المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

هل فشلت أمريكا في وقف الحرب على غزة

هرول أنتوني بلينكن إلى المنطقة حاملاً أهدافاً معلنة، فماذا تحقق منها؟ لا شيء. فقرر وزير خارجية بايدن العودة إلى إسرائيل والمحاولة مرة أخرى، فماذا يريد الآن بينما يستمر القصف الأكثر دموية على قطاع غزة؟

كان وزير الخارجية الأمريكي بلينكن قد وصل إلى دولة الاحتلال، الخميس 12 أكتوبر/تشرين الأول، وبعد أن التقى بمسؤوليها خلف الأبواب المغلقة، عقد مؤتمراً صحفياً مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، زعم خلاله بلينكن أنه “شاهد صوراً بشعة لأطفال إسرائيليين تعرضوا للحرق”، ومن ثم انطلق في جولة إلى عواصم عربية حاملاً هدفاً رئيسياً وأهدافاً متفرعة منه.

لم يلق بلينكن بالاً لمواصلة جيش الاحتلال القصف المجنون وغير الإنساني لقطاع غزة، بغطاء أمريكي وغربي، بهدف إيقاع نكبة جديدة للفلسطينيين تكون أسوأ من نكبة 1948، وهو ما رصده تقرير لمجلة فورين بوليسي الأمريكية عنوانه “فرض الحصار على غزة ليس حلاً”، يفضح ما يقوم به جيش الاحتلال الإسرائيلي من قصف غير مسبوق لقطاع غزة منذ عملية “طوفان الأقصى” التي أطلقتها المقاومة الفلسطينية يوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

و”طوفان الأقصى” هو الاسم الذي أطلقته “حماس” على العملية العسكرية الشاملة، ففي تمام الساعة السادسة صباحاً بالتوقيت المحلي في فلسطين، شنّت “حماس” اجتياحاً فلسطينياً لمستوطنات الغلاف المحاذية لقطاع غزة المحاصر؛ حيث اقتحم مقاتلون من كتائب عز الدين القسام البلدات المتاخمة للقطاع، في ظل غطاء جوي من آلاف الصواريخ التي أُطلقت من غزة باتجاه تل أبيب والقدس ومدن الجنوب.

ما الهدف الرئيسي من زيارة بلينكن للمنطقة؟

جاء بلينكن إلى المنطقة وعينه على هدف واحد وهو إقناع الزعماء والقادة العرب بإدانة “طوفان الأقصى” وفصائل المقاومة وبخاصة حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، بعد أن فشل في تحقيق هذا الهدف عبر اتصالاته الهاتفية المكثفة مع نظرائه العرب في المنطقة.

فبحسب تقرير لموقع Axios الأمريكي، أجرى وزير الخارجية بلينكن، في اليومين الأوليين على طوفان الأقصى، اتصالات مكثفة مع نظرائه في دول عربية لديها “اتفاقيات سلام” مع إسرائيل، وطلب منهم أن “يدينوا” هجوم حماس، إلا أن أحداً منهم لم يفعل ذلك، باستثناء الإمارات، حيث أصدرت وزارة الخارجية هناك بياناً بدا وكأنه استجابة لطلب بلينكن؛ إذ أصدرت، الأحد 8 أكتوبر/تشرين الأول، بياناً “يدين” الهجمات التي تشنها حركة حماس على المدن والقرى الإسرائيلية القريبة من قطاع غزة، ويعتبرها تشكل “تصعيداً خطيراً وجسيماً”.

جاء بلينكن إلى المنطقة للتأكيد على الدعم الأمريكي المطلق للاحتلال الإسرائيلي، وكأن هذه الحقيقة المؤسفة تحتاج أو ينقصها التأكيد. استخدم وزير الخارجية خطاباً “عاطفياً” وقال إنه جاء “كيهودي وليس كوزير خارجية”، وكأنها حرب “دينية” وليست مقاومة لاحتلال بكل المعايير القانونية والإنسانية والأخلاقية.

على أية حال، غادر بلينكن إسرائيل بعد أن أكد على الضوء الأخضر الذي منحته إدارة جو بايدن لجيش الاحتلال وشرطته ومستوطنيه كي يفعلوا ما يحلو لهم بحق الفلسطينيين جميعاً، سواء في القدس والضفة الغربية المحتلتين، أو في قطاع غزة المحاصر.

وتوجه الوزير الأمريكي، “المتأثر جداً” بما زعم أنها صور لأطفال تعرضوا للحرق ليتضح لاحقاً أنها “صورة كلب تم التلاعب بها من خلال الذكاء الاصطناعي”، إلى العاصمة الأردنية عمان، حيث التقى العاهل الأردني ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس.

ومن هناك اتجه إلى منطقة الخليج حيث زار عواصمها جميعاً تقريباً ثم توجه إلى مصر، وكان يفترض أن يغادر القاهرة إلى واشنطن مساء الأحد، إلا أنه قرر العودة إلى تل أبيب مرة أخرى صباح الاثنين 16 أكتوبر/تشرين الأول، بحسب ما أفادت تقارير إعلامية نقلاً عن الخارجية الأمريكية، فماذا حقق بلينكن في زياراته المكوكية للعواصم العربية؟

الإجابة المباشرة هنا هي “لا شيء على الإطلاق”، فلم تصدر أي إدانة عربية للمقاومة الفلسطينية وجاءت الرسالة العربية شبه موحدة وهي أنه لا حل في فلسطين إلا بحصول أهلها على حقوقهم في إقامة دولتهم المستقلة، وإن اختلفت العبارات والتصريحات.

فخلال لقاءاته في العاصمة القطرية الدوحة، قال بلينكن إنه أخبر زعماء الشرق الأوسط أنه لا يمكن “الاستمرار في التعامل كالمعتاد” مع حركة المقاومة الإسلامية الفلسطينية (حماس)، ولم يرد بلينكن بشكل مباشر على سؤال حول هل طلبت واشنطن من قطر إغلاق مكتب سياسي لحماس في الدوحة، لكنه قال رداً على ذلك إن كل الدول “بحاجة إلى التنديد” بحماس لهجومها على بلدات إسرائيلية، مضيفاً: “أوضح أيضاً في جميع محادثاتي خلال هذه الجولة أنه لا يمكن الاستمرار في التعامل كالمعتاد مع حماس”.

وكان رد رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني واضحاً ومباشراً؛ إذ أشار إلى أن قطر لن تغلق مكتب حماس السياسي، قائلاً إنه “يستخدم منذ البداية كقناة للتواصل ووسيلة لإحلال السلام في المنطقة”، وقال الشيخ محمد: “دولة قطر تبقي دائماً قنوات الاتصال مفتوحة وتركز على وضع حد لهذا الصراع وهو ما سيبقى محط التركيز في الفترة المقبلة”.

رفض مصر فتح معبر رفح إلا بشروط

أراد بلينكن أن يحقق أي شيء من جولته في المنطقة، بعد أن بات واضحاً أن الهدف الرئيسي له لن يتحقق، فركز على إجلاء الرعايا الأمريكيين والأجانب من قطاع غزة، الذي يتعرض لقصف إسرائيلي مجنون وعشوائي ولا إنساني وغير مسبوق، عبر معبر رفح على الحدود المصرية؛ إذ إن عودة وزير الخارجية من القاهرة إلى واشنطن وعلى متن الطائرة رعايا أمريكيين كانوا في غزة ربما يمثل “مشهداً إعلامياً” يغطي على فشل الهدف الرئيسي للزيارة.

وأصدرت الخارجية الأمريكية بيانات متكررة إلى الرعايا الأمريكيين في القطاع بالاقتراب من معبر رفح استعداداً للمغادرة نحو الأراضي المصرية عصر السبت 14 أكتوبر/تشرين الأول، فيما بدا أن فتح المعبر أمر محسوم وأن الأمر متوقف فقط على ضمان ألا تقصف الطائرات الإسرائيلية مناطق تواجد هؤلاء الرعايا.

ولا يتطلب الأمر كثيراً من الجهد هنا للوقوف على ما تعنيه هذه الرسائل الموجهة إلى الرعايا الأجانب من الخارجية الأمريكية، فمن غير المتصور أن يتم توجيه هؤلاء الرعايا إلى التحرك والاقتراب من معبر رفح، في ظل القصف الإسرائيلي الذي لا يتوقف، دون أن يكون فتح المعبر من الجانب المصري عصر السبت أمراً متفقاً عليه مع الجانب المصري وأيضاً مع الإسرائيليين، فماذا حدث؟

أعلن الجانب المصري أنه لن يتم السماح بعبور الرعايا الأجانب من قطاع غزة إلى الأراضي المصرية إلا إذا تم السماح بإدخال المساعدات الإنسانية لسكان قطاع غزة، وهو ما أصرت إسرائيل على رفضه، فأصرت مصر على موقفها ولم يتم فتح المعبر كما أعلنت الخارجية الأمريكية، فتوجه بلينكن إلى القاهرة فيما بدا أنها محاولة لإقناع الجانب المصري بالتخلي عن شرط إدخال المساعدات والسماح بعبور الرعايا الأمريكيين والأجانب فقط.

ومن القاهرة، قال وزير الخارجية الأمريكي الأحد إن المعبر الحدودي إلى قطاع غزة، والذي تسيطر عليه مصر، سيعاد فتحه، وإن الولايات المتحدة تعمل مع مصر وإسرائيل والأمم المتحدة من أجل إيصال المساعدات عبره، حيث تتكدس في شبه جزيرة سيناء المصرية مئات الأطنان من المساعدات من عدة دول بسبب عدم التوصل إلى اتفاق يتيح توصيلها بأمان إلى غزة وإجلاء بعض الأجانب عبر معبر رفح إلى مصر.

وقال بلينكن للصحفيين في القاهرة، بعد محادثات مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، وصفها بأنها “جيدة جداً”: “قدمنا وقدمت مصر الكثير من الدعم المادي للمواطنين في غزة، وسيعاد فتح معبر رفح”، وأضاف: “نعمل بالتعاون مع الأمم المتحدة ومصر وإسرائيل وآخرين على وضع آلية لإدخال المساعدات وإيصالها إلى من هم بحاجة إليها”.

لكن انتهى يوم الأحد وجاء الإثنين 16 أكتوبر/تشرين الأول دون أن يتم فتح المعبر، رغم وجود تقارير إعلامية نقلت عن مصدرين أمنيين مصريين أن مصر وإسرائيل والولايات المتحدة اتفقت على وقف لإطلاق النار في جنوب غزة اعتباراً من الساعة 0600 بتوقيت غرينتش بالتزامن مع إعادة فتح معبر رفح الحدودي. وأضاف المصدران أن وقف إطلاق النار سيستمر لعدة ساعات لكن دون توضيح مدة محددة. وأضافا أن الدول الثلاث اتفقت على استمرار فتح معبر رفح حتى الساعة 1400 بتوقيت غرينتش ليوم واحد بشكل مبدئي، بحسب رويترز.

لكن مصدراً أمنياً وآخر من منظمة غير حكومية في مدينة العريش بمصر قالا لرويترز أيضاً إن شاحنات المساعدات لا تزال منتظرة في المدينة بعد الساعة السادسة بتوقيت غرينتش. وأظهرت صور التقطتها رويترز الشاحنات في انتظار التصريح لتنطلق في رحلة تستغرق ساعات إلى رفح.

لماذا فشل بلينكن فشلاً ذريعاً؟

عاد بلينكن من القاهرة بخفي حنين، لكنه لم يغادر إلى واشنطن بل عاد أدراجه إلى تل أبيب، فيما يبدو أنها محاولة أخرى لإقناع حلفائه الإسرائيليين بالرضوخ للمطالب المصرية وإدخال المساعدات مقابل خروج الرعايا الأمريكيين من معبر رفح.

ويثير هذا الفشل الذريع لوزير الخارجية الأمريكي في تحقيق أي من أهداف زيارته إلى المنطقة العربية سيلاً من التساؤلات بطبيعة الحال حول فقدان الولايات المتحدة لنفوذها في الشرق الأوسط من جهة وعدم رضوخ كثير من الدول العربية للضغوط الأمريكية من جهة أخرى، وكلا الأمرين يبدو تحولاً استراتيجياً في المشهد السياسي في المنطقة.

وربما يكون بلينكن نفسه ورئيسه بايدن قد ساهما بشكل مباشر في إفقاد الولايات المتحدة كثيراً من نفوذها في المنطقة وأوراق الضغط التي كان يمكن أن توظفها في هذه الأزمة غير المسبوقة في طبيعتها، وذلك من خلال الموقف الداعم بشكل غير مسبوق أيضاً لإسرائيل؛ الطرف المعتدي في جميع الأحوال.

فطوفان الأقصى عملية عسكرية خططت لها ونفذتها حركة المقاومة الإسلامية حماس رداً على ما تقوم به حكومة نتنياهو الحالية، التي توصف أمريكياً بأنها الحكومة الأكثر تطرفاً في تاريخ الدولة العبرية، إلا أن الموقف الأمريكي جاء متبنياً للموقف الإسرائيلي بصورة فجة ومثيرة للاشمئزاز من وجهة نظر الفلسطينيين والعرب بطبيعة الحال.

من إرسال حاملات الطائرات إلى المنطقة وإرسال المساعدات العسكرية لتل أبيب إلى ترديد الأكاذيب الإسرائيلية بشأن استهداف المقاومة الفلسطينية للرضع، وهي الأكاذيب التي تراجع عنها الإعلام الغربي المنحاز لاحقاً، إلى إعطاء الضوء الأخضر لآلة القتل والتدمير الإسرائيلية لتعصف بقطاع غزة المحاصر وتهدم مبانيه فوق رؤوس ساكنيها وتقصف أسواقه وشوارعه وأراضيه الزراعية، فكيف توقع بلينكن أن يحقق هدف زيارته الرئيسي وهو إقناع الزعماء العرب بإدانة المقاومة الفلسطينية؟

اترك تعليقا