المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

صدر حديثاً كتاب ” من الطرد إلى الحكم الذاتي: المسعى الصهيوني لوأد فلسطين”

صدر عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر في بيروت كتاب من الطرد إلى الحكم الذاتي: المسعى الصهيوني لوأد فلسطين”، للباحث الفلسطيني الدكتور علي الجرباوي، ويحتوي على 8 فصول واستنتاج ختاميّ ، ويتطرق الكتاب إلى الصراع العربي – الصهيوني، بشكل عميق.

ويقول الدكتور الجرباوي أن “غاية المشروع الصهيوني تتلخص بالاستحواذ على فلسطين بالتفريغ والإحلال: طرد شعبها الفلسطيني منها واستجلاب اليهود من أوطانهم وتجميعهم فيها”.

ويوضح علي الجرباوي أن كتابه يركّز على الكيفية التي قامت بها “إسرائيل” بمواءمة المشروع الصهيوني بعد حرب 1967، ويقوم على افتراض أن تلك الحرب، رغم أن “إسرائيل” ربحتها وخسرها العرب بصورة مدهشة، أوقعت هذا المشروع في معضلة شائكة أصبحت تهدّد ليس فقط تحقيق غايته الأساسية وإنما استمرار وجوده بالأساس.

وأضاف “تتلخّص غاية المشروع الصهيوني بالاستحواذ على فلسطين بالتفريغ والإحلال: طرد شعبها الفلسطيني منها واستجلاب اليهود من أوطانهم وتجميعهم فيها. فاستطاعت الحركة الصهيونية تحقيق الجزء الأهم من هذه الغاية يإقامة “دولة إسرائيل” عام 1948، إذ تمكّنت من احتلال نحو ثلاثة أرباع مساحة فلسطين ونجحت في طرد معظم أهلها منها”.

وأوضح حاولت “إسرائيل” استكمال تحقيق الهدف من التفريغ والإحلال عام 1967  فوقع المشروع كله في معضلة شائكة. صحيح أن “إسرائيل” انتصرت في حرب 1967 باحتلال البقية الباقية من أرض فلسطين وأراضٍ عربية أخرى، إلا أن الفشل كان لها بالمرصاد في أمر تفريغ الأرض المحتلة وطرد أهلها، فرغم محاولتها ذلك فإن أعداداً كبيرة من الفلسطينيين تشبّثوا في البقاء على أرضهم بعد أن علّمتهم نكبة 1948 الدرس.

ويبحث كتاب”من الطرد إلى الحكم الذاتي: المسعى الصهيوني لوأد فلسطين” محاولات “إسرائيل”  فرض نموذج “الحكم الذاتي خارج نطاق السيادة” في الأرض التي احتلت عام 1967. ويناقش شرعية هذا “الحكم الذاتي”، ومحاولات الصهاينة الدؤوب في البحث عن شريك فلسطيني يقبل بنموذج الحكم الذاتي.

فكرة الحكم الذاتي

ويكشف لنا علي الجرباوي أنه بحث علمياً في فكرة “الحكم الذاتي” ويبيّن أن السؤال المركزي الذي قاد اهتمامه وبحثه تركّز حول إذا ما كانت “إسرائيل” تمتلك الحق، قانونياً، لطرح وتنفيذ مشروع حكم ذاتي للفلسطينيين؟ 

ويجيب: كان هذا هو السبب الذي أدى بي لأن أبحث في الأصول الفلسفية الكامنة خلف فكرة الحكم الذاتي، والاشتراطات القانونية اللازمة لتطبيقه والضرورة لإنفاذه. وقد قادني البحث في الموضوع لاكتشاف أن الفكرة الفلسفية الكامنة خلف الحكم الذاتي تعود في الأصل إلى الحفاظ على الكينونة الفردية وحقوق الفرد من أن تنتهك من قبل المجموع أو الدولة. فلكل فرد قيمته وذاتيته التي تستحق أن يُحافظ عليها وأن تصان أمام إمكانية العَسف بها.

ويتابع: من الناحية القانونية يوجد نموذجان للحكم الذاتي. الأول هو الحكم الذاتي الفردي، والذي يُمنح لأفراد الأقلية بغضّ النظر عن مكان سكنهم، ما يعني أن الحكم الذاتي في هذه الحالة شخصي، يُمنح للفرد أينما وجد. ويختص هذا النوع من الحكم الذاتي بإعطاء أفراد أقلية مُعينة حق المحافظة على خصائصهم اللغوية والدينية والثقافية، وعلى عاداتهم وتقاليدهم، وذلك عبر إقامة مؤسسات خاصة تُعنى بذلك. يُعرّف هذا النوع بالحكم الذاتي غير الإقليمي (Non-territorial)، إذ ليس له ارتباط بالجغرافيا، أي بإقليم محدّد، وإنما هو مرتبط بالديموغرافيا، أي بالأشخاص من دون علاقة بمكان سكنهم.

أما النموذج الثاني من الحكم الذاتي فهو إقليميّ، يُمنح لإقليم محدّد يتجمّع فيه أفراد الأقلية، ويؤلفون فيه الأغلبية، ويتمّ من خلال النموذج منح الإقليم حكماً ذاتياً تتفاوت درجة قوته من حكم وظيفي هو الأضعف، مروراً بحكم إداري، وصولاً إلى حكم تشريعي هو الأقوى، إذ يستطيع بموجبه الإقليم أن يسنّ القوانين الخاصة به، وأن يفرض الضرائب على المواطنين داخله.

ويكمل الجرباوي نقاشه بقوله: في كلا النموذجين من الحكم الذاتي يتوجّب توفّر شرطين أساسيين: الأول، أن من يُمنح الحكم الذاتي، أكان شخصياً أم إقليمياً، يجب أن يكون مواطناً من مواطني الدولة، يُمنح بموجب الحكم الذاتي تأكيداً لحقوق المواطنة الكاملة، مضافاً إليها تمييز إيجابي لضمان هذه الحقوق من إمكانية أن يتم انتهاكها والعَسف بها من قبل الأغلبية..

باختصار، الحكم الذاتي ترتيب يتمّ داخل الدول، لجزء من مواطنيها وجزء من إقليمها، ولا يمكن أن يتحقّق إلا بتفاهم واتفاق بين طرفين: الحكومة المركزية وأقلية من المواطنين، إما يكونون مبعثرين داخل الدولة، ويأخذون حكماً ذاتياً شخصياً، وإما يعيشون كأغلبية في جزء من إقليم الدولة، فيُمنحون حكماً ذاتياً إقليمياً على ذلك الجزء. وفي كلتا الحالتين هم جزء من الدولة.

وحسبما يرى الجرباوي فإن ما تسعى “إسرائيل” إليه، هو تحقيق إقصاء الفلسطينيين من النظام السياسي، ومن الدولة، حتى وهي تُصّر على الاحتفاظ بالسيطرة على أرضهم وعليهم، لذلك هي تخترع نوعاً جديداً من الحكم الذاتي الذي يمكن أن يُدعى: الحكم الذاتي خارج نطاق الإقليم (Extra-territorial)، الذي تريد أن تُرغم الفلسطينيين على قبوله.

هذا النوع المستحدث من الحكم الذاتي الذي يأتي خارج نطاق إقليم الدولة وسيادتها، تريد “إسرائيل” أن تمنحه لأفراد ليسوا مواطنين لديها، وذلك بهدف تحقيق فصل قانوني لهم عنها (Legal transfer) حتى مع استمرار خضوعهم لسيطرتها، وذلك بعدما تعذّر عليها تحقيق فصلهم الفيزيائي عنها (physical transfer)، وذلك بطردهم خارج المكان.

يؤكد الجرباوي أنه لا يحقّ لـ “إسرائيل” أن تطرح على الفلسطينيين حكماً ذاتياً. فإن هي أرادت ذلك عليها أن تقوم أولاً بضم كل الأرض المحتلة وإعطاء الفلسطينيين جميعاً المواطنة كاملة الحقوق، وليس القيام بضم انتقائي لأجزاء من هذه الأرض عدد السكان فيها قليل، وإخراج المتبقّي حيث الكثافة السكانية خارج نطاق الدولة، مع الاحتفاظ في الوقت نفسه بالسيطرة الدائمة عليها. بعد الضم، وليس قبله، تستطيع “إسرائيل” أن تتفاوض مع الفلسطينيين، لمنحهم حكماً ذاتياً إن أرادوا ذلك. ما عدا ذلك سيكون تجنّياً على الحقوق الوطنية الفلسطينية الأصيلة، وعلى القانون الدولي.

ويناقش الجرباوي القبول الفلسطيني بالحكم الذاتي ومحاولة بحث “إسرائيل” عن شريك فلسطيني في الأرص المحتلة يوافق على ذلك. فلفرض هذا النموذج في الأرض المحتلة بحثت “إسرائيل” عن شريك يقبل به ويسهّل لها المهمّة. لفترة طويلة انصبّ تعويل “إسرائيل” على الأردن لكن المحاولة لم تنجح، فاتجهت نحو إيجاد فلسطينيين محليين ليقوموا لها بالوظيفة، وعندما فشلت محاولتها اتجهت نحو منظمة التحرير الفلسطينية. وتوصّلت معها إلى اتفاق أنشأت بموجبه السلطة الفلسطينية.

وكان من المفروض أن يستمرّ وجود هذه السلطة لفترة انتقالية  لمدة 5 سنوات فقط. يعقبها حل دائم للقضية الفلسطينية، أمل الفلسطنيون أن ينتهي الاحتلال وتُقام الدولة الفلسطينية ولكن الفترة الانتقالية انسابت لتصبح مفتوحة دون نهاية محدّدة ولم تقم الدولة وبقيت السلطة الفلسطينية في وضعية “الحكم الذاتي” دائمة. 

ويعتقد الجرباوي أن موافقة وتوقيع منظمة التحرير الفلسطينية على “إعلان المبادئ” عام 1993  ثم إبرام “الاتفاقية المرحلية حول الضفة الغربية وقطاع غزة” عام 1995، كانت بمثابة “العلقة” المأزق والمحنة التي حاقت بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإنهاء الاحتلال.. استطاعت “إسرائيل” الإيقاع بالمنظمة في المصيدة من خلال ربط الاحتلال بموافقتها الحصرية و”حشر” الوضع الفلسطيني في إطار “الحكم الذاتي خارج إطار السيادة” كان مؤسساً له ليكون الحالة الفلسطينية.

ويخلص الجرباوي أنه من الجدير الانتباه إلى أن انكسار المشروع الصهيوني قد لا يحدث إلا بعد مرور فترة طويلة من الزمن. ولكن القناعة بانكسار هذا المشروع يجب ألا تفارق الوعي الفلسطيني ولو للحظة واحدة. فالهزيمة لا تأتي مع فقدان الأمل. فرغم تنفيذ جميع ما تفتقت عنه الذهنية الصهيونية الاستعمارية من خطط وسياسات.. وما صاحب ذلك من أخطاء فلسطينية..إلا أن كل ذلك لم يمنحها الاستسلام الفلسطيني المطلوب.

ويختم الجرباوي كتابه بقوله: لا يمكن ولا يجوز لحكم ذاتي خارج نطاق السيادة الإسرائيلية أن يكون نهاية مطاف القضية الفلسطينية.

اترك تعليقا