المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

كيف تتصور روسيا مآلات الحرب الراهنة في أوكرانيا؟

دخلت روسيا الحرب الأوكرانية وفق مجموعة من التصورات المُتخيَّلة حول مآلات تلك الحرب، يتمثل أبرزها في ضرورة تحويل أوكرانيا إلى نموذج رادع لباقي الدول الأوروبية التي تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو حلف الناتو، علاوةً على النجاح في تنصيب حكومة موالية لروسيا، وإعادة الوضع إلى ما قبل عام 2014 في الداخل الأوكراني، جنباً إلى جنب مع تكريس الوضع الانفصالي لمنطقتَي دونيتسك ولوهانسك، وكذلك إجبار الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على الإقرار بمخاوف روسيا الأمنية، وتفادي أي تحركات قد تثير حفيظة موسكو.

بيد أن الحرب الأوكرانية قد تكون أكثر تكلفة مما كان متوقعاً من جانب موسكو، خاصةً في ظل فرض عقوبات غير مسبوقة، لا سيما ما يتعلق بالحرمان من نظام “سويفت”، وإغلاق كافة الدول الأوروبية المجال الجوي أمام الطائرات الروسية. ومن جانب آخر، قد يكون هناك إعادة إنتاج للتجربة الأفغانية في أوكرانيا، خاصةً مع فتح النظام الأوكراني الباب أمام انضمام مقاتلين أجانب. وأخيراً، فإن التسليح الأوروبي المتزايد لأوكرانيا، من خلال نحو 17 دولة، قد يمثل معضلة حالية ومستقبلية بالنسبة إلى النظام الروسي.

تصورات موسكو

يتحرَّك النظام الروسي، في تفاعله مع الحرب الأوكرانية، وفق تصورات مسبقة حول مآلات الحرب الراهنة، وهو ما يمكن توضيحه على النحو الآتي:

1– إبراز أوكرانيا كنموذج ردع للخصوم: تكررت دعوات روسيا كثيراً بشأن ضرورة التزام حلف الناتو بعدم التمدد في شرق أوروبا، مثل رومانيا وبلغاريا، ودول أوروبية أخرى تعتبرها مصدر تهديد محتملاً للأمن القومي الروسي، مثل السويد وفنلندا. ومن ثم فإن روسيا تتصور أن سياسة حافة الهاوية في أوكرانيا يمكن أن تمثل نموذجاً لمنع دول أوروبية أخرى من التقارب مع الولايات المتحدة والغرب، والإضرار بالمصالح الروسية وفق رؤية موسكو. كذلك فإن المنطقة المدعومة روسيّاً في مولدوفا –وهي منطقة ترانسنيستريا– قد تصبح هدفاً مقبلاً ومركزاً محتملاً للتوسع العسكري الروسي، في إطار سياسة الأمر الواقع الروسية.

2 – تنصيب حكومة موالية لموسكو: في مقابل اعتبار موسكو أن أوكرانيا نموذج سيئ يجب تغييره بالقوة، فإن بيلاروسيا تقدم نفسها باعتبارها النموذج المُفضَّل بالنسبة إلى موسكو في الوقت الراهن؛ إذ إن هناك تماهياً شديداً بين سياسات البلدين بدرجة كبيرة، في ظل تبني مينسك خطاباً معادياً للغرب. ومن ثم فإن موسكو حريصة على الإطاحة بالحكومة الأوكرانية الحالية، وتنصيب حكومة موالية لها؛ من أجل تبني سياسات مُهادِنة لموسكو، وتحرص على تلبية كافة المطالب الأمنية الروسية. وفي هذا الإطار، فإن روسيا تريد إعادة إنتاج السياق السياسي المحلي في أوكرانيا قبيل الاضطرابات التي شهدتها البلاد عام 2014، حين تم الإطاحة بالرئيس الأوكراني الموالي لروسيا فيكتور يانوكوفيتش. وكان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، قد أكد في 25 فبراير 2022 أن الرئيس الروسي يحاول الإطاحة بالحكومة الأوكرانية، قبل أن يؤكد الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في 26 فبراير 2022، أن القتال يتواصل ضد القوات الروسية، وأن موسكو تريد السيطرة على العاصمة الأوكرانية كييف “وتنصيب عملائها هناك”.

3 – تكريس استقلال المناطق الانفصالية: أعلن الرئيس الروسي، في 21 فبراير 2022، اعتراف موسكو باستقلال منطقتي دونيتسك ولوهانسك الانفصاليتين عن كييف، كما تم بث لقطات لتوقيع بوتين في الكرملين مع زعيمَي المنطقتين الانفصاليتين على اتفاقيات للتعاون المشترك. وبرغم عاصفة الانتقادات العالمية لقرار موسكو، فإن الأخيرة حريصة على التمدد العسكري في أغلب المناطق الأوكرانية، بما في ذلك إسقاط العاصمة كييف؛ من أجل أن تكون في موقع تفاوضي يُمكِّنها من المساومة بالاعتراف باستقلال المنطقتين الانفصاليتين. ومن ثم فإن النظام الروسي يتصور أنه بانتهاء الحرب الحالية في أوكرانيا سوف يكون قد فرض استقلال المنطقتين باعتباره أمراً واقعاً يجب على أوكرانيا وحلفائها الرضوخ له.

4– إقرار الغرب بالمخاوف الأمنية الروسية: انتقد الرئيس الروسي أكثر من مرة الغرب بتجاهل مطالبه من أجل خفض التوتر في أوكرانيا. وقد طالبت موسكو بعدم توسع حلف الناتو باتجاه الشرق، وإنهاء الأنشطة العسكرية للحلف في أوروبا الشرقية، وهو ما يعني سحب الوحدات القتالية من بولندا وجمهوريات البلطيق من إستونيا ولاتفيا وليتوانيا، علاوةً على عدم نشر صواريخ في بعض الدول، مثل بولندا ورومانيا. وقد سلَّمت وزارة الخارجية الروسية في ديسمبر الماضي اقتراحات أمنية للولايات المتحدة بشأن إنشاء نظام ضمانات أمنية لخفض التوترات العسكرية في أوروبا. ومن ثم فإن موسكو ترغب أو تتصور أن خلق واقع جديد في أوكرانيا، قد يُفضي إلى إجبار الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين على الإقرار بمخاوف روسيا الأمنية وتفادي أي تحركات قد تُثير حفيظة موسكو.

تكلفة مرتفعة

يمكن القول بأن الحرب الأوكرانية قد تكون ذات تكلفة مرتفعة بالنسبة إلى موسكو، أكثر مما كان متصوراً أو مُتخيَّلاً لدى القادة الروس، وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:

1 – تكاتف غربي غير مسبوق ضد موسكو: لم يكن من المتصور لدى النظام الروسي أن تتسع دائرة العقوبات الغربية إلى هذا الحد؛ إذ إن ذلك لم يحدث –على سبيل المثال– عند ضم موسكو شبه جزيرة القرم في عام 2014. وقد يمثل استبعاد موسكو من نظام “سويفت” ضربة قوية للاقتصاد الروسي؛ إذ أكدت المفوضية الأوروبية في 27 فبراير 2022 أن روسيا ستُحرَم من نظام “سويفت”، فيما أعلنت كافة دول الاتحاد الأوروبي عزمها إغلاق مجالاتها الجوية أمام الرحلات والطائرات الروسية. وهناك دول قامت بذلك بالفعل؛ حيث أعلنت وزارة النقل الألمانية إغلاق المجال الجوي لألمانيا أمام الطائرات الروسية بسبب الحرب في أوكرانيا، وهو ما يرتبط بتداعيات اقتصادية سلبية جمَّة على الاقتصاد الروسي في المرحلة المقبلة.

2– إعادة إنتاج التجربة الأفغانية في أوكرانيا: قال الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، في 17 فبراير 2022، إن أوكرانيا ستنشئ فيلقاً دوليّاً أجنبيّاً للمتطوعين من الخارج، وسط دعم من جانب بعض الدول الغربية، على غرار بريطانيا، وهو ما يعيد إلى الأذهان تدفق المقاتلين الأجانب إلى أفغانستان إبَّان الغزو السوفييتي نهاية سبعينيات القرن الماضي، وما حمله ذلك من خسائر باهظة للاتحاد السوفييتي آنذاك، حتى تم الإعلان عن انسحاب من جانب واحد من الأراضي الأفغانية.

3– خسائر بشرية كبيرة في الجانب الروسي: رغم التفوق التسليحي والعددي للجيش الروسي، فإن معاركه في أوكرانيا لن تكون سهلة، وهو ما تجلَّى مع إقرار الجيش الروسي، في 27 فبراير 2022، للمرة الأولى منذ بدء هجومه، بتكبُّده خسائر بشرية دون الإعلان عن حصيلة للعملية العسكرية، فيما قالت نائبة وزير الدفاع الأوكراني هنا ماليار، إن القوات الروسية فقدت نحو 4300 جندي خلال غزوها أوكرانيا، علاوة على فقد نحو 146 دبابة، و27 مقاتلة، و26 طائرة هليكوبتر. ورغم عدم التيقن من تلك الأرقام، فإنه مع الاعتراف الروسي بوجود خسائر، بما في ذلك وقوع أسرى في أيدي الجيش الأوكراني، فإن ذلك يعكس تكلفة غير متوقعة للجانب الروسي.

4 – تقديم 17 دولة أوروبية تسليحاً لأوكرانيا: قال مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، في 27 فبراير 2022، إن 17 دولة أوروبية استجابت حتى الآن لدعوات إرسال أسلحة إلى أوكرانيا، وهو ما يعكس تصاعد وتيرة التضامن الأوروبي مع أوكرانيا، حتى إن دولاً عُدت محايدة مثل السويد، أعلنت في 27 فبراير 2022، عن تسليم أوكرانيا أسلحة مضادة للدروع، وإرسال خمسة آلاف قاذفة مضادة للدروع، وهو ما يعد خروجاً عن العقيدة السويدية. وبالتزامن مع ذلك أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس، أن ألمانيا سوف تستثمر 100 مليار يورو في المعدات العسكرية هذا العام، وستخصص أكثر من 2% من إجمالي ناتجها الداخلي للدفاع سنويّاً؛ ما يعكس تحولاً في السياسة العسكرية الألمانية، وهي تطورات لا تصب –في مجملها– في صالح الأمن القومي الروسي في المديَيْن المنظور والمتوسط.

وختاماً، فإن هناك تقديرات تشير إلى أن من الصعوبة بمكان أن تسيطر قوات قوامها 200 ألف جندي روسي على بلد يبلغ سكانه 43 مليون نسمة، وأن المدن الكبيرة قد تشكل معضلة كبيرة للجيش الروسي، وهو ما يعكس صعوبة تحقيق موسكو انتصاراً خاطفاً، خاصةً في ظل تصاعد التسليح الغربي لأوكرانيا، وإمكانية انضمام مقاتلين أجانب إلى صفوف الأوكرانيين، وبما يؤكد أن مآلات الحرب المتصورة لدى القادة الروس، قد لا تتحقق على أرض الواقع في ظل المعطيات الحالية.

المصدر : إنترريجونال

اترك تعليقا