المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

من أمثلة التسامح المذهبي عند الإمامية

الأستاذ عبد الله محمد

المتتبع لتاريخ الشيعة منذ فجرهم الذي هو فجر الإسلام ذاته ايام الوحي الاولى(1)، لا تفارق ناظريه مشاهد نكران الذات، والاغضاء على القذى من قبل ائمتهم ، حفاظاً على سلامة الوليد الإسلامي الجديد ، مما قد يعترضه من عوارض ، بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم .

فمواقف امير المؤمنين علي واهل البيت عليهم السلام في الترفع والتسامح والتجاوز عن حقهم حرصاً على سلامة هذا الدين، وارساءً لأساسه ، مشهورة ومشهودة، تضيق بإيرادها هذه الصحائف.

فمن ذلك ما كان يوم وفاته صلى الله عليه وآله وسلم . إذ هرع بعض القوم إلى سقيفة بني ساعدة ، يبرمون وينقضون، في شأن من يؤمرونه عليهم .

وأمير المؤمنين علي عليه السلام منشغل بتغسيل الجثمان الطاهر وتجهيزه ، ومنصرف عن المجتمعين في السقيفة . مع علمه بالضرر الذي سوف يلحق بشخصه ، ويلحق بآله  وذريته وشيعته جراء ذلك .

فها هو يقول :

“… فأمسكت يدي حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام ، يدعون إلى محق دين محمد (صلى الله علي وآله وسلم)، فخشيت إن لم انصر الإسلام واهله أن أرى فيه ثلماً أو هرماً ، تكون المصيبة به علي اعظم من فوت ولا يتكم التي انما هي متاع أيام قلائل ، يزول منها كما يزول السراب ، أو كما يتقشع السحاب ، فنهضت في تلك الاحداث حتى زاح الباطل وزهق واطمأن الدين وتنهنه.” (2)

ويقول : ” اللهم اني استعديك على قريش ، فإنهم قد قطعوا رحمي ، وأكفأوا إنائي ، وأجمعوا على منازعتي حقاً كنت اولى به من غيري..  فأغضبت على القذى، وجرعت ريقي على الشجى، وصبرت من كظم الغيظ على أمرَّ من العلقم، وآلم للقلب من حز الشفار.” (3)

ثم ما كان منه ومن مواقفه أيام الخلفاء الراشدين الثلاثة (رض)، وبذله النصح لهم، والوقوف إلى جانبهم، رعاية للاسلام، وصيانة للمصلحة العليا للامة.

وقد تركها كلمة باقية في ذريته، يتداولونها كابراً عن كابر ، لم يشذ عنها منهم أحد .

وسيرتهم كلها شاهدة على صدق تلك المقالة ، مقالة حرصهم على سلامة الدين ، وتضحيتهم في سبيل ذلك بحقهم الخاص، وصبرهم على الأذى في جنب الله.

ثم يأتي من بعدهم اصحابهم وورثتهم من علماء الشيعة الامامية، فلا  يحيدون عن ذلك التوجه أنملة ، ويحيى جمهورهم حياة المكابدة والتضحية والصبر ، إيماناً منهم بالطريق الذي سنه لهم ابو الائمة والائمة من بعده من اهل البيت عليهم السلام.

وكل مواقف علماء الامامية متشابهة ، تنحو منحى التسامح والتآلف والتعايش ونبذ الفرقة ونبذ اثارة الضغائن والنعرات الطائفية .

والسبب في هذا التشابه يتأتى من كون تلك المواقف تياراً متصلاً واحداً يصدر عن نبع واحد لا اختلاف فيه .

فهذا شيخ الطائفة الامامية الطوسي ببغداد، تحرق مكتبته ويحرق كرسي درسه فيها ايام الفتنة .

ولم يكن منه الا أن غادرها بسلام متوجهاً تلقاء النجف الاشرف ، ليؤسس فيها حوزتها العلمية الباقية إلى يوم الناس هذا . من دون ان يتخذ موقف المحرض ، أو يصب الزيت على النار ، نار تلك الفتنة الطائفية التي عصفت حينئذ ببغداد . ولمزيد من التفصيل أحيل على كتب التاريخ التي ارخت تلك الحقبة .

وبإمكان القارئ للتاريخ ان يلاحظ بوضوح مساعي علماء الامامية المتقدمين على طريق التآلف والتعايش والتقارب مع المذاهب المختلفة .

لقد كانت تلك المواقف المسؤولة المبكرة في بدء تأسيس الحوزة العلمية بالنجف عنواناً ونموذجاً صالحاً لكل النماذج المشابهة اللاحقة . فهي سلسلة متصلة  لا تنقطع حتى ايامنا هذه.

وما موقف المرجع السيد السيستاني بالايثار والتسامح ونبذ الفرقة والطائفية ، وما دعواته المتكررة إلى التهدئة والانضباط الا تأكيد لذلك العنوان، وتثيبت له .

وفي بحر اكثر من الف عام من عمر الحوزة العلمية ، منذ تأسيسها وبداياتها حتى تتصل بأيامنا، تنتشر مواقف متشابهة لمراجع الامامية وعلمائها على طريق تحقيق الالفة والتقارب والوحدة بن طوائف المسلمين .

ويمكن ملاحظة علامات ذلك التسامح وشواهده بيسر في امور عديدة ، ابرزها :

اولاً / تتلمذ الكثير من علماء الامامية على علماء من المذاهب الإسلامية الاخرى في جملة اساتذتهم الذين تخرجوا عليهم .

ثانياً / حوار الامامية المتسامح الهادف المسؤول مع الآخرين ، بقصد الاقناع والمقاربة وليس الاعنات والمغالبة .

ثالثاً / ظهور اتجاه في الدرس العلمي المقارن بين علماء الامامية ، لا سيما في المجال الفقهي.

فقد صنف الشريف المرتضى في ذلك ، على سبيل التمثيل ، كتاب (الانتصار)، وصنف الشيخ الطوسي كتاب (الخلاف)، وصنف العلامة الحلي كتاب (التذكرة).

رابعاً / علاقات الاحترام والمودة كانت هي البارزة بين علماء الامامية وبين سواهم ، في الغالب .

خامساً / التلاقح العلمي والفكري بين علماء الامامية وبين علماء المذاهب الاخرى . اذ كان كل من الطرفين يمثل حافزاً للآخر وعنصر إثارة ، للاستباق في ميدان التأليف والرد . الامر الذي عاد على عموم البحث العلمي الإسلامي بالخصب والغناء والاتساع. (4)

تلك وغيرها من شواهد التسامح المذهبي الامامي تجدها ظاهرة بجلاء عند دراسة حياة جمهور علماء الامامية ومجتهديهم .

وهذا ما سوف نلمسه في حياة واحد من اعلام الامامية المبرزين ، الذي سيكون موضع اهتمام البحث كنموذج ومثال،  وهو :

( العلامة الحلي )

جمال الدين ابو منصور الحسن بن يوسف بن علي بن محمد بن المطهر الحلي الملقب بالعلامة وبالفاضل .

ولد سنة 648 للهجرة.(5)

وقال الزركلي : إنه ( ابن المطهر الحلي 648 ـ 726 هـ / 1256 ـ 1325 م / الحسن ويقال الحسين بن يوسف بن علي بن المطهر الحلي جمال الدين ، ويعرف بالعلامة ، من ائمة الشيعة وأحد كبار العلماء…).(6)

وترجم له السيد محسن الامين ، فقال : ( الشيخ جمال الدين ابو منصور الحسن بن سيد الدين يوسف بن زين الدين علي بن محمد بن المطهر الحلي المعروف بالعلامة الحلي والعلامة على الاطلاق..).(7)

والصحيح انه الحسن كما ذكره السيد في اعيان الشيعة ، فهو ادرى بذلك من غيره إذ هو اقرب إليه رحماً .

وكذلك لذكره باسم الحسن في مؤلفاته وترجماته .

وقد ولد العلامة بالحلة ودفن بالنجف وعمره 78 عاماً.(8)

ونشأ في كتف أسرة علمية ودينية ، فأبوه من علماء الامامية ، وخاله المحقق الحلي عالمهم الذائع الصيت الذي لا تزال كتبه تدرس للان على الصعيد الحوزوي، ومنذ بواكيره تلوح مخايل ذكائه فيحضر له ابوه معلماً خاصاً يعلمه القرآن والكتابة. (9) وكان لمسعى والده الاثر البالغ في خلاص الحلة والمشاهد في الكوفة والنجف وكربلاء من غزو المغول ، اذ سعى من الحلة إلى بغداد بمفرده ، والناس يتطايرون هرباً من جيش هولاكو المحاصر لبغداد . فخرج إليه وكلمه بكلمات حكيمة اثرت في نفس هولاكو ، فلم يغز تلك المدن بمسعاته. (10)

شيوخه وأساتذته /

تلقى العلامة علومه على شيوخ واساتذة بارعين من جهابذة الشيعة الامامية ، ومن علماء المذاهب الاخرى .

فمن شيوخه الاماميين : والده ، ثم خاله نجم الدين المحقق الحلي ، والفيلسوف نصير الدين الطوسي ، وكمال الدين ابن ميثم البحراني شارح  نهج البلاغة ، والسيد جمال الدين احمد بن طاووس ، وغيرهم. (11)

ومن شيوخه من المذاهب الاخرى :

علي بن عمر الكاتبي القزويني الشافعي، وتتلمذ في العلوم العقلية على شمس الدين الكشي الشافعي ، وفي الجدل على الشيخ برهان الدين النسفي ، وروى الحديث عن الفاروقي الواسطي ، وعن الشيخ تقي الدين عبد الله بن جعفر الصباغ المالكي من فقهاء الحنفية . واختلف للدرس إلى دبيران القزويني الشافعي. (12)

وذكر الخونساري في (روضات الجنات) من شيوخه : نجم الدين دبيران الكاتبي القزويني ، وقال عنه انه كان من افضل علماء الشافعية .

والشيخ برهان الدين النسفي ، والشيخ عز الدين الفاروقي الواسطي ، والشيخ تقي الدين عبد الله بن جعفر بن علي الصباغ الحنفي المالكي ، والشيخ شمس الدين محمد بن محمد بن احمد المتكلم الفقيه ، قال عنه العلامة : وهذا الشيخ كان من افضل علماء الشافعية ، وكان من انصف الناس في البحث .

أما مؤلفاته ، فقال الطريحي في ( مجمع البحرين ) : إنها خمسمائة مجلد بخطه ، غير التي بخط غيره .

وعدّها السيد رضا الصدر في تقديمه لكتاب (نهج الحق وكشف الصدق)، للعلامة 97 كتاباً ، توزعت على علوم الفقه والحديث والكلام واصول الفقه والحكمة والفلسفة والمنطق والنحو والعربية والرجال والتفسير. (13) بيد أن السيد محسن الامين قد عد منها 107 كتب في الفقه واصول الفقه وعلم الكلام واصول الدين والاحتجاج والجدل وآداب البحث والتفسير والمعقول والحديث والرجال والادعية والنحو وجوابات المسائل والفضائل وملخص شرح نهج البلاغة، وغيرها. (14)

ومن مؤلفاته التي انفتح فيها على المذاهب الإسلامية الاخرى كتاب ( منتهى المطلب في تحقيق المذهب ) ذكر فيه جميع المذاهب الإسلامية في الفقه، ورجّح ما يعتقده،(15) وكتاب ( نهج الإيمان في تفسير القرآن ) ذكر فيه ملخص تفسير الكشاف للزمخشري المعتزلي وملخص تفسير التبيان للشيخ الطوسي، وغيرهما. (16)

وقد كانت مؤلفات العلامة معيناً يرده طلاب العلم ، ولا تزال كذلك حتى الآن . ولعل من اسباب سيرورتها وانتشارها وضوح مقاصدها وكلماتها وسهولة عباراتها ، واشراق ديباجتها ، في عمق مباحثها ودقتها .

أقوال علماء السنة فيه /

قال فيه ابن حجر العسقلاني : ( . . . وكان رأس الشيعة بالحلة ، واشتهرت تصانيفه.. وله كتاب في الامامة رد عليه فيه ابن تيمية بالكتاب المشهور المسمى بـ (الرد على الرافضي) وقد اطنب فيه وأسهب وأجاد في الرد الاّ انه تحامل في مواضع عديدة ، ورد أحاديث موجودة وان كانت ضعيفة بأنها مختلقة…). (17)

ونقل السيد محسن الامين قول صاحب ( لسان الميزان ) فيه: (… وهو الذي ردّ عليه الشيخ تقي الدين ابن تيمية في كتابه المعروف بالرد على الرافضي ، وكان ابن المطهر مشتهر الذكر حسن الاخلاق ، ولما بلغه بعض كتاب ابن تيمية قال : لو كان يفهم ما اقول أحببته..). (18)

من مواقفه /

كان له فضل كبير في نشر تراث الشيعة وعقائدهم . وكانت له جولات مع الملوك والحكام ، ومواقف مشهورة. (19)

ومن ابرز تلك المواقف ما نقله كل من أرخ له ، ذلك هو موقفه مع السلطان المغولي اولجايتو الذي تشيع بسبب الحجج التي اقامها له العلامة الحلي. (20)

فمن هو السلطان اولجايتو؟

انه السلطان غياث الدين اولجايتو محمد المشتهر بخدا بندة ابن ارغون شاه بن اباقا خان بن هولاكو خان بن تولوي خان بن جنكيز خان الملك المغولي الشهير.

كان اولجايتو من اعدل الملوك وارأفهم وأبرهم بالرعيته ، وكان تشيعه على العلامة الحلي .

مصّر بلدة سلطانية ، وبنى فيها تربة لنفسه ذات قبة سامقة عجيبة ، وكان زمانه من خير الازمنة .

امتد سلطانه من بلاد العجم إلى اسكندرية مصر وإلى ما وراء النهر. وحكم ست عشرة سنة. وتوفي سنة 717 أو 719 للهجرة . ودفن بمقبرته في سلطانية .

وبقي على التشيع حتى وفاته ، بدليل كلمات ثقات المؤرخين ، والدراهم المضروبة باسمه قبيل وفاته بأيام قلائل .

واختار لنفسه لقب ( خدا بندة ) بعد تشيعه. (21) أما حادثة تشيعه ، فقد قال في ( روضات الجنات ) بخصوصها :

إن شاه خدا بندة استدعى العلامة الحلي للمناظرة بينه وبين الشيخ نظام الدين عبد الملك المراغي افضل علماء الشافعية ، في امر الامامة . وكان الغلب فيها للعلامة الحلي.

وقال أيضا : إن اولجايتو غضب يوماً على زوجته فقال لها : انت طالق ثلاثاً . ثم انه ندم على ذلك ، وسأل الفقهاء الذين معه عن مخرج لذلك . فقالوا له جميعاً: لا بدّ من المحلل ( اي لابد ان يتزوجها شخص آخر ثم يطلقها لتحل لك بعد ذلك). فلم يرض منهم ذلك . فأشار عليه أحد وزرائه بأن في الحلة من يقول ببطلان هذا الطلاق.

وكان اظهار خدا بندة تشيعه سنة 707 للهجرة ثم إن العلامة ألف كتاب (منهاج الكرامة في الامامة) باسم السلطان.

وفاقت منزلة العلامة عند السلطان منزلة القاضي البيضاوي الشيرازي صاحب التفسير ، ومنزلة القاضي عضد الدين الايجي.

أما السيد محسن الامين فينقل عن القاضي نور الله ان السلطان اولجايتو عدل عن المذهب الحنفي إلى المذهب الشافعي، فتناظر علماء المذهبين بحضرته ، ثم انه احضر العلامة للمناظرة معهم . فاعتنق بعدها التشيع .

وقيل في سبب تشيعه انه اختلاف علماء المذاهب أمامه ، وكثرة جدالهم ، فنفر منهم لذلك .

وذكر السيد انه يمكن ان يكون حادث طلاقه زوجته وقع اثناء اختلافهم ، وحصل مجيء العلامة للمناظرة فتشيع لذلك.(22)

الاّ ان السيد رضا الصدر في تقديمه للكتاب ( نهج الحق وكشف الصدق ) للعلامة الحلي ، يتعرض بتفصيل اكثر لذلك .

ومن المفيد ايراد ذلك التفصيل بطوله فهو يسلط الضوء على مجريات الامور آنذاك، وطبيعتها.

فهو يقول :

“توفي المفكر العظيم الملك غازات المغولي في سنة 703 هجرية في تبريز عاصمة ايران . وخلفه اخوه اولجايتو الذي لقب بـ (خدا بندة) (عبد النبي) . فكان على الملك المغولي إلى ان أدركه الاجل في سنة 716 هـ أتمّ اولجايتو بناء مدينة السلطانية ، وجعلها عاصمة ملكه.

وكانت ام اولجايتو من عشيرة مسيحية تسمى ـ كرائيت ـ. وربت ولدها تربية مسيحية، وعمدته بماء المعمودية. وكان اولجايتو مسيحياً إلى أن توفيت أمه.

تزوج اولجايتو بزوجة مسلمة. فدعته زوجته إلى الإسلام ، وشوقته إلى ذلك . ودعمت دعوتها توجيهات من العلماء الحنفية، اذ كانت لهم اليد العليا في العاصمة . فترك اولجايتو المسيحية واعتنق الإسلام ، وسمي بـ (محمد)، واختار المذهب الحنفي، وصار من انصاره دون أن يكون متعصباً له.

واغتنم علماء الحنفية الفرصة . وبدأوا بإظهار التعصب للمذهب الحنفي ، وانتهى الامر إلى ايذاء اتباع المذاهب الثلاثة الاخرى ، والسعي لترك مذاهبهم والدخول في الحنفية .

وكان الشيخ المحنك وزيره الشافعي الخواجة رشيد الدين فضل الله ينظر إلى ذلك عن كثب . فشوق الشاه إلى اصدار منشور لنصب الخواجة نظام الدين عبد الملك المراغي الشافعي  قاضي القضاة لجميع البلاد المغولية الايرانية ، وجعل جميع الشؤون الدينية لجميع المذاهب الإسلامية تحت امر سماحة القاضي ، وهو عالم كبير جامع للمعقول والمنقول .

ولما استلم منصب القضاء الرفيع بدأ ينقض المذاهب الثلاثة التي لم يتمذهب بها ، وعلى رأسها المذهب الحنفي .

وافتتح باب المناظرات والمجادلات الدينية بين ارباب المذاهب الإسلامية وعلمائها . وراجت سلعة المخاصمات والنزاح حتى وصل الامر إلى المشاتمة بين علماء المذهبين الشافعي والحنفي .

وفي سنة 707 هـ جاء ابن صدر جهان الحنفي من مدينة بخارى إلى العاصمة . وكان يتعصب شديداً للحنفية . فاشتد الجدال والخصام بينه وبين القاضي . وآل الامر إلى الفضيحة حيث لم يقصر كل واحد من علماء  الطائفتين عن ذكر قبائح المذهب الآخر وسخائف ما فيه من الاصول والفروع ، حتى وصل الامر إلى الاهانة بالإسلام .

وأدّى الأمر إلى ملال امراء المغول وندامتهم من ترك مذهبهم واعتناقهم للاسلام…

وغضب الشاه خدا بندة على المناظرين حتى قام من مجلس المناظرة وخرج…

ثم خاطب الامير المغولي قتلقشاه امراء المغول قائلاً :

قد صدرت منا خبطة عشواء حيث تركنا ملة آبائنا ورفضنا إلياساً الجنكيزي ، ودخلنا في دين العرب . وهو دين يختلف فيه المتدينون به اختلافاً شديداً كما ترون . فالاولى ان نرجع إلى ملة آبائنا . . .

وانتشر الخبر في الجيش المغولي فنفروا من الإسلام . وكانت النفرة تزداد بينهم يوماً فيوماً . فكان اذا رأى احدهم رجلاً من اصحاب العمائم يستهزئ به ويطعن عليه .

ولم يكتفوا بذلك حتى تركوا عقد الزواج على طريق الإسلام .

وبقي الشاه اولجايتو متفكراً حائراً في أمر دينه ثلاثه سنين ، ولم يختر مذهباً بعد رفض الحنفية . ولكنه لم يترك الإسلام ولم يرتد على اعقابه ، بالرغم من دعوة جيشه إلى ذلك ، لأنه كان محباً للاسلام ومؤمناً به .

فاقترح عليه احد امرائه المسمى طي مطاز اختيار مذهب الشيعة قائلاً له :

ان الملك غازان كان اعقل اهل زمانه واكملهم . وقد اختار مذهب الشيعة. والمناسب ان يكون خليفته على طريقته…

فلم يعجب الشاه كلامه وصاح به مجيباً: يا شقي، أتريد أن تجعلني رافضياً ؟ لن يكون ذلك…

ولكن الامير بدأ يحدثه بهدوء ولين ، مبيناً له مذهب الشيعة وأنه مذهب اهل البيت الذين هم ادرى بالبيت ، ببيان أوفى وكلام متين.

وحاول أن يزيل من قلب الشاه ما قرع سمعه من الدعايات الفاسدة والاشاعات الكاذبة ضد هذا المذهب ولكن اولجايتو لم يقنع بحديثه.

وكان قرع سمع الشاه اسم شيخنا المترجم، (العلامة الحلي).

وأنه افضل علماء عصره بالحلة وكبيرهم ، جامع المعقول والمنقول ، وانه قد حاز السبق في الفروع والاصول .

فطلب منه ان يؤلف كتاباً في اصول العقائد الإسلامية مع ذكر البراهين العقلية والنقلية ، فأجاب الشيخ طلبه ولبى دعوته.. وألف الشيخ كتاب (نهج الحق وكشف الصدق)…

وعندما اشتهرت حيرة الشاه في اختياره للمذهب ، قصده علماء الإسلام من أطراف البلاد طامعين بدعوته إلى مذهبهم، وكان منهم علماء الشيعة، إذ كان على مقدمتهم العلامة الحلي .

فقد قصده بعد الفراغ من تأليف الكتاب ومعه ابنه العلامة فخر الدين . وحينما وصل الوالد والولد .

العلامتان إلى السلطانية قدم الاب إلى الشاه كتابين خرجا من قلمه ، احدهما هذا الكتاب الذي الف بطلب منه ، وثانيهما (منهاج الكرامة في باب الامامة).

واحتفل الشاه بقدوم الاب والابن وأكرمهما . وافتتح باب المناظرات والمباحثات بين العلامة وبين قاضي القضاة الخواجة نظام الدين المراغي ، في التشيع والتسنن ، بأحسن وجه واحدث طرز.

ولم يخرج العالمان الكبيران عن حد الادب المجلسي والكلام العلمي . كما لم يصل البحث بينهما إلى شتم أو فحش أو هتك عرض أو اساءة إلى مذهب أبداَ .

وكانت المناظرات تدور مرة بحضور الشاه ، ومرة يطلع على تفاصيلها بالواسطة .

ثم طار صيتها وكان لها صدى  في البلاد ، ولا سيما بين امراء المغول والجيش .

فاستقبل السلطان محمد خدا بندة مذهب التشيع ، وصار من انصاره من دون ان يضغط على المذاهب الاخرى ، لأنه كان رجلاً حكيماً ، يرشده العلامة ، وهو حكيم .

وقد جعل الشاه اصحاب المذاهب الإسلامية احراراً في اقامة السنن والنسك على طريقتهم والدعوة لها .

ولكن علماء السنة لم يرضوا بذلك ، بل قصدوا ارجاع الشاه عن التشيع إلى التسنن ، وبذلوا في ذلك غاية سعيهم….

ثم تبع الشاه خدا بندة في اختياره لمذهب التشيع جميع امراء المغول دون ان يكونوا مكرهين من قبل الشاه ، ولذا بقي أميران منهم على مذهب التسنن ، وهما جويان وإيسن قتلغ….)). (23)

اما الكتاب الذي ألّفه العلامة الحلي للشاه خدا بندة والموسوم بـ (منهاج الكرامة في باب الامامة) فقد سار في الآفاق ، وكان هو السبب في تأليف ابن تيمية المعاصر للعلامة كتابه المعروف بـ (الرد على الرافضي) أو (منهاج السنة) رداً على ذلك الكتاب.

وحين بلغ العلامة كتاب ابن تيمية (منهاج السنة) أو (الرد على الرافضي)، فرآه مفتتحاً بالشتائم والسباب ومشحوناً بالمغالطات والحشو ، ” قال ابن حجر العسقلاني:

كان ابن المطهر مشتهر الذكر حسن الاخلاق ، ولما بلغه كتاب ابن تيمية قال : لو كان يفهم ما أقول أحببته… ونقل ابن حجر العسقلاني في ( الدر الكامنة ) كلاماً آخر قال فيه : لما وصل . اي ابن المطهر ـ كتاب ابن تيمية في الرد عليه، كتب ابياتاً اولها :

لو كنتَ تعلم كلّ ما علم الورى  طراً لصرتَ صديق كلّ العالَمِ

لكن جَهلتَ فقلت إن جميع من يهوى خلاف هواك ليس بعالِمِ

والأصح ان هذين البيتين ليسا في الرد على الكتاب ، وانما بعث بهما إليه لما كان يبلغه أن ابن تيمية ينال منه ويشتمه في المجالس…)). (24)

ومما يذكره المؤرخون أن ابن المطهر العلامة الحلي التقى ابن تيمية بمكة في المسجد الحرام، وابن تيمية لا يعرفه ، وتذاكرا، واعجب ابن تيمية به فقال له :

من تكون يا هذا ؟

فأجابه ابن المطهر : الذي تسميه ابن المنجّس. وكان ابن تيمية يسميه بذلك في كتابه (منهاج السنة).

فحصل بينهما أنس ومباسطة. (25)

ذلك هو العلامة الحلي نموذج من نماذج الانفتاح الفكري والتسامح المذهبي والحوار الايجابي والاريحية ، تلك السمات التي ظل طابعها ظاهراً بين جمهور علماء الامامية .

وتلك الخلال في التعامل مع الآخرين تستدعي رقة الطبع ولين الجانب وطرافة العبارة .

فلا غرابة بعد ذلك اذا رأينا عالماً وفقيهاً كالعلامة الحلي ينسج على منوال الشعر الرقيق ، على قلته ، ويبرز فيه ، بالرغم  مما يقال عن برودة شعر الفقهاء والعلماء في الغالب .

فها هو يرسل إلى السلطان خدا بندة في عسكره ، مستأذناً للسفر إلى العراق من السلطانية أبياتاً تقطر رقة وعذوبة ، في عرض شائق لطلبه وبيان مؤثر ولافتِ للانتباه ، إذ يقول :

محبّتي تقتضي مقامي وحالتي تقتضي الرحيلا

هذان خصمان لست أقضي بينهما خوف أن أميلا

ولا يزالان في اختصامٍ حتى نرى رأيك الجميلا (26)

الهوامش:

1ـ يراجع بهذا الشأن (نشأة التشيع والشيعة) للشهيد السيد محمد باقر الصدر.

2ـ نهج البلاغة/415.

3ـ نهج البلاغة 2/202 شرح الشيخ محمد عبدة.

4ـ ينظر (المعالم ا لجديدة للاصول) للشهيد الصدر ص71.

5ـ نهج الحق وكشف الصدق /5.

6ـ الاعلام مج 2/ 227 ـ228.

7ـ أعيان الشيعة ج24/227.

8ـ العلامة الحلي/ للسيد مرتضى القزويني.

9ـ نهج الحق وكشف الصدق للعلامة الحلي/10.

10ـ المصدر نفسه/ 6ـ7.

11ـ العلامة الحلي.

12ـ ينظر اعيان الشيعة 24/284، ونهج الحق/10ـ12.

13ـ نهج الحق وكشف الصدق/15ـ28.

14ـ أعيان الشيعة ج24/312ـ326.

15ـ المصدر نفسه 24/312.

16ـ المصدر نفسه 24/321.

17ـ الدرر الكامنة 2/71.

18ـ اعيان الشيعة 24/290.

19ـ العلامة الحلي/ للسيد مرتضى القزويني.

20ـ اعيان الشيعة 24/280 ـ 281.

21ـ اللآلي المنتظمة والدرر الثمنية للسيد شهاب الدين الحسيني المرعي النجفي.

22ـ اعيان الشيعة 24/294ـ295.

23ـ نهج الحق وكشف الصدق /29 ـ32.

24ـ ابن تيمية حياته عقائده/ 219ـ220 لصائب عبد الحميد.

25ـ نهج الحق وكشف الصدق /14.

26ـ اعيان الشيعة 24/330.

مجلة حوار الفكر العدد 3

اترك تعليقا