المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

مستقبل النظام الدولي في ظل تشكُّل التحالفات الجديدة

النظام الدولي هو الإطار المؤسساتي الجامع لمعظم الدول، تتفاعل فيه لتُحقق غايات وأهدافاً مشتركة، وفق مقتضيات العلاقات الدولية والقانون الدولي. هذا المنتظم ينشأ ضمن بيئة تربطها التزامات دولية، وتلقي عليه مسؤوليات لتحقيق تلك الأهداف والغايات، تنعكس على أمن واستقرار الدول، وتمتُّع الشعوب والأفراد بالحقوق المختلفة والحريات العامة والأساسية.

ذلك المستوى من التوازن في العلاقات الدولية يجد جذوره النظرية في اتفاقية “فيستفاليا” 1648، وهي معاهدة صلح وسلام أنهت حرباً بين الأوروبيين دامت 30 سنة، وعزَّزت من مفهوم سيادة الدولة القومية، وطرحت فكرة توازن القوى.

غير أن الحرب العالمية الأولى والثانية، وما شهده العالم من انتهاكات واسعة النطاق وبشكل ممنهج، أدى إلى جرائم بشعة مسّت الملايين من البشر بالقتل والتعذيب والتشريد، وتدمير العديد من المدن والقرى، وتغييب كامل لمقومات الحياة في مناطق واسعة من العالم، وذلك الوضع أدى إلى انهيار كليٍّ وبالجملة للمبادئ التي قام عليها المجتمع الدولي سابقاً.

صارت القوة والمصالح هما المبدأين الرئيسيين اللذين يقوم عليهما المجتمع الدولي الجديد، في ظل هيئة الأمم المتحدة، رغم تجميلها وتغليفها بجملة من الشعارات يُطلَق عليها مبادئ وأهداف مشتركة.

نتائج الصراع بين دول المحور والحلفاء (1939-1945) في الحرب العالمية الثانية هي من رسمت لنا مستقبل المجتمع الدولي، وربما لا يكون مبالغةً لو قلنا حددت مصيره طيلة العقود الثمانية الماضية، وقد يستمر ذلك قليلاً باعتقادي، حيث حاولت الدول المنتصرة (أمريكا، بريطانيا، فرنسا، الصين، الاتحاد السوفييتي سابقاً) فرض الوصاية على دول العالم القاصرة في أعينها، على اعتبار أنها مَن تملك القرار السيادي والمُلزِم داخل هيئة الأمم المتحدة (وقد سئمت الشعوب وحتى الحكومات من هذا الاحتقار المتراكم).

فقد فرضوا منطق القوة غير العادلة، الذي ترسّخ في خلد الضمير العالمي، وصارت عقيدة وسلوكاً حتى بين الحلفاء أنفسهم، فمن أبرز تلك المظاهر الحرب الباردة التي أنهت الاتحاد السوفييتي، الذي هو عضو مؤسس لمجلس الأمن الدولي، وها هي اليوم بوادر الصراع (الحرب الروسية- الأوكرانية كأبرز تلك المظاهر) على قواعد القوة تطفو على السطح، تحمل معها مخاوف كبرى لا يمكن لها أن تتبدد.

وكيف لا في ذاكرة شعوب العالم التي لم تنسَ الحرب العالمية الثانية، التي فُقد فيها ما يفوق 60 مليون نسمة، حسب بعض التقديرات، واستُعملت فيها أبشع أنواع الأسلحة، وكان أكثرها إجراماً وبطشاً ما أقدمت عليه الولايات المتحدة الأمريكية عام 1945، بالهجوم باستعمال القنابل الذرية على مدينتي هيروشيما وناغازاكي، والذي راح ضحيته أكثر من 110 آلاف مدني في أقل من ثلاث دقائق، فهي الضربة الموجعة والأكثر إيلاماً، ليس لليابان فقط، وإنما لكل شعوب العالم، وهي مؤشر على أنه مازالت القوة غير المنضبطة وغير العادلة هي وحدها من تدير العلاقات الدولية، وتُنشئ التحالفات، وهو ما يصدقه الحال الدولي اليوم.

في هذا السياق، وفي ظل بروز مساعي تشكيل عالم متعدد القوى، يحق لنا أن نتساءل عن مستقبل المجتمع الدولي الذي يتجه نحو تشكيل تحالفات جديدة، وإعادة مجتمع دولي جديد يقوم على استراتيجيات جديدة، التي تُبنى أساساً على قواعد القوة والتأثير في المصالح الدولية المتغيرة والمختلفة، ومن تلك التحالفات منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، الذي واجه صعوبات سابقة، وخاصةً في ظل سياسة الرئيس الأمريكي السابق ترامب، لكن عند الكشف عن الخطة الأمريكية، والتي دعت الحلف إلى الاستجابة للتحديات الجدية التي تواجه حكومات أعضائه الثلاثين (أمريكا، فرنسا، بريطانيا دول أعضاء دائمة في مجلس الأمن) وخاصةً ما يتعلق بروسيا، وأقل درجة الصين، طُرحت خطة جديدة وأفكار أكثر شمولية لمفهوم السلام والأمن العالمي، وبموازنة تستجيب لتلك التحديات.

ومنظمة شنغهاي للتعاون (SCO) التي تأسست عام 2001، والمشكّلة من (الصين، روسيا، أوزبكستان، باكستان، طاجيكستان، قيرغيزستان، كازاخستان، الهند، ومؤخراً إيران)، “وأفغانستان، وبيلاروسيا، ومنغوليا كأعضاء مراقبين”، ومن المتوقع أن تتم دعوة أطراف دولية أخرى للانضمام إليها، هذه المنظمة جاءت لتصنع روابط متعددة الأطراف، لضمان الأمن والحفاظ على الاستقرار عبر دول منطقة أوراسيا الشاسعة، وتوحيد الجهود للتصدي للتحديات والتهديدات المتنامية، وتعزيز اقتصادات تلك الدول، فضلاً عن التعاون في مجالات مختلفة، منها الطاقة والثقافة والبعد الإنساني، إلى غير ذلك.

 كما أن هناك مساعيَ دولية مختلفة لتشكيل تحالفات دولية وعالمية، تغطي مساحات محتملة دولية أخرى، أو تكون بديلاً في مناطق من العالم التي تتوقف عندها اختصاصات بعض المنظمات، منها تحالف قوة دفاع أوروبية، وهي رؤية وزراء دفاع الاتحاد الأوروبي، المتعلقة بتشكيل قوة رد سريع أوروبية، تهدف لتأسيس قوة رد سريع يصل قوامها إلى 5 آلاف جندي، يمكن نشرهم بسرعة وقت الأزمات.

رغم أن التكتل الأوروبي يحاول أن يوضح أن هذه الجهود هي مكمِّلة لعمليات حلف شمال الأطلسي، ولا تهدف إلى التنافس مع التحالف العسكري الذي تقوده الولايات المتحدة، فإن التهميش المُتعمَّد من طرف الأمريكان للكتلة الأوروبية خلال عملية الإجلاء التي قادتها الولايات المتحدة، خاصةً ما حدث في أفغانستان من انسحاب أمريكي، دون سابق إنذار للأوروبيين، هو مؤشر على النوايا المختلفة.

بالإضافة إلى عامل عدم الاتفاق حول الملف الصين، التي لا تعتبرها دول الاتحاد الأوروبي داخل حلف شمال الأطلسي عدوة لها، كما أن بوادر تشكيل حلف ثلاثي (أمريكا وبريطانيا وأستراليا)، الذي يهدف إلى تعزيز التعاون العسكري والدفاعي في المحيطين الهندي والهادئ، ويأتي ضمن خطة صناعة أحزمة أمنية ودفاعية لمواجهة الصين وحلفائها، هي مؤشر إضافي على أن هناك نواةَ خلافٍ تثير القلق لدى الأوروبيين.

 ثم مجموعة البريكس، هذه المنظمة التي تأسست في عام 2006 من قِبل 5 دول: (البرازيل، روسيا، الهند، الصين، جنوب إفريقيا)، لأجل لتعزيز التعاون الاقتصادي والسياسي والثقافي فيما بينها، لتحقيق مصالحها المشتركة، وأيضاً إعادة التوازن العالمي، كما أشار إلى ذلك وزير الخارجية الهندي سوبرامانيام جاي شانكار، خلال كلمة افتتاحية ألقاها بتاريخ 2 يونيو 2023: “اجتماعنا يجب أن يبعث رسالةً قوية، مفادها أن العالم متعدد الأقطاب، وأنه يعيد توازنه، وأن الطرق القديمة لا يمكنها معالجة الأوضاع الجديدة”،

كما أضاف: “نحن رمز للتغيير، ويجب أن نتصرف على هذا الأساس”، وبذلك هي رؤية لمجموعة بريكس، أبرز ما فيها تشكيل نظام اقتصادي متعدد الأقطاب، قوي، له القدرة على الصمود في وجه الصدمات الاقتصادية العالمية وشيكة الحدوث، هذا ما تم الإفصاح عنه، ولعل اجتماع القمة القادم، المزمع انعقاده في نهاية شهر أغسطس القادم، في مدينة كايب، سيبين التوجهات الرئيسية الأكثر وضوحاً لهذا التحالف، الذي تشكَّل على قواعد صراع الأقطاب، كما أنه سيفتح الباب أمام انضمام دول أخرى كالجزائر وإيران والمملكة العربية السعودية، التي حتماً ستُسهم في تعزيز هذا التحالف، الذي يرمي إلى خلق توازن دولي متعدد الأقطاب.

بالإضافة إلى ذلك هناك محاولات لتشكيل حلف الناتو العربي، الذي تدعو إليه إسرائيل وبعض حلفائها من دول الخليج لمواجهة إيران، وهو تحالف أقل ما يقال عنه إنه يفتقر إلى المرتكزات الأساسية التي تُعزز مِن ترابطه، لكنه سيبقى مشروعاً إقليمياً قائماً، له رؤية خاصة، تحكمُهُ قواعد جزئية لها ارتباط بمصالح الكيان الإسرائيلي المحتل.

كل هذه التحالفات الدولية وغيرها، سواء ما هي واقع حال وتعمل بشكل منتظم، أو هي في طور التشكيل، أو التي مازالت على طاولة النقاش، لا تخرج عن قاعدتين، أما قاعدة القوة غير المنضبطة التي تمس بجوهر أمن واستقرار المجتمع الدولي في النهاية، أو قاعدة القوة المتوازنة، ولا أعني بالضرورة العادلة فقط، وهذه تحتاج إلى مسار وصمود وربما ضغط عالٍ. وحتى إن وصلت إليها لا بد لها من ثمن للأسف، كما وقع في حرب الثلاثين عاماً الأوروبية (1648)، أو الحربين العالميتين الأولى والثانية، والتي أحدثت اختلالاً في موازين القوى الدولية، وانحدر العالم إلى هاوية التفكك، التي أسست لمرحلة جديدة، تشكَّل فيها مجتمع دولي على قواعد هي من وحي تلك الحروب.

ومن هنا فالصراع الدائر اليوم، القائم على تفتيت الأحادية القطبية والتوجه نحو تشكيل عالم متعدد الأقطاب بمنطق مختلف، تتداخل فيه القوة الذكية والتكنولوجيا والطاقة، ويتم الاصطفاف على محاور دولية وإقليمية مُشبَعة بالتناقضات، التي يصعب معها التنبؤ أو توقع مآلات الأحداث، يجعلنا نتأمل في مستقبل المجتمع الدولي، وحتى مصير هيئة الأمم المتحدة وما تفرّع عنها من تكتلات دولية وإقليمية. 

ولعله، وحتى نقف أكثر على مسارات تلك التحالفات في مجال الدفاع والأمن والتصدي لآثار التصادمات المحتملة، وتداعياتها على الأمن والسلام الدوليين، لاسيما ما ينعكس على مراكز القرار الدولي (مجلس الأمن الدولي)، أعتقد أنه من المهم إعادة قراءة أسس بناء المجتمع الدولي الجديد، الذي سيتشكَّل على قواعد التحالفات الجديدة المختلفة، غير أنني أطرح سؤالاً انطلاقاً من الشواهد التاريخية السابقة، مفاده: هل يحتاج ذلك التشكل إلى حرب عالمية أخرى؟

بقلم أحمد بن غربي – أستاذ في القانون الدولي ومحاضر للقانون الدولي وحقوق الإنسان في جامعة زيان عاشور بالجلفة – الجزائر

اترك تعليقا