المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

قراءة في كتاب “جغرافية السياسة في روسيا”

جغرافية السياسة في روسيا أو كما جاء في العنوان الأصلي (جيوبوليتيكا روسيا)، يمثل هذا الكتاب صوتاً من الداخل وليس رؤية أوروبية أو أمريكية عما جرى في روسيا منذ النشأة وحتى اليوم، وقراءة هذا الكتاب الهدف منه لكي نعرف ماذا يريد الروس منا وماذا ينتظرون من منطقتنا، والأهم ماذا نحن فاعلون في مستقبلنا في ضوء هذه التجربة المهمة.

والكتاب من تأليف “ألكسندر دوجين”، وهو كاتب روسي شهير، وباحث مهم في الفلسفة وعلم الاجتماع السياسي، وله اهتمامات جادة بالجغرافيا السياسية، ولد في 1962 وينتمي إلى تيار القوميين المناصرين لسياسة روسيا في مواجهة الغرب والساعية إلى استعادة روسيا مكانتها بوصفها قطبًا دوليًا.

صباح الدين زعيم

وعن هذا الكتاب يقول أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية بجامعة إسطنبول صباح الدين زعيم “الكتاب الذي بين أيدينا ليس كتاب تاريخ أو جغرافيا وهو بالتأكيد ليس كتابًا بسيطًا وإنما يمكن اعتباره واحدًا من الكتب الموسوعية التي تعبر وتوضح بشكل كبير طبيعة الصراع الفكري الذي أسس لما نشهده اليوم في أوكرانيا وطبيعة الفكر الذي يحرك تلك الأعمال العسكرية التي بدأ بها بوتين، وطبيعة الأيديولوجيا التي تؤسس لتحرك القوات العسكرية الروسية، وطبيعة رد الفعل الغربي الذي يظهر أنه أدرك خطورة هذه الحركة وأهمية أن يوصد هذا الباب الذي تريد إدارة بوتين أن تفتحه من أجل إعادة ترتيب الأوراق في العالم وتحريك القوى والأقطاب العالمية من أجل تغيير نظام العالم أحادي القطبية الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة منذ عدة عقود، من أجل استعادة روسيا لدورها كقوة كبرى حسب رؤية الكاتب”.

ويُعتبر هذه الكتاب ذروة أطروحاته الفكرية والفلسفية والاجتماعية المرتبطة بموقع روسيا ودورها على مستوى القوى العالمية.

وتنبع أهمية هذا الكتاب باعتباره كتابًا يحكي عن روسيا بلسان روسي وبرؤية روسية ذاتية وليس كما جرت العادة أن يكتب عنها غيرها، ويقع الكتاب في 736 صفحة ويشكل موسوعة شاملة لدراسة تاريخ روسيا وتشكلاتها الجغرافية والسياسية وتفاعلات الدولة والمجتمع والفضاء الجغرافي وأثر ذلك على موقع روسيا ودورها في العالم خلال المراحل التاريخية المختلفة حتى الوقت الحاضر.

ويتتبع الكاتب خلال ذلك المراحل التي تحكمت خلالها العوامل الجغرافية المختلفة في مسيرة الحراك السياسي وقراراته في روسيا.

كما يشكل هذا الكتاب إضافة نوعية للمكتبة العربية لأنه يطرح لنا معلومات عن تاريخ روسيا وجغرافيتها ومكوناتها الاجتماعية بشكل يجمع بين النهج الموسوعي والتحليلي في آن، كما يمثل الكتاب صوتًا من الداخل الروسي يعبر فيه الكاتب ذو النزعة القومية الوطنية عما جرى في روسيا منذ النشأة حتى اليوم.

طبيعة النظرة الروسية

ويعبر فيها الكاتب عن طبيعة النظرة التي ينظر بها الروس القوميون لأنفسهم، ففي الوقت الذي تنظر أوروبا إلى روسيا باعتبارها المنطقة الواصلة الفاصلة، بين أوروبا وآسيا، تنظر روسيا إلى نفسها في هذا الصراع كحضارة أوروآسيوية، أمة وسط، دولة وسيطة بين حضارتي الشرق والغرب.

تطور الجيوبولوتيك

وينطلق الباحث في موسوعته في فصلها الأول والثاني والثالث والرابع بوضع إطار نظري لعلم الجيوبوليتيكا وتطوره وإرساء قواعده ومذاهبه ومناهجه ومكانته بين العلوم، بحيث يبحث تطور الجيوبولوتيك وتعريفه والنظرة الأوروبية والأمريكية لهذا الحقل العلمي، وظهور المدرسة الروسية، فالجيوبولوتيك كما يرى الكاتب علم يركز اهتمامه على ترجمة خريطة العالم السوسيولوجية في قرارات سياسية، وقضايا الحرب والسلام والتحالفات السياسية، والمفاهيم الاستراتيجية في عمليات التوسع والفتوحات وقضايا الدين والسياسة العرقية والثقافية والتعليم، وينطوي ما سبق في المقام الأول على عامل مكاني يؤثر في السياسة الخارجية والعلاقات الدولية والمجال الاستراتيجي والدفاعي والقوات المسلحة وكذلك الهيكل الإداري والإقليمي، وعليه فالجيوبولوتيك تعبِّر عن دراسة العلاقة بين الدولة والمجتمع والفضاء الجغرافي. في حالة تفاعلها وديناميتها. بينما تختلف عن الجغرافية السياسية التي يرى أنها تحكي قصة الدولة في حالة سكونها وثباتها.

التاريخ الروسي

وينطلق بعد ذلك في الفصل الخامس بتحليل التاريخ الروسي نماذجه وفتراته، بينما يوضح في الفصل السادس طريقة بناء النموذج الجيوسياسي للتاريخ الروسي استنادًا إلى التحليل التاريخي الذي وضعه ثم يعمل في الفصول اللاحقة على تحليل الواقع وتطبيق نظريته في الجيوبوليتيكا على التاريخ الروسي خلال الفترات التاريخية التي وضع إطارها في الفصل السابق والتي تشكل عدة حقب تاريخية متمايزة تستمر كل فترة منها حوالي 200 سنة، انطلاقًا من بداية التاريخ الروسي والفضاء الطوراني وروس كييف، النماذج الاجتماعية والسياسية للمجتمع الروسي القديم، فترة الانقسام، الإمبراطورية المغولية بين القرنين 13و15 ذات الأهمية الاستثنائية في التاريخ الروسي، موسكو القيصرية، روسيا في القرن 18، روسيا في القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، الاتحاد السوفييتي، روسيا يلتسن والأهمية السوسيولوجية.

الواقع المعاصر

وأخيرًا  وفي واحد من أهم الفصول التي تؤسس للحديث عن الواقع المعاصر يتناول الحديث عن الألفية الجديدة وظاهرة بوتين والتي تعبر من وجهة نظر الكاتب عن مرحلة حاسمة فاصلة بين مرحلة تقهقر وانحدار الأمة الروسية خلال حقبة يلتسن ومرحلة وقف هذا الانحدار في التاريخ الحديث، ويرى الكاتب أن الحرب الشيشانية الثانية كانت النقطة التي أوقفت المرحلة الحرجة المرتبطة بالعمليات الانفصالية في شمال القوقاز، وحفظت من خلالها سلامة أراضي روسيا ووحدتها، وبسط سيطرة الحكومة الاتحادية على جميع أنحاء الأراضي والأقاليم التابعة لروسيا الاتحادية، ولقد مثلت هذه العملية نقطة تحول في تاريخ روسيا الحديث بأكمله حسبما يرى الكاتب.

الحضارة الروسية والأزمة الأوكرانية

وينتهي حديث الكاتب في الفصل السابع عشر عن الحضارة الروسية والأزمة الأوكرانية 2014، التي يرى أنها البوابة التي يمكن من خلالها عبور روسيا إلى استعادة دورها كقطب عالمي مركزي مؤثر في حركة التاريخ، ويتخلى من خلال  اقتحام هذه البوابة عن دوره الهامشي التابع للغرب، ويشير الكاتب إلى أن بوتين الزعيم الروسي و “بمصادقته على ضم القرم، صعد بوتين إلى الدور النهائي للمواجهة: إذا قدر له المحافظة على موقفه في الدراما الأوكرانية فسيتوقف العالم عن كونه أحادي القطبية، وستنهار الهيمنة الأميركية، وستعود روسيا بشكل نهائي وحتمي لا رجعة فيه إلى التاريخ، وهذا يعني أننا أحرار، أصحاب سيادة، أننا عدنا من جديد قوة عظمى، غير أن هذا يعني أيضًا أن مخاطر اندلاع حرب عالمية هي الأخرى قد زادت” ص 720.

ولا يخفي الكاتب نزعته الدينية التي ينبع منها توجهه الأيديولوجي الذي يوجه أفكاره ورؤيته لدور روسيا المحوري في مواجهة الغرب الليبرالي، وهو يرى في واحدة من إشارته الحاسمة تجاه موقفه ونظريته التي تنبع من أيديولوجيته الشخصية المناقضة للغرب وفكره وعقائده: “إن على الحضارة الروسية أن تنتهي من تأليه رأس المال والفوائد والأرباح، إن دين الجشع، والمال، والوظيفة، والراحة، والشبع ليس لنا وليس هو الدين الروسي، إن ديننا هو الإيمان بالمسيح، لا يمكنك أن تكون مع الجشع ومع المسيح، وقد اختار الروس المسيح دائما، هذا هو خيارنا الروسي، هذا هو خيار حضارتنا.”

الكتاب

اترك تعليقا