المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

هل حرب أوكرانيا تنذر بتراجع نفوذ روسيا

ينذر استمرار حرب أوكرانيا إلى إمكانية تراجع نفوذ روسيا في الشرق الأوسط، ومحاولة عدد من القوى المنافسة ملء الفراغ الناجم عن الانشغال الروسي، وقد يظهر ذلك بشكل واضح في سوريا التي تحولت لقاعدة روسية في الشرق الأوسط.

واللافت أن فلاديمير بوتين لم يحقق نجاحاً في إعادة بناء موقع القوة العظمى لروسيا في أي مكان خارج الاتحاد السوفييتي السابق أكثر مما نجح في الشرق الأوسط. ومع ذلك، بينما يحصي بوتين تكاليف مغامرته الفاشلة في أوكرانيا الآن، ليس من الواضح ما إذا كانت مكاسب روسيا في الشرق الأوسط يمكن أن تستمر، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Wall Street Journal الأمريكية.

كيف استغل بوتين أخطاء أوباما لتوسيع نفوذه في الشرق الأوسط؟
نجح بوتين في استعادة نفوذ روسيا في الشرق الأوسط عبر استغلال الأخطاء الأمريكية؛ مثل فشل الرئيس أوباما في فرض تهديداته بالرد العسكري على استخدام بشار الأسد للأسلحة الكيميائية في الحرب الأهلية السورية، حيث أدخلت روسيا نفسها في سياسات الشرق الأوسط ودافعت عن نظام الأسد من خصومه المحليين.

أدى نجاح ذلك التدخل الروسي القبيح- لكن الحقيقي- إلى إلحاق أضرار بالغة بالهيبة الأمريكية، وزاد من نفوذ موسكو لدى تركيا، ودعم وصول روسيا إلى الدول العربية الغنية بالنفط، وأجبر إسرائيل على طلب الإذن من موسكو لتنفيذ عمليات ضد وكلاء إيران في سوريا.

إدارة بوتين تعاملت على أن نفط الشرق الأوسط لم يعد مهماً
ثم أمضت إدارة بايدن عامها الأول في جعل الأمور أسوأ، وركزت سياساتها في الشرق الأوسط على إحياء الاتفاق النووي مع إيران، والعداء تجاه إنتاج الوقود الأحفوري، والتحول المستمر في الأولويات الاستراتيجية الأمريكية بعيداً عن المنطقة في إطار “التمحور” أكثر في اتجاه آسيا.

وصارت ثمار هذه الاستراتيجية واضحة عندما فشلت الجهود الأمريكية لدفع إسرائيل إلى موقف قوي مناهض لروسيا تقريباً، مثلما فشلت الجهود الأمريكية لإقناع حلفائها العرب بدعم سياسة أمريكا في أوكرانيا من خلال تعزيز إنتاج النفط والغاز للحفاظ على الأسعار العالمية منخفضة.

هكذا أدت الحرب إلى تراجع نفوذ روسيا في الشرق الأوسط
كان ذلك في فبراير/شباط. ولكن منذ ذلك الحين، كانت العملية العسكرية في أوكرانيا تؤذي روسيا في الشرق الأوسط وتساعد الولايات المتحدة. وهي تؤذي روسيا أولاً وقبل كل شيء لأنَّ فشل بوتين في سحق أوكرانيا يجعله يبدو وكأنه خاسر، والضعف هو الخطيئة التي لا تُغتفَر في المشهد السياسي في الشرق الأوسط. كل يوم يمر دون أن تحرز روسيا تقدماً كبيراً، ويزداد فيه رد الفعل الغربي على الهجوم الروسي قوةً، يبدو بوتين أضعف بينما تبدو أمريكا أقوى.

وعلاوة على ذلك، يبدو أنَّ العملية العسكرية تضخ جرعة ضرورية من الواقعية في تفكير إدارة بايدن. قد يرغب مروجو الديمقراطية الويلسونية- وهي أيديولوجية في السياسة الخارجية وضعها الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون- في إدارة بايدن بمواصلة توجيه محاضرات أخلاقية محفزة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، لكنهم يحتاجون إلى مساعدته لترويض أسعار الطاقة المرتفعة التي تهدد الاقتصاد العالمي، ومن ثم مستقبل الحزب الديمقراطي.

كانت العلاقة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وهي واحدة من أكثر الشراكات حميمية وفعالية في العالم، تتعرض أيضاً لضغوط قبل أن يهاجم بوتين أوكرانيا. حيث إن القلق الأمريكي بشأن السياسات الإسرائيلية ذات الميول اليمينية المتزايدة تجاه الفلسطينيين والمخاوف الإسرائيلية بشأن السياسة الأمريكية تجاه إيران والالتزام الأمريكي طويل الأجل تجاه المنطقة يختبر العلاقة بجدية.

أزمة أوكرانيا أبرزت أهمية الشرق الأوسط
يرى تقرير صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية أن إنشاء شبكة تحالف في الشرق الأوسط تضم بعضاً من الأنظمة العربية وإسرائيل، التي حافظت على المصالح الأمريكية الحيوية بتكلفة محدودة، أحد الإنجازات الأمريكية.

ومن وجهة نظر الصحيفة، فقد أدت أخطاء القرن الحادي والعشرين الجسيمة التي ارتكبها الرؤساء الجمهوريون والديمقراطيون على حد سواء، إلى تعريض هذا الإنجاز للخطر. لكن العملية العسكرية لبوتين تمنح الرئيس بايدن فرصة لإعادة بناء هذا الإنجاز لصالح واشنطن، لكن مقابل ثمن.

وأشار التقرير إلى أن العملية العسكرية في أوكرانيا ذكّرت إدارة بايدن بأنَّ الشرق الأوسط حيوي للأمن الأمريكي ولصحة النظام العالمي الذي يأمل الأمريكيون في الدفاع عنه. والسؤال المطروح الآن هو ما إذا كانت تستطيع الإدارة الانفصال عن سياسات أوباما الفاشلة وسياسات بايدن في أيامه الأولى، وأن تبني إطاراً واقعياً لإنعاش الهيمنة الأمريكية في الشرق الأوسط.

العلاقة المركبة بين إسرائيل وروسيا
يستخف الأمريكيون أحياناً بتأثير القوى التي تجذب إسرائيل نحو روسيا. فقد هاجر ما يقرب من 1.2 مليون من الاتحاد السوفييتي السابق (بما في ذلك أوكرانيا) إلى إسرائيل، ولدى العديد منهم روابط شخصية وثقافية واقتصادية بالعائلات والأصدقاء الذين تركوهم وراءهم. ومن الناحية الأيديولوجية، فإنَّ الليبرالية الغربية “المستيقظة” والمناهضة للصهيونية على نحو متزايد تُنفِّر الكثير من الإسرائيليين. في بداية الهجوم الروسي، كان من الواضح أنَّ القادة الإسرائيليين يحاولون الموازنة بين حاجتهم إلى علاقات جيدة مع روسيا والتزامهم بالتحالف الأمريكي المضطرب.

لكن منذ ذلك الحين، يبدو أنَّ الأحداث تدفع بالحليفين القدامى إلى الوراء مرة أخرى. إنَّ إحجام إدارة بايدن، حتى الآن، عن قبول المطالب الإيرانية ثمناً لإعادة العمل بالاتفاق النووي في عهد أوباما، يترك العديد من الإسرائيليين آملين في سياسة أمريكية أقوى في المنطقة. ويثير نموذج رئيس أوكرانيا اليهودي الكثير من الإسرائيليين. وبينما يسعى بوتين إلى حشد القومية الروسية خلفه في صراعه مع الغرب، فإنَّ أتباعه يعيدون النظر في الاستعارات المعادية للسامية- مثل أسطورة الدم اليهودي المزعوم لأدولف هتلر- التي يتردد صداها في الأوساط القومية الروسية، لكنها تذكر اليهود بعمق جذور معاداة السامية في التاريخ والثقافة في روسيا.

تل أبيب قد تحاول توسيع هجماتها العسكرية في سوريا
إسرائيل قد تسعى لتقليل المخاطر واستكشاف الفرص الناشئة عن انشغال بوتين في أوكرانيا واحتمالات تراجع النفوذ الروسي في الشرق الأوسط لا سيما في سوريا، حسبما ورد في تقرير لمدونة معهد أبحاث السلام في أوسلو (PRIO).

وحاولت إسرائيل في البداية أن تبقى على الحياد في أزمة أوكرانيا لضمان استمرار التنسيق مع موسكو خلال الهجمات التي تشنها ضد الأهداف الإيرانية في سوريا، ولكن هذا التوازن الهش تعرض لأزمة إثر انتقاد وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد لموسكو ورد وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي تحدث عن أصول يهودية لهتلر، وبدا أن بوتين في اتصاله مع بينيت يحاول أن يمنع انهيار العلاقات الإسرائيلية الروسية والذي ستكون أبرز ساحاته هي سوريا.

ولكن مع انشغال روسيا في حرب أوكرانيا، وتوتر العلاقات الروسية الإسرائيلية، قد تعمد تل أبيب لتوسيع هجماتها في سوريا دون تنسيق مع موسكو.

كيف ستؤثر حرب أوكرانيا على الوضع في سوريا؟
في سوريا، أدت الآثار المباشرة للحرب في أوكرانيا إلى تفاقم الوضع الإنساني الصعب بالفعل. إن العنف الذي طال أمده في أوكرانيا أو توسع الحرب الأوكرانية إلى مواجهة أكبر بين الناتو وروسيا من شأنه أن يعرض التعاون متعدد الأطراف في إدارة الصراع وحل النزاعات والقضايا الإنسانية في سوريا للخطر، حسبما ورد في تقرير للمعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية “swp”.

يمكن أن يؤدي الصراع في أوكرانيا بعد أن طال أمده أكثر من المتوقع إلى تعطيل الوضع الراهن المتقلب في سوريا، مما قد يعرّض اتفاقيات وقف إطلاق النار للخطر، وإمالة ميزان القوى لصالح إيران، وبالتالي زيادة خطر التصعيد العسكري بين إيران وخصومها، مما يعقّد القتال ضد داعش، ويعرض تسليم المساعدات الإنسانية عبر الحدود للخطر.

نظراً لاعتماد نظام الأسد الشديد على الدعم العسكري الروسي، فإن الهدوء الحالي في سوريا قد يكون على وشك الانهيار.

في الوقت الحالي، يهدف بوتين إلى تحقيق نصر أكبر بكثير في أوكرانيا، لكن نقاط الضعف الكامنة في القوة العسكرية الروسية، والتي لم تظهر خلال الحملة السورية، أصبحت مكشوفة بشكل صارخ.

إن عدم قدرة هيئة الأركان العامة الروسية على تنفيذ سلسلة من الضربات الجوية الضخمة أمر مثير للدهشة بشكل خاص، والمهام القتالية الروسية في أوكرانيا التي تتم على غرار ما حدث في سوريا والتي يقوم فيها زوجان من الطائرات التي تستهدف غالباً هدفاً ثابتاً (وليس بالضرورة عسكرياً) ثبت أنها غير فعالة تماماً في مواجهة دولة بحجم أوكرانيا ولديها جيش كبير نسبياً يحظى بدعم غربي.

جعلت روسيا من نفسها قوة رئيسية في ضمان بقاء وهيمنة نظام الأسد الوحشي، لكنها لم تنشئ مطلقاً قاعدة دعم سورية قوية لتدخلها. إن الصورة الدولية لموسكو تتعرض الآن لخطر شديد، وقد تضررت قوتها العسكرية بشدة بسبب سوء التخطيط وحرب أوكرانيا التي تستهلك الموارد، وهو أمر قد يؤدي إلى تراجع نفوذ روسيا في الشرق الأوسط ولا سيما سوريا.

بينما تكافح القوات المسلحة الروسية لتحقيق قدر ضئيل من النجاح في أوكرانيا، فإن القدرة على استمرار الأنشطة الروسية القتالية في سوريا تتقلص بشكل حتمي. أصبح المقاتلون المحليون في سوريا يدركون بشكل متزايد هذا الانخفاض في شحنات الإمدادات الحيوية لجيش الأسد خاصة عن طريق البحر، لا سيما أن تركيا استندت إلى المادة 19 من اتفاقية مونترو وأغلقت مضيقي البوسفور والدردنيل أمام البحرية الروسية.

لا يزال ترتيب وقف إطلاق النار المستمر منذ عامين في محافظة إدلب والذي تفاوض عليه بوتين والرئيس التركي رجب طيب أردوغان قائماً، لكن الجماعات المعارضة السورية المسلحة المختلفة تستعد لاختبار استعداد روسيا لتعزيز وحماية وجودها في سوريا.

جاء إعلان الدعم المعنوي لأوكرانيا ليكون تكتيكاً مجانياً للمعارضة المناهضة للأسد لتحدي النفوذ الروسي الثقيل في سوريا، لكن تحول ذلك إلى أفعال قد لا يكون أمراً بعيداً، حسب معهد أبحاث السلام في أوسلو (PRIO).

هل تحاول تركيا استغلال انشغال روسيا بأوكرانيا لتغير الوضع في سوريا؟
لقد رسمت تركيا حتى الآن مساراً حذراً للغاية في التعامل مع الأزمة الأوكرانية مثلما يبدو في مسرح البحر الأسود العاصف، كما توسطت في عقد اجتماع بين وزيري الخارجية الروسي والأوكراني في أنطاليا وكذلك في المفاوضات المتعثرة بين البلدين.

ومع ذلك، بينما يوسع الناتو دعمه لأوكرانيا، تضيق مساحة تركيا للمناورة وقد تجد نفسها قريباً مضافة إلى القائمة الروسية المعدلة حديثاً لـ”الدول المعادية”، والتي تشمل جميع الدول الأوروبية والعديد من الدول الآسيوية، ولكن لا شيء من الشرق الأوسط حتى الآن.

وزودت تركيا أوكرانيا بطائرات من طراز Bayraktar TB2 القتالية منذ عام 2019، وعلى الرغم من أنها لم تقدم مساعدات عسكرية لكييف بعد الغزو الروسي، إلا أن تأثير الطائرات المسيرة التركية على الحملة العسكرية الروسية كبير لأن الجيش الروسي لا يستطيع- لسبب غير مفهوم- إيجاد طريقة للدفاع عن نفسه ضد هذه الضربات.

تجعل النكسات العسكرية قضية الطائرات المسيرة التركية مصدر إزعاج سياسي كبير لروسيا، وقد تتصاعد التوترات مع تركيا أكثر مع تصعيد أسطول البحر الأسود الروسي، من عملياته القتالية، حيث قد يضطر الناتو إلى نشر منصات بحرية لحماية رومانيا وبلغاريا، وقد لن تتمكن تركيا بعد ذلك من إبعاد نفسها عن هذا التوتر.

في مواجهة هذا الوضع، قد يختار أردوغان الرد بشكل غير متكافئ- في سوريا. قد تكون تعليمات بوتين لوزير الدفاع سيرجي شويغو لتسليم ونشر “متطوعين” من سوريا إلى منطقة حرب دونباس مجرد خدعة دعائية، لكن في الواقع، يمكن أن يتأثر تماسك جيش الأسد ومعنوياته جراء تقليص الإمدادات الروسية.

قد تسعى تركيا إلى الاستفادة من الموقف الضعيف لنظام الأسد وانشغال روسيا بأزمة أوكرانيا.

حتى الآن، رغم منع تركيا لمرور الطائرات الروسية إلى سوريا عبر أجوائها، لكن من الواضح أنها لا تريد تصعيداً في سوريا، بل هي تطرح مشروعاً لنقل جزء من اللاجئين السوريين من أراضيها إلى مناطق شمال سوريا الخاضعة للمعارضة، وهي خطوة تتطلب التهدئة مع موسكو ودمشق.

اترك تعليقا