، لا نعرف كيف لهذا التكتيك الذي كلف الأوكرانيين مئات الجنود وعشرات المعدات مجرد تكتيك ..!  

حتى جاء تمرد فاغنر للتغطية والتضليل على تلكؤ هجوم الربيع  وخسارة الغرب مليارات الدولارات على المعدات العسكرية التي قدمها للجيش الأوكراني. وفي هذا السياق، تم تسليط الضوء على هذا الجانب المحدد وعلى المرتزقة الروس، مع محاولة هز صورة “بوتن” وتأجيج الوضع الروسي الداخلي، من خلال تكديس التقارير الإعلامية، وتعمد نشر أخبار للتشتيت والتضليل، وهذا يتماشى مع الطبيعة السياسية للإعلام واستخدامه في الصراعات الدولية لتشكيل الرأي العام وتحقيق أهداف سياسية.

و فيما يتعلق بقضية استخدام وسائل الإعلام، فالغرب يعرف جيدًا قوة وتأثير وسائل الإعلام في توجيه وتشكيل الرأي العام ما يُلائم اهدافهم السياسية. وهذا السلوك ليس فقط محدودًا للغرب، بل يمارسه العديد من الأطراف في الصراعات الدولية. ويمكن للغرب تسليط الضوء على قضايا ثانوية أو إبراز أحداث معينة للتغطية على أحداث أخرى.

وهذا السلوك الذي هو في الأصل ليس جديداً عن الغرب والذي يتنافى مع “مبادئه” كـ “أهمية الشفافية في العلاقات الدولية”. فبدلاً من اللجوء إلى التعاون والحوار المفتوح، يبدو الغرب ملتفاً حول تكتيك التغطية والتضليل. وفي هذا الجانب، من المهم أن نكون أكثر وعياً لدور وسائل الإعلام ونقوم بالتحقق وتقييم المعلومات بشكل مستقل لفهم الأحداث والقضايا بشكل أكثر دقة وموضوعية.

إن ما يحصل اليوم يكشف عن العديد من المشاكل في النظام السياسي العالمي. فبدلاً من إدعاءات الغرب والنظام الدولي الليبرالي في تعزيز الشفافية والنزاهة في التفاعلات الدولية. يقوم الغرب بتعزيز التضليل والتشتيت، وازدواجية المعايير مما يؤثر على الثقة ويقوض الاستقرار.

ولتحقيق التقدم الحقيقي والتعاون البناء بين الوحدات الدولية، يجب أن يكون الغرب على استعداد لمواجهة التحديات بشفافية وصراحة، ويجب أن يكون لديه الشجاعة للتعامل مع الأحداث الدولية بصدق وتوضيح الأمور بدلاً من إخفائها خلف معاير وشعارات كاذبة والاعتراف بالقوى الصاعدة. إنه وقت لإعادة التفكير في الاستراتيجية والسياسية، والتوجه نحو تعزيز النزاهة والشفافية في العلاقات الدولية. فقط من خلال ذلك، يمكننا بناء عالم أكثر استقرارًا وتعاونًا يعم الجميع بالفعل، والبديل عن كل ذلك حرب عالمية ثالثة.

اترك تعليقا