المعهد العراقي للحوار
مؤسسة فكرية بحثية، تعنى بالدراسات والتخطيط الستراتيجي، تأسست بعد التغيير في عام 2003، لتقوم بمهمة صناعة القرارات وتحضير الخيارات وبدائلها من خلال الرصد المكثف للأحداث وتطوراتها وعرضها على المختصين ومناقشتها من خلال ندوات و ورش عمل وطاولات بحث مستمرة

عام جديد في طريق التحوّلات الاستراتيجية

تحولات كثيرة يشهدها العالم، سوف تكون ملامحها أكثر وضوحاً في العالم الجديد. من التنافس الأميركي الصيني في أقصى الشرق، إلى المساحة الملتهبة بين روسيا والناتو في أوروبا الشرقية والبحر الأسود، وصولاً إلى الأحلاف المتشكلة شرقاً وغرباً، وصعود القضايا الإقليمية المفتاحية في اتجاهات العلاقات الدولية المعاصرة، كالملف النووي الإيراني، والأمن في شبه الجزيرة الهندية، وفي حوض النيل، وغاز المتوسط، واستمرار الجرائم الإسرائيلية.

سرعة التحوّلات

مع نهاية العام 2021، يقترب العالم أكثر من انقضاء الربع الأول من القرن الأول في الألفية الثالثة. عقدان مرّا، وزاد عليهما عام كامل. ربما يكون ذلك ضئيلاً قياساً على طول التاريخ وتحولاته البطيئة، لكن الزمن الحالي مختلف تماماً من ناحية سرعة أحداثه وتبدّل حقائقه، وغربة إنسانه عن معاني هذه التحولات، على الرغم من غرقه حتى جمجمته في دفقٍ هائل من المعلومات عن هذا العالم.

في السياسة الدولية، سيطرت الولايات المتحدة على النظام الدولي في التسعينيات من القرن الماضي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي السابق. وكانت هذه السيطرة مختلفة من حيث حجم القوة التي تمتلكها الإمبراطورية المسيطرة عن أي مرة أخرى في التاريخ. لقد توافر لواشنطن مقدار من القوى العسكرية والاقتصادية والسياسية والدبلوماسية، الخشنة منها والناعمة، ما لم تحظَ بمثله مملكة في أي وقتٍ سابق. لكن هذه السيطرة المطلقة كانت هي الأخرى ضحيةً لسرعة العصر وتبدلاته وغربة ناسه عنه، وتدهورهم في تياراته.

بسرعة مضافة، وبعد سنوات قليلة، غرقت واشنطن نفسها في حروب العصر الجديد، في العراق وأفغانستان، وانفجرت في وجهها إحدى قنابل الرأسمالية المتوحشة في العام 2008، ثم سارت في مسار الخوف الذي سلكته كل الإمبراطوريات السابقة في أوقات التراجع الاستراتيجي، وسادت بين حزبيها القائدين دينامية تنافس جديدة سِمَتها التوتر والتخبّط، أو ما يمكن وصفه بتنافس التائهين، بدلاً من تنافس المترفين على قيادة إمبراطورية العالم.

ومع التحولات التي شهدتها السنوات الأخيرة، وردّ الفعل العنيف المعتاد للإمبراطوريات المتراجعة، والخائفة من تراجعها، والذي تمثل في هذه الحالة بانتخاب دونالد ترامب ليعيد “أميركا عظيمة مجدداً”، كان العالم يتغيّر من حول الجميع، وكانت قوى جديدة تدخل ساحة التنافس العالمي، معلنةً أنها تريد عالماً متعدد الأقطاب، وأنها لن تقبل بعد الآن بعالم تقوده حضارة واحدة، وتيارات محددة ضمن هذه الحضارة، ورؤية اقتصادية – سياسية واحدة، تصوّر قيمها على أنها حتميات تاريخية لا نقاش فيها، وتختزل في الطريق إلى ذلك كل تراكمات المنتج الفكري والثقافي والاقتصادي والسياسي لمجتمعاتها، خصوصاً للشرائح التي لا تسير وفق الوصفة الموحدة للحضارة المسيطرة.

تراجع إمبراطوري ومقاومة مستميتة

تطورت محددات القوة في العلاقات الدولية خلال السنوات الأخيرة، وظهرت قبيل الأزمة المالية لعام 2008 تشكّلات جديدة في النظام الدولي، بدءاً من إرهاصات انهيار الأحادية القطبية المرافقة للأزمة، ثم ما تبعها من تعبيرات للقوى الصاعدة – والأخرى العائدة – عن نفسها كقوى تطلب التأثير والدور في الأزمات الدولية. ففي مؤتمر ميونخ للأمن عام 2007، ارتفع صوت الرئيس الروسي فلاديمير بوتين معلناً عودة بلاده إلى المطالبة بنظام دولي جديد، عماده التعددية القطبية، وأن هذا الهدف سيكون الهدف الأساس للقوة العالمية العائدة، متسلحةً بانتعاش مسارين متوازيين، الأول خطة تعزيز الصناعات العسكرية الروسية منذ العام 2003، والثاني ارتفاع أسعار الغاز في الأسواق الدولية، الأمر الذي شكّل مفاجأة آنذاك لمتابعي المؤتمر.

وبنمطٍ تصاعدي مستقر، استمرت روسيا في التعبير عن هذا التحول في استراتيجيتها للأمن القومي 2012 – 2020، بالتوازي مع زلزال جيوسياسي شرق – أوسطي تَمثّل في فوضى “الربيع العربي”، وما رافقها من فرصٍ وتحديات للقوى الدولية والإقليمية، وتشابكات السياسة والمصالح الاقتصادية، وإعادة رسم خريطة المصالح المستقبلية في المنطقة.

ففي هذه المنطقة، تطورت أدوار قوتين إقليميتين أساسيتين هما تركيا وإيران، وزاد تأثيرهما في محيطهما، بينما تراجعت قوى أخرى، وغرقت قوى ثالثة في أزماتها الداخلية ومحاولات الخروج من مأزق الحقائق الجديدة التي تولدت بفعل هذا الزلزال الكبير. وفي الصورة الاستراتيجية، أفضت هذه التطورات إلى دخول روسيا والصين كلاعبين عالميين من جديد، على طاولات الحلول لأزمات الشرق الأوسط.

وفي الشرق الأقصى، تراكمت الفوائض التجارية الصينية إلى حدودٍ هائلة، مكّنت بكين من تحقيق احتياطيات مالية غير مسبوقة، الأمر الذي فتح لها أبواب العالم للاستثمار في الاقتصاد الدولي، وفي اقتصادات الدول وقطاعاتها الحيوية، لكنها مع ذلك بقيت متحفظةً في تعبيرها عن الدور السياسي كقطب عالمي. هذا التحفظ لم يقِها من الوقوع في مرمى الرادارات الاستراتيجية الأميركية الباحثة عن القوى المنافسة للإمبراطورية المأزومة.

فحوّلت واشنطن استراتيجيتها ابتداءً من 2012 نحو الشرق، للتركيز على مواجهة صعود بكين، كهدف استراتيجي أول، سوف يحجز المرتبة الأولى في سلّم أولويات الإدارات الأميركية المتعاقبة، وسوف يشكل عنوان العقد التالي، حربٌ اقتصادية واستراتيجية احتواء، استباقاً للنيران المتوقعة من التنين، حين يحين وقتها.

بدأ انزياح في محور القوة العالمي باتجاه الشرق، بعد أن بقي على الدوام محصوراً في نصف الكرة الأرضية الغربي، الأمر الذي أدى إلى ازدياد قوة جذب الصراعات نحو الشرق، ومع انتقال محور الصراع إلى الشرق الآسيوي، أعادت القوى الطامحة إلى التأثير الدولي صوغ رؤاها الاستراتيجية بما يتناسب مع هذا التطور، حتى شكّلت هذه الرؤى الجديدة نسقاً يزداد حضوره ووضوحه تحت عنوان عريض وكبير: عصر الشراكات الاقتصادية والتحالفات الأمنية.

استراتيجية احتواء جديد

بعد رحيل دونالد ترامب عن الرئاسة في واشنطن، بقيت الحرب على الصين نهجاً أميركياً ثابتاً مع خلفه جوزف بايدن. الحكم استمرارية، ومواجهة الصين أولوية لا يختلف عليها الحزبان. ومع أن نهج ترامب قام على حرب العقوبات على القوى المنافسة، وعلى تلك المناهضة للسياسة الأميركية، إلا أن نهج بايدن أضاف إلى ذلك تشكيل تحالفات جديدة، شكلت انعطافة شديدة البروز باتجاه الدول التي تمتلك أدواراً وظيفية مفيدة في مواجهة الصين، إلى الحد الذي أحدث مفاجأة كبيرة للحلفاء الأوروبيين.

أطلقت واشنطن خلال السنة المنصرمة 2021 تحالف “أوكوس” مع بريطانيا وأستراليا، في سياق سياسة الاحتواء ضد الصين، في شراكة أمنية مواكِبة للأدوات الأخرى المتمثلة في العقوبات والضغوط السياسية وتحريك (أو التأثير بـ) الأزمات الداخلية والإقليمية. لكن معنى هذا التحالف لم يقتصر على غرض مواجهة بكين، بقدر ما يحدثه من ارتدادات على العلاقات الغربية-الغربية، وخصوصاً أنه أتى متلازماً مع قيام الدول الثلاث بالانقلاب على صفقة غواصات فرنسية لأستراليا، كانت تشكل مرتكزاً لاستراتيجية فرنسا في منطقة الهندو-باسيفيك. لكن بايدن كان يرى أن هذا التحالف يعبّر عن الإقرار “بالأهمية القصوى لضمان السلام والاستقرار في منطقة المحيطين الهندي والهادي على المدى الطويل”.

أحدث هذا التحول شرخاً في العلاقات عبر الأطلسي، فاستفزّ فرنسا وألمانيا، وعبّر عن نفسه بمواقف عالية النبرة، وبـتضامنٍ بين مختلف دول الاتحاد الأوروبي، إلى حد تفعيل البحث في إنشاء الجيش الأوروبي.

لمست الصين خطورة هذا التحالف الوليد، فقالت إن “التعاون بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في مجال الغواصات النووية يزعزع السلام والاستقرار الإقليميين بشكل خطير، ويكثّف سباق التسلح، ويقوّض الجهود الدولية نحو عدم انتشار الأسلحة النووية”، وخصوصاً أن تحالفاً آخر يضم إلى الحلفاء الثلاثة، كندا ونيوزيلندا، ضمن ما يسمى “العيون الخمس”، الأمر الذي يجعل مساحة التحالفات الأميركية من هذا النوع محيطةً بجميع المحيطات، ليكون الضغط على الصين من جميع الجهات، باستثاء الشمال، حيث تغطي روسيا – الحليفة المستقرة – ومعها منغوليا كامل مساحة الحدود الشمالية للبلاد.

لكن الشمال أيضاً يتعرّض لوهج استراتيجية الاحتواء نفسها، إذ يواصل حلف شمال الأطلسي ضغوطه على روسيا من جهة الغرب، محاولاً إشغالها بمناوراته وتدريبات دوله المشتركة، والأزمات المتكررة بين موسكو وكييف تارةً، وبالتوترات المتقلّبة بين موسكو وأنقرة تارة أخرى، فضلاً عن الصراع الذي يشتعل ثم يخبو بين أرمينيا وأذربيجان.

وفي العام الجديد، من المتوقع أن يواصل “الناتو” ضغوطه على روسيا، كما يتوقع أن تتراكم ضغوط الشراكات القديمة والجديدة لواشنطن على بكين، إلى الحد الذي يجعل منه عاماً مليئاً بالتوترات الاستراتيجية بين هذه القوى الثلاث، بمشاركة عشرات الدول التي تدور في فلك هذه القوى المتصارعة ببرودة.

وفي حين تحاول واشنطن إكمال طوقها على بكين من خلال تحالف “كواد” الذي يضم اليابان والهند المحاذيتين للصين، بهدف إيجاد شركاء من أجل إقامة توازن مع قوة الصين، فإن الأخيرة ترى في ذلك مؤشراً على مواجهة استراتيجية خطرة تلوح في الأفق.

هدير القوى الصاعدة

على وقع ما سبق، تبني الصين وروسيا، ومعهما قوى إقليمية صاعدة جديدة، نموذجاً جديداً من الشراكات بصورةٍ تناسب مطالب هذه القوى من النظام الدولي الجديد. في صلب هذا التوجه الجديد، تدخل إيران إلى هذا المشهد من بوابةٍ جديدة تُضاف إلى البوابة الكبرى التي فتحتها في الشرق الأوسط، بحيث تطلّ في العام 2022 كقوةٍ إقليمية تفاوض العالم من موقع قوتها النووية من جهة، ومن موقفٍ معزز بانضمامها كعضوٍ مكتمل العضوية في منظمة شنغهاي للتعاون، إلى جانب الصين وروسيا والأعضاء الآخرين.

هذا التحول يكتسب معاني إضافية من خلال انضمام طهران إلى تفاعلات عالمية هذه المرة، بعد أن بقيت لسنوات طويلة في حدود القوة الإقليمية صاحبة المشروع الثوري. وتحوك بكين مع طهران شراكة اقتصادية استراتيجية، وتناغماً سياسياً يجري التعبير عنه في المفاصل الكبرى، حين تشتد وطأة التهديدات الغربية لطهران، أو حين يصل صراع غرف التفاوض إلى حدود انكسار طاولة البحث. هذه الشراكة وذلك التناغم مستمران بقوة في العام الجديد.

وإلى جانب ذلك، تطوّر طهران اليوم شراكة استراتيجية مشابهة مع موسكو، ليقترب الثلاثي من مرحلة متقدمة على طريق التنسيق الاستراتيجي المفتوح على احتمالات محورية واضحة المعالم، فيما لو شعرت هذه الدول بأن هذا النموذج يخدم توجهاتها الاستراتيجية في المواجهة مع واشنطن وحلفائها من جهة، وفي المواجهة مع التحديات المشتركة للدول الثلاث من جهة ثانية.

إن هدف منظمة شنغهاي، ومنذ تأسيسها، يتناغم مع أهداف روسيا والصين وإيران في ما يخص النظام العالمي، وهو “ضمان الأمن وتعزيز التعاون ليصل إلى بناء عالم متعدّد المراكز”. ففي الشرق اليوم، تجتمع هذه الدول الثلاث مع قوتين كبيرتين صاعدتين ونوويتين هما الهند وباكستان ضمن منظمة واحدة، وطموحات كثيرة قابلة للتطور. الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي يقول عن هذه التطورات المتعلقة بدخول بلاده إلى شنغهاي إن “العالم دخل حقبة جديدة. الهيمنة والأحادية إلى زوال. النظام العالمي بدأ شيئا فشيئاً يتَّجه نحو التعددية وإعادة توزيع القوى نحو الدول المستقلة”.

ومع عودة الزخم اليساري إلى البرازيل بعودة الرئيس السابق لولا دا سيلفا إلى السباق الرئاسي، فإن مجموعة القوى الصاعدة في “بريكس” ستطوّر حضورها المتناغم في سياق البحث عن دور في النظام الجديد. فمع الهند وروسيا والصين، تشكل البرازيل فيما لو استعادت الزخم المذكور، قوة إضافية ساعية إلى الانعتاق من الأحادية القطبية.

هي أهداف وتطلعات بعيدة واستراتيجية للقوى المختلفة، لا يتسع لها عام واحد، لكن العام 2022 سيكون عاماً مليئاً بمظاهر هذه التحولات الكبرى، التي تقود باتجاه عريض يتعاظم يوماً بعد يوم، قوامه أن صراع القوى الشرقية، ومعها قوى أطراف العالم، على الحضور والتأثير في النظام الدولي، هو صراع محتوم وضروري لأمن هذه الدول ووحدتها، خصوصاً مع متابعة وسائل الردع الغربية في مواجهة ذلك، وهي العقوبات، والحروب الاقتصادية، واللعب بالأمن الداخلي والإقليمي للدول، والتهديدات العسكرية المستمرة. هذه كلها تتحول إلى حوافز للتعاون في مواجهة الهيمنة الأحادية.

لـ محمد سيف الدين

اترك تعليقا